السبيل إلى إنهاض المسلمين

هوية الکتاب

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

الطبعة الأولى للناشر/ 1425ه 2004م

دار صادق للطباعة والنشر

كربلاء المقدسة/ العراق

الطلیعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين

إلى قيام يوم الدين

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

يعتبر افتقاد عنصر التنظيم باباً رئيسياً تدرج في حيثياته وتفاصيله الأسباب التي أدت وما زالت تؤدي إلى ضعف واضمحلال الحالة الإسلامية خلال القرن الأخير.

وكما أن افتقاد هذا العنصر هو السبب الرئيسي لما تعانيه الحالة الإسلامية اليوم، كذلك يجب أن تنطلق الحلول المطلوبة لمواجهة حالات الاضمحلال والضعف الحالية من هذا الموقع، أي بإيجاد حالة متماسكة ومتكاملة من التنظيم.

ليس المطلوب بالطبع إيجاد أسس تنظيمية، فإن مثل هذه الأسس موجودة في القرآن الكريم، وفي تراث رسول الله صلي الله عليه و اله وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام، إنما المطلوب هو أن يتصدى المطّلعون والمتفهمون للقرآن الكريم ولتراث أهل البيت عليهم السلام لمهمة ترسيم الخطوط التنظيمية للعمل الإسلامي، وفق مفاهيم وآليات العمل الحديثة، كما يفترض في مثل هؤلاء أن يكونوا ذا خبرة في مجال العمل الميداني في الدعوة إلى الإسلام.

والمرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمة الله عليه كان من تلك القادة الكفوئين المؤهلين لإيجاد مثل هذا الترسيم المطلوب، فمجموعته الفقهية التي بلغت مجلداتها 160 جزءً تشهد له بسعة الاطلاع، وكذلك مؤلفاته القيمة التي تجاوزت 1300 بين كتاب وكراس.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن آثاره الميدانية في مختلف المواقع التي كان يتواجد عليها، أو التي كانت تتواجد له، فيها ممثلون تدل دلالة واضحة على علو همته من جهة، ومن جهة أخرى تدل على اكتسابه خبرة عبر عقود من سنيّ العمل الجهادي الميداني.

هذا الاطلاع وتلك الخبرة صاغها الإمام الشيرازي رحمة الله عليه في كتابه الذي بين يديك كمنهج عمل إلى

الله عزوجل وترسيخ دعائم الالتزام والإيمان عند المسلمين.

إننا لا نقول بالطبع إن هذه يجب أن تكون الأطروحة الأولى والأخيرة في هذا المجال، ولكننا نتمنى أن تكون هذه الأطروحة منطلقاً لأطروحات أخرى يتقدم بها رجال الفكر الإسلامي، وأن تتكامل هذه الأطروحات ويعزز بعضها بعضاً، ويقوي بعضها بعضاً، وصولاً إلى الصيغة الأمثل لمشروع نهضة إسلامية حديثة نحن بأمس الحاجة إليها.

الناشر

القسم الأول شؤون الحركة الإسلامية وأسسها الستة

الأساس الأول: التوعية

1 إلى حكومة ألف مليون مسلم(1)

إقامة الحكومة الإسلامية الواحدة هو الحلم الذي كان يرفرف على أذهان جماهير الأمة الإسلامية على مدى التاريخ، وهو الهدف السامي العظيم الذي أريق على مذبحه دماء ملايين الشهداء في البلاد الإسلامية وغيرها، وإقامة الحكومة الإسلامية الواحدة هو الشبح الذي أرّق ليل الجبابرة، وجعلهم يجنّدون كل طاقاتهم للحؤول بين المسلمين وبين هذا الهدف، فما هي الأسس والمقومات التي تقوم عليها هذه الحكومة؟ وكيف يجب العمل لإقامتها؟ سنجيب على هذين السؤالين بشيء من التفصيل بإذن الله.

يجب علينا أن نعيد الحكومة الإسلامية الواحدة التي أسسها رسول الله صلي الله عليه و اله، فقد ذكر المؤرخون أن النبي صلي الله عليه و اله استطاع في زمان حياته الشريفة أن يوحّد بين حكومات الجزيرة العربية (مكة، يثرب، والطائف) وما أشبه، ثم اليمنين والبحرين وأخيراً الكويت(2) والخليج. وقد سار المسلمون بعد رسول الله صلي الله عليه و اله على هذا المسير نفسه، فكانت الدولة الإسلامية في أيام الحاكمين الأولين وفي أيام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حكومة واحدة. وقد كان تحت نفوذ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من خمسين دولة من هذه الدول الموجودة على الخارطة اليوم، على ما ذكره البعض.

إن هذه الحدود الجغرافية الحالية هي حدود مصطنعة كوّنها الجهل الداخلي والاستعمار الخارجي، فأي معنى لأن توضع الحدود أمام المسلم وهو في

بلده الوطن الإسلامي الكبير؟ أليس هذا خلاف قول الله تعالى:* إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً* (3).

إذن من الضروري أن تتظافر الجهود لأجل إسقاط هذه الحدود وهذه القوانين المصطنعة، التي تفرّق المسلمين بعضهم عن بعض، حتى تتوحّد بلاد الإسلام كما كانت، فيكوّن الألف مليون مسلم لأنفسهم حكومة واحدة. وليس هذا أمراً مستغرباً، ففي الصين الشيوعية كانت هناك سابقاً حكومات عديدة، لكنها تمكنت وتحت قوانين وضعية أن توحد بلادها في دولة واحدة ذات ألف مليون نسمة.

أما نحن فنريد توحيد البلاد الإسلامية تحت ظل القوانين الإلهية حتى تكون بلداً واحداً، فيسير المسلم من (طنجة) إلى (جاكرتا) ومن (دكا) إلى (طرابلس) وهكذا، ويشعر بأنه في بلده. ولا ترفع أمامه في كل بلد حدود استعمارية وقوانين جاهلية وضعية.

أما كيف يتم التوصّل إلى هذا الهدف الكبير؟. فالجواب بما يلي:

أولاً: بالتوعية الإسلامية الواسعة النطاق على صعيد الأمة كلها حتى يعي المسلم وظيفته، وذلك بطبع ونشر ما لا يقل عن ألف مليون كتاب توعوي، اقتصادي، سياسي، اجتماعي، تربوي، عقائدي...

ثانياً: بالتنظيم، بأن ننظم ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم، لأن المسلمين ألف مليون نسمة، فيكون في دائرة توجيه كل شخص منظم خمسون إنساناً مسلماً.

وبهذين الأمرين نتمكن من إعادة الحكم الإسلامي والذي قوامه أمران:

الأمر الأول: أن تكون كل القوانين مستقاة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

الأمر الثاني: أن يكون الحاكم الأعلى للدولة إنساناً مرضياً لله سبحانه، وذلك بأن تتوفر فيه شروط القيادة الإسلامية، ويكون منتخباً من قبل أكثرية الأمة كما دلّت على ذلك الآيات والروايات.

2 الأمة: بين المأساة والعلاج

يبلغ عدد المسلمين حسب بعض الإحصاءات ألف مليون(4)، لكنهم مبعثرون جغرافياً وإقليمياً ولغوياً، ويعيشون تحت سيطرة الاستعمار والاستغلال. أما قوانينهم فقد

أصبحت وضعية بعد ما كانت إلهية، وإنما أصابهم هذا التبعض والتشتت لعدم اتخاذهم الإسلام منهجاً عملياً في الحياة، وقد صدق الله سبحانه وتعالى حيث قال: *وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ* قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ*(5).

إن الاصطدام بسلسلة من المشاكل هو النتيجة الطبيعية للذين يعرضون عن ذكر الله ولا يطيعون أوامره في الدنيا، وفي الآخرة الخسران المبين، وقد رأينا قصة المسلمين في الدنيا بأُم أعيننا، فالمسلمون قد تشتتوا وتفرّقوا وصاروا طرائق قدداً، ونصبت الحدود المصطنعة بين بلادهم، فبينما كان المسلم أخ المسلم أصبح عدواً له *يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُوْلِي الأبْصَارِ*(6) نزلت هذه الآية في شأن الكفار، أما الآن فقد صارت منطبقة على المسلمين، وها هم المسلمون متأخرون في كل مكان، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وما الحرب العراقية الإيرانية التي شنها حزب البعث ضد الأمة في العراق وفي إيران إلا لعبة استعمارية راح ضحيتها الشباب العراقي المسلم والإيراني المسلم، وقد بلغ عدد من قُتل من الجانبين حسب بعض الإحصاءات أكثر من مائتي ألف. لماذا يحدث هذا؟

والجواب: إن البعث هو الذي أشعل هذه الحرب وأمريكا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين يدعمونه ويمدونه بالخطط والأساليب والمال والسلاح.

ولكن: ما هو موقعنا نحن؟!، لماذا تنتهك أعراضنا؟، لماذا تُهدم بلادنا؟، لماذا تُصادر أموالنا؟، لماذا تُصرف أموالنا في شراء السلاح وفي سبيل القتل وإراقة الدماء؟

قبل زمن ليس بالبعيد نشأت حرب بين الإخوة الأكراد والعرب. (الحرب العراقية العراقية) وقد دامت ما يقارب عشرين سنة، وإلى الآن!! ولكن: لماذا حدثت هذه الحرب؟ هنالك فئات تؤمن بالقومية، والقومية ليست من الإسلام،

وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: *من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا*(7).

فالافتخار بالقوميات، أو بالقبليات، أو بالإقليميات، أو باللغات، هذه كلها أعمال جاهلية، القومية ليست إلا ديدن أبي جهل وأبي لهب وكفار الجاهلية، فلماذا اتخذهم قسم من المسلمين شعاراً ومنهجاً؟. القومية العربية التي دامت إلى الآن، القومية الفارسية في زمان الشاهين، القومية التركية في زمان أتاتورك، القومية الكردية، وإلى آخر القوميات، هذه القوميات هي التي سببت ضياع فلسطين.

قتلونا في فلسطين، ولبنان، ومصر، والأردن، والجزيرة العربية، فإن البريطانيين وعملاءهم، قتلوا في وجبة واحدة في أطراف الجزيرة العربية أكثر من مائة وخمسين ألف إنسان مسلم.. وقتلونا في الفليبين، وكشمير، وإريتريا، والأوغاوين، وبورما، والباكستان الشرقية والغربية يوم انفصال الباكستان شرقها عن غربها ، وقتلونا في اليمن وشطروها نصفين.

منذ قرن ونحن نُقتل ونسجن وتهتك أعراضنا، لماذا؟

لاحظوا البلاد الأوروبية الشاسعة والتي يبلغ نفوسها ما يقارب ستمائة وخمسين مليون نسمة، فمنذ أربعين سنة لا توجد فيها حروب ولا انقلابات عسكرية، والحروب والانقلابات تقع بكثرة في البلاد الإسلامية، وهي ليست إلا أحابيل المستعمرين والمستكبرين، فقد جاؤوا إلى بلادنا لتقطيعنا وتمزيقنا ونهب خيراتنا وسفك دمائنا وتعذيبنا في السجون والمعتقلات.

والآن: يوجد في سجون البعث في العراق أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان مسلم يرزح تحت نير ظلمهم، فيهم الشيخ المسن والعجوز المسنة والشاب والشابة والطفل والطفلة!

كيف حدث هذا؟ هل لحزب البعث هذا الحق؟ وبأي حق جاؤوا إلى الحكم؟، نعم بحق الدبابة والقوة! فعل حزب البعث كما يفعل اللص وقاطع الطريق، إنه يسحب مسدسه عليك ويأمرك بنزع ملابسك وإخراج أموالك ويستولي على مقدراتك، والشيء نفسه فعله حزب البعث، فقد جاؤوا في منتصف الليل بتخطيط من أمريكا وبريطانيا وإسرائيل

معاً. إن إعراضنا عن الله وعن قوانين الله وعن توحيد المسلمين سبب هذه المشاكل، ولا علاج إلا أن نرجع إلى حكم الله سبحانه وتعالى، لتوحيد المسلمين وإقامة حكومة ألف مليون مسلم، لا حدود بينها ولا سدود ولا قيود ولا شروط.

يجب أن تكون البلاد الإسلامية موحدة، والوحدة الإسلامية لا تتحقق في الواقع الخارجي إلا بعد شعور وحدوي في أعماق نفوس المسلمين، فالأمة واحدة والرب واحد والكتاب واحد والنبي واحد والشريعة الإسلامية قائمة على الكتاب والسنة، وعلينا أن نتبعها حق الإتباع، وليس الإسلام منحصراً في الصلاة والصيام وتعمير المسجد وما أشبه فقط، بل هذه أجزاء من الإسلام، وهناك أجزاء أخرى منها توحيد البلاد الإسلامية تحت لواء واحد.

3 إعطاء الرشد الفكري للأمة الإسلامية

لقد ذكرنا فيما مضى ضرورة إقامة حكومة ألف مليون مسلم، ومثل هذا الحكم لايتحقّق إلا بإزالة الحدود الجغرافية واللغوية والقومية بعد أن تزال الحواجز النفسية، لأن هذه الحدود والفواصل الخارجية منبعثة في الحقيقة عن الحدود والحواجز النفسية: هذا عراقي، وهذا كويتي، وهذا مصري، وهذا إيراني، وهذا باكستاني، وهذا هندي، وهذا تركي.. كل هذا صحيح، لكن *لِتَعَارَفُوَاْ* (8) لا ليتناكروا!، يعني أن العراقي والإيراني كلاهما إخوة في كل شيء، والباكستاني والكويتي كلاهما أخوة في كل شيء، أما أن الباكستاني لا يدخل الكويت إلا بتأشيرة دخول وإجازة ودعوة وجواز.. وبالعكس، فهو الشيء الذي يخالفه الإسلام، كما يخالف الخمر والقمار والبغاء وغيرها من المحرمات، بل لعلّ هذا المحرم أشد من سائر المحرمات، لأنه يسبب تقاطع المسلمين وتدابرهم، ويسبب سيطرة الأجنبي عليهم كما سيطرت الشيوعية على أفغانستان وطاجكستان وأرمينيا وتركمنستان وأذربيجان وقرقيزيا وقازقستان، وسيطرت أميركا وإسرائيل وبريطانيا على الشرق الأوسط.

إن من الواجب أن نوحّد الجهود ونعيد وحدتنا ووحدة أمتنا. أما كيف ذلك؟ فبأمور، يأتي

في طليعتها: نشر الوعي الإسلامي، فمن الواجب على كل مسلم أن ينشر الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي والسياسي والشرائعي والاجتماعي والتربوي والعسكري والزراعي والصناعي والاستقلالي، في كل البلاد الإسلامية، بواسطة الإذاعات والصحف والمجلات والنوادي والكتب والمؤتمرات وغيرها.

إننا لو طبعنا ألف مليون كتاب ووزعنا هذه الكتب في كل هذه البلاد الإسلامية فستكون حصّة كل فرد مسلم كتاباً وحداً، وهذا أقل الواجب، فاللازم علينا أن نشمّر عن سواعدنا لطبع مثل هذا القدر من الكتب على أقل تقدير في سبيل التوعية.

هكذا تنشر الثقافات المنحرفة

لقد أذاع راديو إسرائيل إن الكتب التي وزعت داخل إسرائيل بلغت ما يقارب خمسة عشر مليون كتاباً في سنة واحدة(9)، ومعنى ذلك أن كل إسرائيلي حصل على ما يقارب خمسة كتب من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير، فإسرائيل تعطي لشعبها الفكر المنحرف الظالم، وتكرّس الجهود للمزيد من التسمّم الفكري والثقافي، فلماذا لا نفعل مثل ذلك بالفكر الواعي لأجل ألف مليون مسلم ونحن أصحاب حق؟

إن الإسلام يحرّض على الكتاب والكتابة والقراءة، وأول سورة نزلت في القرآن على المشهور سورة *اقرأ* وفيها القراءة والكتابة، وقد قال الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله: *طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة*(10)، وقال الإمام الصادق عليه السلام: *لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا*(11) والتفقه بمعنى التفهّم، وأحد جزئياته فهم الحياة. وفي حديث آخر للإمام الصادق عليه السلام: *العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس*(12)، واللوابس جمع لابسة أي: الأشياء المشتبهة والتي تسبب له انحرافاً وتحطماً.

فإذا طبعنا ألف مليون كتاب ووزعناها على المسلمين نكون قد قمنا بشيء من التوعية. قبل عدة سنوات كتبت بعض المجلات: إن الاتحاد السوفيتي طبع ووزّع في سنة واحدة فقط واحداً وعشرين ملياراً من

الكتب، وكانت نفوس العالم آنذاك أربع مليارات.

ولقد ترجم كتاب ماوتسي تونغ (الكتاب الأحمر) إلى أربعمائة لغة رغم عدم مرور حتى نصف قرن على تاريخ انتشار (الماركسية المادية).

وفي المقابل نرى أن القرآن الكريم ورغم مرور زهاء خمسة عشر قرناً على نزوله على نبي الإسلام صلي الله عليه و اله لم تتجاوز ترجماته ال(230) ترجمة، كما ذكره بعض المطلعين، لماذا تركنا التوعية في حين تمسك بها الآخرون؟.

لقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: *الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم*(13).

لقد تركنا توعية الناس ونشر المعارف الإلهية فتأخرنا، وقام المبطلون والمنحرفون بنشر أفكارهم فتقدموا، وتلك هي سنّة الله في الحياة.

إن التوعية والتثقيف لألف مليون مسلم هي إحدى الأسس الرئيسية في تحقيق حكومة الألف مليون مسلم، ولأهمية الوعي والرشد الفكري نجد الله سبحانه وتعالى يقول: *إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً*(14) فالله تعالى يعتبر إبراهيم عليه السلام أمة، والسبب هو رشده الفكري كما قال تعالى: *وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ*(15).

وفي سبيل إعطاء الرشد الفكري للمسلمين علينا بالجهاد، الجهاد بالقلم واللسان وبمختلف وسائل الإعلام العصرية المؤثرة، وهذا أفضل من الجهاد في المعركة، ولذا نجد الحديث الشريف يقول: *مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء* لماذا؟. إن السبب واضح، وذلك أن القلم واللسان هما اللذان يسببان تحرك الناس نحو الجهاد في ميادين القتال، إضافة إلى أنهما هما اللذان يحفظان الشريعة ويحافظان على مكتسبات الجهاد في المعارك..

إن مداد العلماء أمثال: الصدوق، المفيد، الكليني، المجلسي، المرتضى، العلامة، المحقق، الشهيدين، وغيرهم.. هو الذي أوصل إلينا تعاليم الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله وقوانين الإسلام ودساتيره، وهو الذي أوصل إلينا أنباء غزوات النبي صلي الله عليه و اله وجهاده، وأنباء ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده، إن

القلم والكتاب هو الذي حفظ لنا كل ذلك، وهو الذي أوصل الثقافة الإسلامية إلينا كاملة غير منقوصة.

وبعملية التثقيف الواسعة النطاق هذه نكون قد أدّينا بعض واجبنا الذي افترضه الله علينا، وخطونا الخطوة الأولى في طريق تحقيق الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة.

4 الحاكم الأعلى بانتخاب المسلمين

لكي تتحرّك مختلف فصائل الأمة نحو إقامة حكومتها الإسلامية الكبرى، ينبغي أن تكون على بصيرة من أمرها، وتعرف جيداً طبيعة الحكم والقيادة التي ستشرف على إدارة شؤونها وتقرر لها مصيرها، وتخطط لمستقبلها..

ومما يكشف عن أهمية هذا الأمر ما ورد في الحديث الشريف: *كانت الخليفة قبل الخليقة*(16) أي أن الله عيّن الخليفة قبل خلق البشرية. ومن الواضح أن إحدى أهم مهام الخليفة هو تطبيق حكم الله في الأرض وإقامة الحكومة العادلة.

والآن سنذكر جانبين من جوانب أسلوب الحكم الإسلامي:

أولاً: إن من الشروط الأساسية في الحكومة تحقيق الشورى والاستشارة في كافة المجالات، حيث قال الله تعالى: *وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ*(17). فرئاسة الحكومة تكون عبر انتخابات حرة ينتخب فيها الحاكم تبعاً لأكثرية الآراء، شرط أن تتوفر فيه المواصفات التي اشترطها الله سبحانه كالعدالة والاجتهاد في الأمور الدينية والاطلاع على شؤون الدنيا إلى آخر ما هو مذكور في كتب الفقه المفصلة.

وكذلك في كل إقليم وناحية من نواحي البلاد الإسلامية يجب أن ينتخب الناس مرجعاً يكون حاكماً لهم، فإقليم العراق، أو إيران، أو إندونيسيا، أو الباكستان.. إلخ، كل ينتخب حاكماً، ويجب أن يخضع حكّام البلاد الإسلامية للحاكم الأعلى الذي ينتخب أيضاً بأكثرية الآراء. ومن الضروري أن تجرى انتخابات عامة بين فترة وأخرى كل أربع أو خمس سنوات مثلاً لانتخاب الحاكم العام والحكام المحليين حسب رأي الأكثرية أيضاً..

فإذن.. الحكم في الإسلام ليس وراثياً دكتاتورياً، كما أن الحاكم الذي يأتي

إلى الحكم عبر انقلاب عسكري مرفوض من قبل الإسلام حتى لو كان الحاكم مسلماً، إذ الإسلام يشترط آراء الأكثرية، هذا إضافة إلى أن الاستقراء أثبت لنا أن كل الذين قاموا بانقلاب عسكري في البلاد الإسلامية كانوا مرتبطين أو ارتبطوا فيما بعد بالقوى الاستعمارية. ومما يؤيد ضرورة ولزوم كون الحاكم منتخباً بأكثرية الآراء حديث سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث أوجب عليه السلام على المسلمين عند ما يموت إمامهم أو يقتل ظلماً أن لا يعملوا عملاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء وبالسنّة يجبي فيئهم ويقيم حجهم ويجمع صدقاتهم(18)، إلى آخر الخبر.

وقد ورد مثل هذا الحديث أيضاً عن الإمام الرضا عليه السلام باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

إننا إذا أعطينا هذا الوعي للمسلمين فإن الحكومات العسكرية والوراثية وغير الاستشارية ترفض تلقائياً، والموجودة منها سوف تزول طبيعياً.

ثانياً: من الضروري توحيد البلاد الإسلامية كلّها تحت لواء حكومة إسلامية واحدة ذات ألف مليون مسلم.

والسؤال هو: ماذا نصنع بالرؤساء الحكام حالياً؟

والجواب: نصنع بهم كما صنع رسول الله صلي الله عليه و اله بأهل مكة بعد الفتح.

فالحكام لو كان فيهم من تجتمع فيه الشروط ورضيت به أغلبية الأمة يتحتّم إقراره في منصبه، وإن لم يكن كذلك عادوا أفراداً عاديين ولا يتعرض لهم. إذ *الإسلام يجبّ ما قبله*(19)، ولذا نجد الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله عندما فتح مكة عفا عن حكامها ومجرميها ولم يؤاخذهم بما سبق منهم، فقد عفا عن أبي سفيان وصفوان وغيرهما، وأصدر قراراً عاماً: *اذهبوا فأنتم الطلقاء*(20). وهكذا لم يقتل النبي صلي الله عليه و اله أحداً ولم يسفك الدماء ولم يصادر الأموال ولا.. ولا..

كل ذلك أوجب استقرار حكومة النبي صلي الله عليه و اله فعندما أراد صلي الله عليه و اله مغادرة مكة، عيّن عتاب بن أسيد وهو شاب عمره زهاء العشرين سنة! حاكماً على مكة عاصمة التحركات المناهضة للنبي صلي الله عليه و اله أكثر من عشرين سنة!، ولم يجعل معه حرساً ولا شرطة ولا أجهزة ولا مخابرات ولا أي جهاز عسكري أو إرهابي آخر، ثم غادر النبي صلي الله عليه و اله مكة ولم تحدث فيها أية اضطرابات حتى توفي النبي صلي الله عليه و اله(21).

فكيف استطاع شاب واحد أن يحافظ على استقرار عاصمة استراتيجية كمكة المكرمة؟ أليس ذلك لسياسة (اللاعنف) التي اتخذها النبي صلي الله عليه و اله تجاه أهل مكة؟

إذن على أصحاب الأقلام والمفكرين أن يعطوا للناس الوعي بضرورة كون الحكومة استشارية، ووجوب إقامة حكومة عالمية واحدة، ولزوم اتخاذ سياسة اللاعنف في كافة المجالات.

5 صياغة الذهنية الإسلامية

لبناء الشخصية الإسلامية ثقافياً نمر بمرحلتين طبيعيتين هما: الهدم أولاً.. والبناء ثانياً.. فالمرحلة الأولى هي تحطيم الثقافات الاستعمارية الغازية، وهدم البنى الفكرية المستوردة.

وهذا يعني معرفة الأمراض الكامنة في جسد الأمة الإسلامية، ومعرفة كيفية تحقق الهيمنة الاستعمارية علينا، وما هي خططه ومؤامرته التي يحركها ضد الإسلام من وراء الكواليس؟، وذلك لأن الإنسان ما لم يعرف المرض لا يستطيع معرفة العلاج، وكذلك علينا معرفة أسباب تخلّفنا، وعلل استعمارنا واستغلالنا وعوامل سيطرة الديكتاتوريين والعملاء علينا، وأسباب تبعض المسلمين وتشتتهم إلى دويلات متناحرة؟ ولمعرفة الحلول والأجوبة علينا أن نعرف السياسة الإسلامية، كيف هي وكيف تطبق في الظروف الحاضرة؟ الاقتصاد الإسلامي والاجتماع في الإسلام، والزراعة، والتجارة، والصناعة، والجيش، والحرب، والسلم، والعلاقات الدولية، والأحلاف، والمعاهدات، وتحقيق الحرية، وتوزيع القدرات في مراكزها الطبيعية؟ ذلك أن

لكل واحد منها أسلوباً وطريقة خاصة في الإسلام يجب معرفتها ثم معرفة كيفية تطبيقها في الزمن المعاصر.

ومنذ أكثر من قرن وحتى الآن قامت جهات إسلامية عديدة لأجل إعادة الإسلام إلى الحياة، كحركة السنوسي في ليبيا، والمهدي في السودان، وجمال الدين الأسد آبادي، ومحمد عبده، والمجدّد الشيرازي، والآخوند الخراساني، والإمام ميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين وغيرهم كثيرون. ولكن ومع الأسف الشديد لم يتمكنوا من إقامة الحكومة الإسلامية الواحدة، وعاد المسلمون عبيداً بأيدي الشرق والغرب، فلماذا كان ذلك؟

إن السبب كما تدل عليه جملة من القرائن هو أن الأمة كانت تعتمد على الجزء السلبي فقط، أما الجزء الإيجابي في طرح برنامج بديل متكامل فلم يكن مطروحاً عندها، أو كان مطروحاً ولكن لم يخرج إلى حيز التنفيذ. وهذا ما يجب أن نتداركه في حركتنا الإسلامية العالمية القادمة. فالواجب معرفة الجزء الإيجابي أيضاً، والذي هو عبارة عن: كيفية الحكم في المستقبل وفقاً للمقاييس الإسلامية.

ومن الضروري نشر هذا الوعي بين الجماهير عبر مئات الملايين من الكتب التي تضع بديلا متكاملة جوانبه، محددة برامجه، واضحة معالمه، بينة أساليبه وأهدافه..

وما لم نفعل ذلك سوف تتكرر المأساة مرة أخرى.

وهذا مثال حي يوضح لنا ذلك، فالمسلمون هم الذين تحركوا وكانوا السبب في إسقاط الحكومة الأموية، فلماذا لم يقع الحكم في أيد أمينة؟ بل استلم أزمة الحكم ثلّة من العباسيين الذين قاموا بالجرائم ذاتها التي كان يرتكبها الأمويون؟ السبب في ذلك أن المسلمين لم يكن لديهم وعي إسلامي كامل، فتصوّروا أن أبا مسلم الخراساني وأبا سلمة الخلاّل والمنصور والسفاح وأشباههم لو استلموا الحكم فستمطر السماء ذهباً، ولم يفكروا أن الخلافة من حق الإمام المعصوم عليه السلام وهو أجدر الناس بها،

فكيف يسلمونها لغيره؟

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: لم يفكروا أن القدرات لو تجمعت بيد شخص واحد أو حزب واحد أو عائلة واحدة لاستأثروا بها ولأسكرتهم كما أسكرت الذين من قبلهم، قال الله تعالى: *إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ* أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ*(22) وورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: *من ملك استأثر*(23).

هؤلاء نسوا الإمام المعصوم عليه السلام ونسوا أساس الشورى الذي قرّره الله بعد الإمام فاستلمت الحكم مجموعة أضاعت مكاسب الثورة كلها.. ثم بعد ذلك عندما تبين لهم انحراف السلطة العباسية لم يقاومها الأكثرون، أليس ذلك لعدم الوعي؟، ونتيجة لاستفراد العباسيين بالحكم وديكتاتوريتهم بدأت التصفيات الداخلية شديدة وعنيفة بينهم، حتى أن أبا مسلم الخراساني قائد الثورة ضد الأمويين لم يسلم منها، ولقد عرف أبو مسلم ذلك فقال: إن مثلي والخليفة العباسي كمثل عابد رأى عظام أسد بالية فدعى الله أن يحييه مرة أخرى ولما استجاب الله دعاءه وأعاده حياً قفز الأسد على العابد ليفترسه فقال له العابد: أتفترسني وأنا الذي طلبت من الله إحياءك؟ فأجابه الأسد: إنك كما أحييتني تستطيع بدعاء واحد أن تميتني، ولذلك فضلت قتلك قبل أن تقتلني..

ويستمرّ أبو مسلم قائلاً: إن الخليفة العباسي يفكر التفكير ذاته، فأنا الذي قمت بالثورة وجئت به إلى كرسي الخلافة ولعلّي أستطيع أن أقوم بثورة أخرى ضده وأطيح به، لذا يرى أن من الأفضل أن يقضي عليَّ قبل أن أقضي عليه!!

إن أكل الثورة لأبنائها طبيعي في حالة غياب الوعي الجماهيري وفي حالة عدم توزيع القوة وانحصارها بفئة واحدة.

إذن: يجب علينا:

أولاً: تحطيم الأنظمة الجائرة الحاكمة في بلادنا.

وثانياً: معرفة الطريق الطبيعي المؤدي إلى إقامة حكومة إسلامية مكانها وفق الأسلوب الإلهي، وأن نعرف كيفية تحقيق الحريات

فيها، والتقدم الصناعي والثقافي، ونعرف كيفية توزيع القدرات؟ وكيفية إحياء نظام الاقتصاد الإسلامي، الذي يغاير الاقتصاد الرأسمالي والشيوعي والاشتراكي والتوزيعي، وكيف نستطيع إزالة الحدود المصطنعة والجمارك؟ وكيف نتمكن من إسقاط الضرائب اللاإسلامية، وكيف نزيل الربا من البنوك عملياً دون أن تصاب البنوك باضطرابات مالية؟ وإلى آخر القائمة.. وإذا قمنا بذلك كله نكون قد قمنا ببند من بنود تشكيل الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة، وتبقى بنود أخرى سنتطرق لها في المباحث الآتية إن شاء الله.

6 نشر الوعي في البلاد الأجنبية

إن الاقتصار على تثقيف المسلمين المتواجدين في بلاد الإسلام فقط بالثقافة الإسلامية يؤدي إلى تحجيم الحركة الإسلامية وعدم توسعها، ومن هنا فإن من الضروري نشر الوعي الإسلامي المتكامل في البلاد الأجنبية أيضاً.

ويعتمد ذلك على دعامتين:

أ تثقيف المسلمين المتواجدين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام، وإعداد المسلمين في البلاد الأجنبية الكبيرة، ففي فرنسا يوجد ما يقارب أربعة ملايين مسلم، وفي ألمانيا أكثر من هذا الرقم، وفي الصين أكثر من مائة مليون مسلم، وكذلك في الاتحاد السوفياتي، وفي أمريكا ثلاثة ملايين من المسلمين السود، وأعداد كبيرة من غيرهم أيضاً، وفي بريطانيا ما يقارب المليون.. إلى غير ذلك.

ب إيصال صوت الإسلام إلى الكفار والمعادين للإسلام عبر محطات للإذاعة مخصّصة لهذا الغرض وبكل اللغات، وكذا عبر المجلات والجرائد والصحف وبكثافة كبيرة وكذا نشر الكتب التي تبين لهم ماهية الإسلام وأهدافه الإنسانية، وذلك لهدايتهم أو على الأقل للتخفيف من عدائهم للإسلام.

ذلك أن الدعايات الشيوعية والصهيونية والصليبية أثّرت على الكثيرين، وصوّرت لهم الإسلام ديناً وحشياً قاسياً، ولذا لا تقابل تحرّكات الحكومات الأجنبية ضد المسلمين حرباً كانت أو مجازر أو تصفيات أو غير ذلك بمخالفة تذكر من قبل شعوبهم، بل وتلقى التأييد

منهم على الأغلب .

إن الصهيونية تسيطر على أكثر من ألف جريدة خارج إسرائيل، بينها أمهات الجرائد العالمية وذلك أحد أسباب تمكّنها من كسب الرأي العام الغربي بل والعالمي إلى جانبها رغم كونها غاصبة ومحتلّة ورغم أن تعداد نفوسها لا يتجاوز العشرين مليون نسمة (أي نسبة 5% من المسلمين). ونحن رغم أن عددنا ألف مليون ورغم أننا أصحاب الحق الشرعي ورغم أننا حيثما وجدنا كنا مضطهدين محرومين مشردين، مع ذلك لا نحاول إيصال صوتنا إلى العالم بل لا نمتلك حتى جريدة واحدة واسعة الانتشار تعرف العالم على جانب من أفكارنا ومظلوميتنا!

لقد حرّض الإسلام على طلب العلم، يقول الله تعالى: *يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ*(24)، وقوله: *قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ*(25).

وفي الحديث: *مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء*، *قيمة كل امرئ ما يحسنه*(26)، *طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة*(27).

إضافة إلى ذلك فقد جعل الإسلام تعلّم بعض العلوم واجباً عينياً، والبعض الآخر واجباً كفائياً، والسؤال هو لماذا كل ذلك؟

إن من أسباب ذلك: رفع المستوى الفكري للمسلمين وجعلهم علماء في كافة المجالات حتى لا يكونوا عرضة للتمزق والتحطم إثر ضربات الأعداء وحتى يستطيعوا المقاومة أمام الأعداء، بل وجرّ الأعداء إلى صفوفهم أيضاً، إذ يكونون بأقلامهم مناراً للضالين وسراجاً للمسترشدين وضياءً للجاهلين، ذلك أن المسلم الجاهل لا يستطيع إقناع الآخرين بأفكاره عكس العالم العامل.

إذن من الضروري إعطاء الأجانب نظرة صحيحة عن الإسلام، ويتم ذلك عبر:

أ تثقيف ملايين المسلمين المقيمين في البلاد الأجنبية.

ب تأسيس وتكوين محطات الإذاعة والتلفزة، والمجلات والصحف.

ج تأسيس مؤسسات التبليغ الإسلامي في كل دولة أجنبية، وتكون مهمة كل مؤسسة تكوين فروع وممثلين عنها في

كافة أنحاء الدولة، ليكونوا على أقل تقدير ألف ممثل وفرع، مهمتهم بيع ونشر وتوزيع الكتب والمجلات. وإلى جانب ذلك يقومون بمهمة الاتصال بشعوب تلك البلاد ومثقفيها وتكوين علاقات معهم مقدمة لهدايتهم وتوجيههم.

وليس تحقّق ذلك خيالاً سوفسطائياً أو حلماً بعيداً عن الواقع، بل إنه أمر واقعي، ولكنه يحتاج إلى جهود مضنية قد تستمرّ عشرين سنة أو أكثر أو أقل حتى يتحقّق الهدف المنشود. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: *المرء يطير بهمته*(28). فإذا كنا من ذوي الهمم العالية والإرادات القوية فإننا سنصل إلى تحقيق أهدافنا السامية بإذن الله تعالى.

7 لماذا تحررت البلاد بالأمس وسقطت اليوم؟

الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة.

فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة تسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً، وعملياً، ونظرياً، وسلوكياً، والمسلمين في الصدر الأول تحلوا بهذه الثقافة فحرروا نصف الكرة الأرضية بعد أقل من ثلث قرن من بداية جهادهم المقدس في السنة الأولى للهجرة.

والمسلمون قبل ستة عقود وفي العراق بالذات امتلكوا قسماً من الثقافة عام 1918م 1920م حيث استطاع المسلمون العراقيون وعددهم لا يزيد عن أربعة ملايين نسمة وبقيادة آية الله العظمى الإمام الراحل الشيخ محمد تقي الشيرازي رحمة الله عليه الانتصار على أعظم إمبراطوريات العالم، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا)، القوة العظمى الوحيدة ذلك اليوم، فكيف استطاعوا ذلك؟

السبب هو أن ثقافتهم كانت ثقافة الدين والفضيلة والقرآن والسنة واتباع القيادة المرجعية، رغم أنهم لم يكونوا يمتلكون أسلحة حربية متطورة ولا أجهزة مخابرات حديثة، وإنما كانوا مجرد عشائر وقبائل لا حضارة حديثة لهم، ولكن الثقافة الإسلامية هي التي جعلتهم يقاومون ويقدمون الألوف من الضحايا في سبيل

دفع المعتدين، ثم بعد ذلك استطاع الإمام الشيرازي تشكيل الحكومة الإسلامية في كربلاء المقدسة، ولولا وفاة القائد لجرت الأحداث على غير ما جرت، ولكن وبعد مرور فترة زمنية استطاع العملاء كعبد الكريم قاسم وعبد السلام وعبد الرحمن عارف وأخيراً عفلق وحزب البعث من السيطرة على هذا الشعب وسومه سوء العذاب *يُذَبّحُ أَبْنَآءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ*(29)! بكل صراحة ووضوح، فما السبب؟

السبب واضح: الأبناء ككل لم يسيروا على طريق الآباء، وكما قال الله تعالى *فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً*(30) وابتعدوا عن الثقافة الإسلامية وانغمسوا بالثقافة الاستعمارية، لذلك حلت الثقافة الاستعمارية محل الثقافة الإسلامية الأصيلة، ثقافة التحلل، ثقافة اللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية.

إن الآباء حاربوا بريطانيا لأن ثقافتهم كانت ثقافة إسلامية، بيد أن الأبناء ركعوا لها فما هو الفارق؟ إن الفارق هو أن الثقافة الاستعمارية استطاعت التغلغل في أذهانهم، وعندما تغيرت الثقافة تغير كل شيء.

ونحن لا نستطيع تحرير العراق، فلسطين، لبنان، أفغانستان... وكل الدول الإسلامية المستعمرة، إلا بتبديل ثقافة هؤلاء الرازحين تحت نير الظلم والاستبداد إلى ثقافة إسلامية أصيلة يتمسكون بها بقوة وصلابة وفي كل الظروف، وتحت أية ضغوط.

ونستطيع أن نعرف هذه الحقيقة من إحدى قضايا الإمام الشيرازي رحمة الله عليه في العراق إبان ثورة العشرين، إذ أنها تدلنا على الصلابة في التمسك بالثقافة الإسلامية وأهميتها في المقاومة:

القضية ينقلها رئيس بلدية البريطانيين في كربلاء، وكان مسلماً ولكن خدعه البريطانيون نتيجة قلّة وعيه السياسي والديني فقبل هذا المنصب من قبل الغزاة يقول: أراد كوكس الحاكم البريطاني العام في العراق زيارة الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد الثورة، ولكن الإمام الشيرازي رفض ذلك بشدة قائلاً: *ما دامت بريطانيا تستعمر العراق فلا أسمح

له بزيارتي* ورغم شدة الضغط الذي وجه للقائد الشيرازي كي يقبل بالزيارة لكنه رفض.

وأخيراً وبعد ما عجز كوكس عن الزيارة طلب مني والكلام لرئيس البلدية أن أذهب إلى دار الإمام الشيرازي ثم وبعد قليل يأتي هو (أي كوكس) ودون إعلام مسبق إلى الدار إذ لو علم الإمام الشيرازي لمنعه من الزيارة ودخول الدار.

يقول رئيس البلدية: ذهبت إلى دار الإمام فرحب بي وقدم الخادم الشاي لي، وبعد مدّة جاء كوكس وقلت للإمام الشيرازي بعجلة وارتباك: *لقد جاء كوكس الحاكم العسكري البريطاني العام*، وكنت أتوقع من الميرزا أن يحترمه ويقوم له، لكن الميرزا أطرق برأسه إلى الأرض، ودخل كوكس وجلس وتكلّم مع الميرزا بكلمات، لكن دون أن يسمع أي جواب، ودون أن يرفع الميرزا حتى بصره إليه، ومكث كوكس مدّة هكذا، حتى أن الخادم لم يأت له بالشاي!

أخيراً، قام كوكس وقد احمرّ وجهه خجلاً وامتلأ غضباً وذهب، فقلت للميرزا: يا شيخنا إني موظف بسيط عند هؤلاء في إدارة البلدية، ومع ذلك عندما جئت احترمتني ورددت سلامي وأمرت لي بالشاي، وعندما جاء كوكس وهو يمثل حكومة بريطانيا العظمى لم تعر له أي اهتمام، فلماذا؟

يقول رئيس البلدية: هنا رفع الإمام الشيرازي رحمة الله عليه رأسه وقال: يا فلان أنت رجل مسلم تشهد الشهادتين ولذا احترمتك رغم أن طريقتك خاطئة في قبولك هذا المنصب من قبل هؤلاء الكفار، ولكن كوكس رجل كافر أجنبي مستعمر، ولو كنت أعلم بأنه يريد المجيء لم أكن آذن له بالدخول في داري والجلوس على بساطي فكيف أرحب به؟!

نعم.. هذه الثقافة الرسالية الصلبة هي التي رسخها القائد في الشعب العراقي، وبهذه الثقافة استطاعوا دحر الأعداء وتسجيل تاريخ مشرق من البطولة والجهاد والنضال في

سبيل الله والاستقلال والحرية.

كانت هذه الثقافة هي التي طردت الإنجليز للمرّة الثانية من العراق إبان الحرب العالمية الثانية، وذلك بقيادة آية الله العظمى السيد حسين القمي رحمة الله عليه في كربلاء المقدسة، وآية الله العظمى السيد أبي الحسن الأصفهاني رحمة الله عليه في النجف الأشرف، وسائر العلماء الأعلام.

وكانت هذه الثقافة أيضاً هي التي طردت الإنجليز من إيران في ثورتي التنباك والمشروطة المشهورتين، وكذلك طردت الشاه وأسياده من البلاد.

إن الغربيين والشرقيين عرفوا أن سرّ هذه الثورات يكمن في الثقافة التي يحملها هؤلاء المسلمون، ولذا حاولوا تغيير هذه الثقافة، وبالفعل استطاعوا تبديلها إلى ثقافة استعمارية أو مخلوطة على أحسن الفروض، ولذا تسنّى لهم استعمار البلاد الإسلامية سنين طويلة وحتى الآن، واستطاعوا تقطيع البلاد الإسلامية، وفصل بعضها عن بعض بحدود مصطنعة، كما استطاعوا نسخ القانون الإسلامي وإبداله بالقوانين الشرقية أو الغربية..

إن الثقافة الإسلامية واضحة المعالم، وهي موجودة في الكتاب والسنة والكتب الفقهية والإسلامية بشكل متكامل، فإذا استطعنا إعادة هذه الثقافة وتعميمها فعندئذٍ نكون قد تقدمنا خطوة أخرى في طريق تحقيق الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة.

8 لنثقف المسلمين قبل أن يثقفهم غيرنا

إن التثقيف كما سبق أمر بالغ الأهمية، إذ أنه سبب التغيير إلى الأحسن أو الأسوأ.

وقد أغفل المسلمون أهمية التثقيف وتناسوه في الوقت الذي أدرك الغربيون والشرقيون أهميته وراحوا يعملون بكل طاقاتهم في هذا السبيل.

وهذه بعض الأمثلة التي تدلّنا على كيفية عمل الأجانب في هذا المجال.

أ نقل هذه القصة أحد علماء طهران وعمره يناهز الثمانين، قال: قبل حوالي (70) سنة وكنت آنذاك طفلاً أذهب إلى الكتاتيب، في إحدى المدن المقدسة في العراق، بينما كنت أذهب في الصباح الباكر إلى المدرسة إذا بي أرى في السوق الكبير ازدحاماً وتجمعاً كبيراً، فاتجهت إلى مركز

التجمع وإذا بي أرى رجلين يحمل أحدهما على رأسه كمية من الكتب وهو يعطي كل رجل كتاباً، وكان رفيقه يعطي كل إنسان أخذ كتاباً عشر روبيات أي ما يعادل مثقالاً من الذهب ذلك اليوم يقول العالم: تقدمت وأخذت كتاباً وعشر روبيات، وأنا لا أعرف ماهية الكتاب، وعند ما رجعت إلى الدار وأريته لمن في المنزل تبين أنه كتاب يبشر للمسيحية! هكذا في بلدة مقدّسة يوزعون كتبهم مع إعطاء الرشوة.. ولذا نراهم سيطروا على أغلب دول العالم رغم ما في دينهم من خرافات.

إن بروز عفلق وحزب البعث على الساحة العراقية من الثمار الطبيعية لتلك الجهود التي دامت أكثر من نصف قرن وبتركيز شديد (كل من سار على الدرب وصل )، والله سبحانه يعطي كل إنسان حسب سعيه وجهده في هذه الحياة، يقول تعالى: *كُلاّ نّمِدّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً*(31).

ففي الدنيا يمدُّ الله الكافر والمؤمن، كلاً حسب سعيه كما أمد موسى عليه السلام وفرعون، وأمد إبراهيم عليه السلام ونمرود، وأمد عيسى عليه السلام وهيردوس، وأمد النبي صلي الله عليه و اله وأبا جهل، وأمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية، والحسين عليه السلام ويزيد، هذه هي سنّة الله في الحياة حتى تظهر السرائر *لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً*(32) فالصليبيون والصهاينة والشيوعيون لو عملوا أكثر منا لتقدموا بالطبع، والعكس بالعكس.

ب نقل أحد العلماء قال: قبل أكثر من ربع قرن كنت في السيارة راجعاً من الكاظمية حيث مرقد الإمامين الكاظم والجواد * إلى بغداد ثم كربلاء، وعند مرورنا ببغداد وصلنا إلى الجسر، وعندما وقفت السيارة عند الإشارة الحمراء رأينا رجلاً يتقدم ويقذف في كل سيارة مجموعة من الكتب، وعندما نظرت

إلى الكتب التي رميت في سيارتنا رأيتها عشرة تقريباً مطبوعة طباعة جميلة جذابة وبعضها مجلد، تبشّر بالمسيحية.

هكذا كانوا يعملون قبل ربع قرن، وأما الآن فانظروا كيف يعملون..

ج في حديث لأحد الأصدقاء يقول: (كنت أعمل في سوق الصفارين ببغداد وهو سوق كبير، والعاملون فيه كلهم مسلمون، وكنت واحداً من الصفارين، وقد كان دأب أحد المسيحيين أن يأتي كل أسبوعين أو كل شهر مثلاً، ويقدم لكل صفار كتاباً وربما كان الكتاب مجلداً ضخماً بقيمة دينار كامل، وعندما كان المبشر المسيحي يخرج من السوق، كان الصفارون يلقون بالكتب في النار (في الكورة التي يستخدموها لأعمالهم، حيث إنهم يعلمون أنها كتب مسيحية وحفظ كتب الضلال محرم).

يقول الأخ: فكرت ذات مرّة أن أقول للمسيحي واقع الحال حتى يمتنع عن الاستمرار في توزيع الكتب، وبالفعل عندما جاء هذه المرّة ووزع الكتب وأراد الذهاب تبعته وقلت له: إنك تعلم أيها المبشّر المسيحي أن هؤلاء مسلمون وهم يحرقون هذه الكتب التي تعطيها لهم، فلماذا تفعل ذلك؟ إذ أنها جهود لا طائل منها ولا ثمرة لها، قال: فتبسّم المسيحي وقال: إني أعلم بذلك منذ اليوم الأول لأني رأيت بعيني إحراقهم الكتب!!

فقلت له: إذن ما الداعي لما تفعل؟

قال: صحيح أن هؤلاء يحرقون الكتب ولكن ربما لا يحرق أحدهم الكتاب، بل يذهب به إلى داره فيقع الكتاب في يد ابنه أو ابنته، فيطالعه وتطالعه ويؤثر عليهما ولو جزئياً، وهذا ربح لنا!!

هكذا يضحّون بالمال والأتعاب والطاقات في سبيل إضلال شخص واحد!؟

هؤلاء يعملون هكذا، أما نحن فإننا لم نستطع تثقيف حتى شبابنا وفتياتنا، وهذا هو سبب تأخرنا، ولذا تجد كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن: الفكر الإسلامي، السياسة الإسلامية، الاجتماع والاقتصاد و... في الإسلام، كما

لا يعرفون شيئاً عن كيفية عمل المستعمرين في بلادنا وأساليبهم وخططهم، ولا يعرفون كيف يواجهونهم ويسدّون الطريق عليهم. إن تغلب القوة الاستعمارية علينا يعود إلى عدم تثقيفنا أنفسنا والآخرين، وسبب جهلنا ليس بالدين فقط بل بالدنيا أيضاً، وفي الحديث: *العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس*(33) كما تقدم، وعكسه غير العارف بالطبع.

إننا لو كنا علماء بالدنيا وأساليبها فهل كانت فلسطين مستعمرة صهيونية؟ وهل كانت لبنان تستعمرها فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية ثم يحكمها الصليبيون؟ وهل كانت أفغانستان يحتلّها الروس عسكرياً وبقوة السلاح؟ وهل كانت الفليبين التي يشكل المسلمون ربع شعبها يحكمها ماركوس ثم يقتل من مسلميها أكثر من مائة ألف؟ وهل..؟

لماذا كل ذلك؟ لأننا أصبحنا جاهلين، عديمي الثقافة، فاقدي الدراية، فقراء للمعرفة، عُراة عن الفهم الديني والدنيوي، ولذا خسرنا ديننا كما خسرنا دنيانا، حسب ما جاء في الحديث: *من لا معاش له لا معاد له*.

إذن فعلينا جميعاً أن نساهم في عملية التثقيف حتى نستطيع تحرير المسلمين من كيد الكفار والمستعمرين، وإقامة حكم الله على وجه الأرض.

9 تحويل الثقافة الجاهلية إلى ثقافة إسلامية

قلنا فيما مضى: إن الثقافة هي التي تعين اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً فشر.

مثلاً: الشخص الذي يذهب إلى المبغى فإنما توجّهه ثقافته نحو ذلك، والذي يذهب إلى المسجد فإنما يسير بدافع من ثقافته..

هذا في الجزئيات، وكذلك الأمر في الكليات، فالثقافة إذا تحولت لدى المسلمين من ثقافة استعمارية إلى ثقافة إسلامية تحولوا هم أيضاً من الانحطاط والاستغلال والعبودية إلى العزّة والتقدم والاستقلال.

وعندما نتطلع إلى تاريخ المسلمين قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره، نشاهد ذلك بوضوح، فعندما كانت عقليات (الغاب) وثقافة (الأنا) تحكم الناس كانت أعمالهم هي النهب والحرب والسرقة وشرب الخمر وتعاطي البغاء، وكانوا متخلفين

فكرياً واقتصادياً وفي سائر المجالات.

ولكنهم بعد الإسلام على أثر تحول ثقافتهم إلى ثقافة ربانية رحمانية، وإلى ثقافة *أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك* (34) نشاهد حدوث انقلاب واسع وعميق في ضمير الشعب وحياته، فلا خمر ولا فجور ولا مشاحنات ولا حروب تطحن الأخوة بعجلاتها، بل حروب لتحرير من بقي تحت الظلم من المستضعفين، وبذلك تمكن هؤلاء من أن يشكلوا أعرق حضارة في التاريخ، هؤلاء خرجوا عن طوق الشهوات وسلخوا عن أنفسهم عبودية الأهواء والملذّات فصاروا أحراراً يعملون للعقيدة والمبدأ والإنسانية.

هذا أحدهم: شاب من إحدى القبائل القاطنة في أطراف المدينة المنورة مات أبوه رئيس القبيلة وتولى الرئاسة محله عمّه الذي كانت له بنت جميلة وثروة عريضة وزعامة على القبيلة.

هذا الشاب كان مرشحاً لأن يكون زوجاً للفتاة، وفي حالة وفاة عمه يرث الزعامة والمال والمكانة الاجتماعية المميزة..

كان يذهب هذا الفتى إلى المدينة كل شهر لأجل شراء ما تحتاجه القبيلة، وذات مرة وأثناء جولته في المدينة رأى رجلاً يخطب في ساحة تحيط بها جدران أربعة قصيرة على مجموعة من الناس، وقف يسمع، جذبته الخطبة، سأل رجلاً: من الخطيب ومن المستمعون؟.. أجابه الرجل: الخطيب، محمد رسول الله صلي الله عليه و اله والجالسون هم المسلمون، وهذه المحوطة مسجد بناه المسلمون.

رجع الشاب إلى قبيلته وفي الشهر التالي عاد إلى المدينة للاشتراء، وذهب إلى المسجد للاستماع، وفي المرّة الثالثة والرابعة كان يحس بأنه ينجذب أكثر فأكثر نحو هذا الرسول الجديد.

وفي أحد الأيام خاطب عمه: يا عم لماذا تشتري كل شهر مرة، فلنشتر كل أسبوع مرة حتى تكون البضائع والمواد التي نشتريها جديدة!، وقَبِل العم وهكذا أصبح باستطاعة الشاب أن يستمع إلى الرسول صلي الله عليه و اله

كل أسبوع مرة واحدة، وبعد مدّة أسلم الشاب وجاء إلى عمه قائلاً: يا عم قد أسلمت.

قال العم: أصبوت إلى دين محمد؟

قال: إن دين محمد صلي الله عليه و اله هو الإسلام لا انحراف فيه.

قال العم: يا بني لو أصررت على إسلامك فلن أزوجك ابنتي.

أجابه الشاب: هذا هين، لا رغبة لي في النساء.

قال له العم: وسوف أمنعك من دخول بيتي.

أجابه الشاب: إن هذا سهل، فأرض الله واسعة.

قال له عمه: سأحرمك الثروة.

أجابه: إن الثروة مال فانٍ وزائل.

فقال: ستحرم من رئاسة القبيلة.

أجابه الشاب: إنني لا أريد الزعامة.

فقال له العم: يجب عليك أن تنفصل عن قبيلتنا.

أجابه: سوف أخرج.

قال له العم: وعليك أن تنزع كل ملابسك وتعطيها لي.

أجابه: لا بأس.

فجرّده عمه القاسي كل ملابسه وتركه عارياً، ولما رأته أمه عارياً حنّت عليه وأعطته فراشاً، شقه نصفين وجعله إزاراً ومئزراً لبسهما، ثم اتجه إلى المدينة ووصلها ليلاً وليس معه أي شيء واتجه نحو المسجد ونام الليل فيه، وعندما جاء الرسول صلي الله عليه و اله إلى صلاة الصبح رأى شاباً غريباً فسأله من أنت؟

فذكر له الشاب اسمه الجاهلي، فقال له الرسول صلي الله عليه و اله: إن اسمك هو عبد الله ذو البجادين. البجاد هو الفراش الذي لفه الشاب حول نفسه.

وبدأ الشاب يأتمر بأوامر الإسلام حتى استشهد في إحدى المعارك.

ما الذي غيّر شخصية عبد الله ذي البجادين، وأحدث انقلاباً في ضميره؟ إن الذي تغير في هذا الشاب هو ثقافته فأحدثت فيه هذا التغيير الهائل.

هذه هي آثار الثقافة، فالتغيير الثقافي يسبب تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. إلخ.

إن علينا أن نغير الثقافة الجاهلية، يقول تعالى: *وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ*(35)،*وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ

اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*(36)، *وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ*(37)، ويقول تعالى: *فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً*(38).

إن في المسلمين أفراداً يحملون ثقافة إسلامية راقية دون شك ولكن الكلام حول الأغلبية الساحقة منهم، هؤلاء علينا تغييرهم، وإحدى الخطوات في طريق التغيير هي طبع ألف مليون كتاب توعوي في مختلف النواحي: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وزراعياً ومعاملياً وتربوياً، وفي مجال الحريات والشورى وإلى غير ذلك.

وإحدى مجالات التغيير هو أن يعرف المسلم العربي أنه أخ للمسلم الهندي والفارسي والتركي و.. وبالعكس كما جعل رسول الله صلي الله عليه و اله بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وأبا ذر العربي أخوة لا يمتاز أحدهم على الآخر إلا بالتقوى، فاللغة واللون والقوميات والجغرافيات ليست هي المقاييس السليمة وليست سبباً لأفضلية هذا على ذاك.

إذا استطعنا صنع ذلك كله نستطيع حينئذٍ أن نقول إننا خطونا خطوة مؤثرة في سبيل حكومة الألف مليون مسلم، وإن التجارب في سبيل توحيد الأمم تحت راية واحدة غير نادرة في التاريخ فقد استطاع ماوتسي تونغ الملحد أن يوحد الصين تحت راية الكفر ونفوسها مئات الملايين، وكذلك استطاع غاندي توحيد الهنود ونفوسهم في ذلك الوقت مئات الملايين.. ونحن بالطبع نستطيع ذلك شرط العمل المستمر الدائب تحت راية القرآن وتعاليم السنة المطهرة.

10 الثقافة تصنع المعاجز

إن إقامة الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة واجب شرعي كالصلاة والصوم والخمس والزكاة، كما يستفاد ذلك من الأحاديث الكريمة، والتثقيف هو أحد أهم أركان إقامة هذه الحكومة، فإن الثقافة هي التي تغير مسيرة الإنسان إلى الأحسن أو الأسوأ، وقد ذكرنا لذلك بعض الأمثلة وإليكم مثالاً آخر:

الفضيل بن عياض سارق معروف، وقاطع

للطريق وله عصابة قوية مرهوبة الجانب مشتهرة بالفساد، إضافة إلى اللصوصية والسرقة، وكانوا إذا دخلوا قرية من القرى نهبوا الأموال وهتكوا الأعراض وقتلوا من يقف أمامهم، وساعدهم على هذا ضعف الحكومة وعدم اهتمامها بشؤون رعاياها..

ذات مرّة شاهد الفضيل فتاة قرب إحدى القرى، خاطبها بلهجة الأمر: أخبري أباك إنني سآتي الليلة وأحل ضيفاً عليكم وعليه أن يهيئك لي.

ارتعدت الفتاة خوفاً من مصيرها المظلم، وجاءت وأخبرت عائلتها، أخذ الأب والأم وكل العائلة بالبكاء والنحيب، ولكن لا مفر لهم، فهم مضطرون للاستجابة إلى الفضيل لأنه بالإضافة إلى هتكه عرضهم بالقوة سيقتلهم أيضاً.

وفي ظلام الليل البهيم، اقترب الفضيل من القرية والعائلة ساهرة باكية متضرعة إلى الله كي ينجيهم من هذا الطاغي..

وتسلّق الفضيل الجدار، وإذا به يسمع صوتاً شجياً يقرأ القرآن ويترنم بآيات تدوي في فضاء الليل الساكن، استمع الفضيل فتناهت إلى سمعه الآية التالية:*أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ*(39).

ارتجف الفضيل بشدة وهو يستمع إلى هذه الآية، لقد نفذت الآية المباركة إلى أعماق قلبه وهزته، بدا وكأن صاعقة قد سقطت عليه، اضطرب قلبه وجرت دموعه على خديه، وهو يتذكر ماضيه الأسود، قال لنفسه: (نعم آن لي أن يخشع قلبي لذكر الله) ولعلّ الله قد استجاب دعاء تلك العائلة التي تضرّعت إليه.

وتاب الفضيل إلى الله توبةً نصوحاً وهو على السطح، ومن هناك خاطب أهل الدار: يا أهل الدار: أنا الفضيل، ولقد تبت إلى الله، وأنا أعتذر إليكم حيث إنني أرعبتكم وأخفتكم، ثم خرج من الدار هائماً على وجهه في نصف الليل حتى وصل إلى خربة فنزل فيها ينتظر الصباح ليرجع إلى المدينة، ويظهر توبته للناس، وبينما هو غارق في بحار التفكير في الخربة، إذا

به يسمع صوت شخص يتحدث إلى آخر قائلاً: من الأفضل أن لا تتحرك قافلتنا في هذا الوقت من الليل، فلربما قطع الفضيل وعصابته علينا الطريق.

فأجابه آخر: إننا أقوياء مسلحون جيداً، وإذا تعرّض لنا الفضيل وعصابته فإننا سنضطرهم للفرار.

وهنا صاح فيهم الفضيل: أيتها القافلة سيري بسلام فقد تاب الفضيل وها أنا هو لاخوف عليكم منه، ولكن القافلة لم تصدق أن هذا هو الفضيل.. اقترب الفضيل من القافلة وهو يبكي وينتحب وينثر التراب على رأسه، وعندما رأته القافلة عرفته.

ومنذ ذلك الوقت تحوّل الفضيل إلى عابد زاهد، حتى أخذ يُضرب به المثل في العبادة والزهد والفضيلة والتقوى.

ما الذي قَلَب هذا الرجل وغيره جذرياً؟ أهي (الشرطة) أم القانون أم المال أم الزوجة..؟ كلا إن الثقافة القرآنية هي التي غيرته إلى فرد صالح، وجعلته من الشخصيات البارزة في التاريخ، نعم.. إن للثقافة هذا الدور البارز.

(مس بيل) الجاسوسة البريطانية تقول في مذكراتها: (إننا وجدنا أن الذين حاربونا في العراق إبان الحرب العالمية الأولى كانوا هم السبب وراء فشلنا، وكان محركهم العلماء، وقد رأينا أن القضاء على هذه المقاومة لا يتم إلا عبر فصل الشعب عن العلماء، بحيث لا يتبع الشعب قيادته، ولأجل تحقيق ذلك، كان لابدّ لنا من تغيير ثقافة الشعب، وذلك عبر فتح المدارس في كل النواحي والألوية وتربية الطلاب فيها كيفما نحب)، وبالفعل صنعوا ذلك واستطاعوا تغيير ثقافة الجيل الجديد..

نعم إن عفلق وحزب البعث ما هم إلا ثمار تلك الجهود الثقافية التغييرية التي بذلها الاستعمار البريطاني، فأصبح السادة الأعزّة عبيداً أذلة للمستعمرين.

إن عملنا على الصعيد الثقافي ضعيف جداً، ولقد كان العمل الثقافي في طليعة مهام المسلمين السابقين، وإليكم بعض النماذج البسيطة على ذلك:

فأكبر المكتبات الإسلامية في العراق وإيران حالياً

لا تتجاوز كتبها المائة ألف كتاب على أكبر تقدير، بينما نشاهد أن مكتبة نصير الدين الطوسي قبل مئات السنين وحدها كانت تحتوي على أربعمائة ألف كتاب رغم أن كل الكتب في ذلك الزمن كانت مخطوطة! وأغلب الكتب الآن مطبوعة.

ومكتبة أحد الفاطميين في مصر كانت تحتوي على مليون وستمائة ألف كتاب كلّها مخطوط.

وفي المقابل نجد أن مكتبة واحدة في إحدى بلاد الاستعمار، في الوقت الحاضر تحتوي على تسعة ملايين كتاب، ومكتبة أخرى في دولة استعمارية أخرى تحتوي على 36 مليون كتاب! قارنوا بين: 100ألف و36 مليون كتاب كم هو الفارق؟!

نحن المسلمين كنا سابقاً منبع العلم ومصدر الإشعاع والتقدّم العلمي، وكانت عواصمنا الإسلامية كالأندلس وبغداد ونيسابور وخراسان وقم والحلّة وأصفهان والنجف وكربلاء مراكز لاستقطاب الطلاب والعلماء حتى من الأجانب إلى جامعاتنا الإسلامية الكبيرة في تلك العواصم.

أما الآن فقد انعكس الأمر، أصبحت بلاد الكفار والملحدين قواعد انطلاق يشد الرحال إليها لطلب التقدم العلمي والتكنولوجي، وأصبح المسلمون هم الذين يقصدونهم لطلب العلم وغالباً ما يصحب ذلك تأثرهم باتجاهات الكفار السياسية والفكرية.

لقد جاء في تقرير (أنه ومنذ سنة 1950 ميلادية هرب من الشرق الأوسط إلى الغرب وإلى أمريكا أكثر من نصف مليون مثقف من مختلف الطبقات والاختصاصات).

إن الثقافة لهي ركن هام من أركان إقامة الحكومة الإسلامية العالمية، وعلى كل فرد أن يساهم بالقدر الممكن، فهذا يطبع ألوف الكتب، والآخر ينظم مئات الشباب، والثالث يتكفّل بإصدار جريدة أو مجلة ذات مستوى جيد، وهكذا.

11 إقامة الدولة الإسلامية واجبة

قد أشرنا في مبحث سابق إلى لزوم الاهتمام لأجل إقامة حكومة إسلامية عالمية، تضم كل المسلمين في حكومة انتخابية مرضية لله سبحانه.

وربما يستشكل على ذلك، بأن بعض الروايات تدل على عدم إمكان تحقق حكم إسلامي

قبل ظهور الإمام المهدي (عليه الصلاة والسلام)؟ والجواب: إن الروايات الواردة بهذا الشأن، لابد وأن تحمل على أحد المحامل الأربعة التالية:

1: التقية، حيث إنهم عليهم السلام أرادوا الحفاظ على أنفسهم لتبقى جذور المقاومة حية، قال سبحانه: *إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً*(40).

وقال عليه السلام: *التقية ديني ودين آبائي*(41).

2: أو المراد الحكومة العالمية لكل أهل العالم، فإنه لا يتسنى ذلك إلا للإمام المهدي عليه السلام.

3: أو المراد إجراء العدالة الواقعية، حيث إن الإمام عليه السلام يعلم الواقع دون غيره، وإنما غيره يعمل حسب ظواهر الأدلّة.

4: وإما المراد من يدعو إلى نفسه، لا إلى القيادة الواقعية التي هي قيادة من عينه الله سبحانه للحكم.

ويؤيد ما ذكرنا، أن ثلاثة من الأئمة عليهم السلام دعوا للمختار رحمة الله عليه، وقد حكم زهاء خمس سنوات على شرق العالم الإسلامي، فهل كان حكمه باطلاً؟ وهل الأئمة عليهم السلام يدعون لحاكم باطل؟ بل وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يسميه بالكيّس، وهل الذي يحكم باطلاً كيّس بنظر الإمام عليه السلام؟

وهكذا علماء كبار لا شك في فقههم وعدالتهم، أمثال الناصر والرضي والمرتضى والمفيد (رحمهم الله) كانوا من أصدقاء الدولة البويهية، والعلامة الحلّي رحمة الله عليه كان من أعوان خدا بنده، والمجلسيان والشيخ البهائي والمحقق الكركي والميرداماد ومن أشبههم كانوا من أنصار وزراء الدولة الصفوية، وكاشف الغطاء رحمة الله عليه أعطى الوكالة لبعض القاجاريين، والشيخ محمد تقي الشيرازي أقام الدولة الإسلامية في العراق بعد أن طرد الإنجليز، إلى غير ذلك، وهنالك روايات تؤيد ما ذكرناه.

ففي الكافي، في خبر صحيح، عن العيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: *عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل ليكون

له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان، يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، وأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا خرج زيد فإن زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و اله، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منا اليوم إلى أي شيء يدعوكم إلى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و اله: فنحن نشهدكم إنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا إلا من اجتمعت بنو فاطمة معه. فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه، إذا كان رجب، فاقبلوا على اسم الله عزوجل، وإن أحببتم أن تتأخروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعلّ ذلك يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسفياني علامة*(42).

فإن هذا صحيح يدل على صحة قيام زيد، لأنه كان قيامه لله، وكان يدعو للإمام عليه السلام بخلاف من كان قيامه لغير الله، ولا يدعو إلى الإمام، كدعاة العباسيين والتعريض بهم في هذا الحديث، واجتماع بني فاطمة تتحقق برضا الإمام، وإن لم يجتمع سواهم كما ذكروا في باب الإجماع والظاهر أن أمر الإمام بالتأخير إلى شعبان وشوال، لأجل أن يتبين الأمر لهم بأن الدعاة لا يدعون

إلى الإمام عليه السلام.

وآخر الحديث تسلية لهم بأنهم المعاصرين للإمام عليه السلام حيث تفوتهم الدعوة، لأنه لا دعوة في ذلك الحال إلى الإمام العدل، فإنهم سيدركون الإمام المهدي عليه السلام ويقومون معه.

وفي رواية أخرى، عن العلل، عن الصادق عليه السلام: *إن أتاكم منا آت ليدعوكم إلى الرضا منا فنحن نشهدكم أنّا لا نرضى أنه يطيعنا اليوم وهو وحده، وكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام*(43)... وظاهره عدم الجواز إن كان الآتي لا يدعو إلى الإمام ولايطيع الإمام، أما إذا كان بخلاف ذلك، فإن دعوته صحيحة واتباعه صحيح.

وعن عيون الأخبار، عن ابن أبي عبدون، عن الرضا عليه السلام في حديث أنه قال للمأمون: *لا تقس أخي زيد إلى زيد بن علي، فإنه كان من علماء آل محمد صلي الله عليه و اله، غضب لله، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله*(44)، ولقد حدثني موسى بن جعفر عليه السلام أنه سمع أباه جعفر بن محمد عليه السلام يقول: *رحم الله عمي زيداً، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و اله، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، لقد استشارني في خروجه، فقلت: إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك* إلى أن قال: فقال الرضا عليه السلام: *إن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذلك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد صلي الله عليه و اله * (45).

وعن ابن إدريس، في آخر السرائر بسنده قال: ذكر بين يدي أبي عبد الله عليه السلام من خرج من آل محمد صلي الله عليه و اله، فقال: *لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج

الخارجي من آل محمد صلي الله عليه و اله ولوددت أن الخارجي من آل محمد صلي الله عليه و اله خرج وعليّ نفقة عياله*(46).

أقول: ولعل قدح الإمام الرضا عليه السلام لزيد أخيه أمام المأمون كان تقية، كما يؤيده خبر السرائر. وما ورد من أنهم عليهم السلام أحياناً كانوا ينتقصون أصحابهم خوف العثور بهم، ويمثلونهم بالسفينة التي عابها الخضر عليه السلام، لئلاّ تؤخذ من قبل الملك الظالم، ويؤيده قول الإمام عليه السلام في شهداء فخ: *إن الأنصار لم يفوا بما وعدوا رسول الله صلي الله عليه و اله * فإنهم لو كانوا خرجوا بغير حق وبدون جواز شرعي فهل كان للأنصار أن يساعدوهم؟ أو كان اللازم الاجتناب عنهم؟

وكذلك يؤيده أشعار دعبل بمحضر الإمام الرضا عليه السلام في رثاء شهداء كوفان وفخ وجوزجان، فإن تقرير الإمام الرضا عليه السلام له دليل على صحة خروجهم، وإلا فهل كان الإمام الرضا عليه السلام يؤيد لو ذكر أبا مسلم وأبا سلمة وغيرهما من الذين خرجوا على بني أمية؟

وعن يحيى بن الجندل، عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: *رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، ولا يملون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون، والعاقبة للمتقين*(47).

الأساس الثاني: التنظيم

1 التنظيم: الأرضية الصلبة لحكومة ألف مليون مسلم

تناولنا في الحلقات السابقة: الأساس الأول الذي تبنى عليه الحكومة الإسلامية الواحدة ذات الألف مليون مسلم، وكان ذلك الأساس هو (التوعية). وفي هذه الحلقات نتناول الأساس الثاني للحكومة الإسلامية الواحدة، وهو (التنظيم).

إن التنظيم واجب شرعي وسنة كونية وضرورة حيوية ملحّة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية.

فالتنظيم (أولاً) واجب شرعي، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: *ونظم أمركم*(48).

والتنظيم (ثانياً) هو سنة كونية، فقد خلق الله سبحانه

الكون كله منظماً، وقال تعالى في ذلك: *مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ*(49). فقطرات الأمطار منظمة وموزونة، وكذلك الأشجار، الحيوانات، الرمال، الأنجم، وسائر الكائنات الأخرى..

وأما بالنسبة إلى الإنسان: فقد جعل الله سبحانه الجانب الجسدي منه خاضعاً للتنظيم الكوني العام، فالقلب والرئة والكبد والكلية وسائر الأجهزة كلها تعمل بانتظام واتساق.. وإن طروء أي اختلال على إحدى هذه الأجهزة يعني: المرض أو الموت!.

ولكن الله سبحانه جعل تنظيم الجوانب العملية والاجتماعية والسلوكية للإنسان، بيد الإنسان نفسه، وعلى الإنسان أن لا يشذّ عن القوانين التي تحكم الكون، لأنه عندئذٍ سيصاب بالانهيار والدمار.

والتنظيم (ثالثاً) هو ضرورة حيوية وقوة، وقد قال الله سبحانه: *وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ*(50).

أما إذا لم ننظم أنفسنا في تنظيم واسع كبير فسيعترينا الضعف، ويتغلّب علينا الأعداء، وإن واقعنا المعاصر خير دليل على ذلك.. فإن المسلمين يبلغ عددهم حالياً (51) ألف مليون مسلم، ولكن بلادهم واقعة تحت السيطرة الاستعمارية. فقطعة من بلادهم بيد الشيوعية العالمية، وقطعة أخرى بيد الرأسمالية العالمية، وقطعة ثالثة بيد الصهيونية، وسائر بلادهم خاضعة لألوان مختلفة من الاستعمار المعلن أو المبطن.

وإننا بدون التنظيم لن نستطيع مواجهة التحديات المعاصرة، ولن نتمكّن من الوقوف أمام الشرق والغرب وعملائهما.

والعالم المعاصر يعتمد على (التنظيم).. فقد جاء في تقرير: أن للصهاينة خمسة ملايين منظم، وجاء في تقرير آخر: أن للاتحاد السوفيتي بين اثني عشر مليون إلى خمسة وعشرين مليون منظم، وللصين الشيوعية ما لا يقل عن عشرين مليون منظم، وللبلاد الأوروبية التسع مع أمريكا : خمسين مليون منظم، سواء في التنظيمات القومية أو الحزبية أو الثقافية أو غيرها.

هل يمكن العيش في مثل هذا الجو المشحون بالتنظيمات بلا تنظيم؟! أم أن النتيجة لن تكون إلا

التبعثر والتمزق والانهيار؟!

لقد قلت لبعض مسلمي لبنان قبل عشر سنوات أو أكثر : إنكم ستواجهون مصيراً سيئاً إن لم تنظموا أنفسكم.

قالوا: ومن أين تقول ذلك؟!

قلت: من منطق التاريخ، ومنطق الأحداث.

قالوا: وكيف؟!

قلت: إنكم محاطون بتنظيم صليبي في داخل لبنان، وبتنظيم صهيوني في إسرائيل، فأنتم بين تنظيمين معاديين ومع ذلك فإنكم مبعثرون، ومن الطبيعي أن ينتصر من له تنظيم على من لا تنظيم له، ولا يكفي أن يقول أحد: إنني مع الحق ولا يعمل شيئاً، لأن الحق يأمرك بالتنظيم، يأمرك بأن تعلو ولا يعلى عليك، يأمرك أن تأخذ بالأسباب الطبيعية لا أن تجلس وتكسل وتقول: إنني على صراط الله، والآخرين على صراط الشيطان!

وماذا كانت النتيجة؟!

إنها المشاكل والكوارث التي شاهدها الكل بأم أعينهم.

وسواء كان السبب هو: القصور أو التقصير فإن النتيجة حصلت، كما في سائر الأسباب الطبيعية، فإن من لم يشرب الماء ولو لعدم وجود الماء لابد من أن يصيبه الضرر. إن النتيجة ليست متوقفة على العلم والجهل، أو الإمكان وعدمه، فالدنيا دار أسباب ومسببات، والمسببات تتولد بشكل قهري من الأسباب، سواء وجدت الأسباب بعمد، أو بغير عمد. وإن لنا لعبرة كبيرة في حياة رسول الله صلي الله عليه و اله.. حيث إنه كان يخضع كل شؤونه للتنظيم الدقيق. فمثلاً: في حرب (بدر) كان المسلمون زهاء ثلاثمائة، والكفار زهاء ألف، وكان الكفار مدججين بالسلاح، أما المسلمون فكانوا شبه عزّل.. وفي قبال ذلك لم يكتف الرسول صلي الله عليه و اله بامتلاك المسلمين للإيمان القلبي، وإنما أضاف إلى ذلك التنظيم الخارجي. فقد ذكر بعض المؤرخين: أن الرسول صلي الله عليه و اله جعل كل مائة من أصحابه في دائرة، ظهور بعضهم

إلى بعض ووجوههم في الخارج.. وعندما بدأ المشركون بهجومهم على المسلمين لم يستطيعوا من الإحاطة بهم، وتبعثروا حول هذه الحلقات الكبيرة.

وبهذا التنظيم مضافاً إلى الإيمان استطاع المسلمون أن ينتصروا على الكفار الذين لم يكونوا يمتلكون التنظيم.

أما بالنسبة إلى كيفية التنظيم؟! فإن كل فرد يستطيع ذلك.. وذلك إما بالانتماء إلى إحدى المنظمات الإسلامية المستقيمة، وهي موجودة بحمد الله في كثير من البلاد الإسلامية. وإما أن يبدأ تنظيماً جديداً بنفسه.. وذلك بأن يلتقي بأربعة من الأفراد الصالحين، يغذيهم بالفكر السليم، وينظّمهم.. ثم ينظم كل واحد من هؤلاء بعد استيعابهم للفكر والتنظيم أربعة آخرين، فيصبح المجموع عشرين. وبهذه الطريقة يتصاعد التنظيم على نحو التصاعد الهندسي، لا على نحو التصاعد العددي حتى يبلغ الألوف والملايين.. وإذا سرنا في هذا الطريق فإن الله معنا، و*إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ*(52).

2 تنظيم غير المسلمين

التنظيم الذي هو مقدمة لإقامة حكومة ألف مليون مسلم يجب أن لا يقتصر على البلاد الإسلامية فحسب، بل عليه أن يستوعب البلاد الأجنبية أيضاً.. وذلك بأمرين:

أ: تنظيم المسلمين القاطنين في تلك البلاد.

ب: تنظيم أهالي تلك البلاد الذين ليسوا بمسلمين، ولكنهم يستعدون للمساهمة في إقامة حكم الإسلام، حيث يجدون أنفسهم تحت الضغط والكبت والإرهاب، وحيث يجدون في الإسلام المعاني السامية، والحريات الواسعة، وقلة الضرائب، وغير ذلك.

وقد أرانا التاريخ: كيف كان الكفار يستقبلون المسلمين ويحتضنونهم، لأنهم كانوا يجدون الإسلام هو المخلّص الوحيد الذي ينقذهم من حكوماتهم الجائرة(53).

هذا من جانب..

ومن جانب آخر.. فإن تطبيق قانون (المؤلفة قلوبهم) سيكون عاملاً مساعداً على نجاح هذا العمل.. فقد قال جمع من الفقهاء: إن قانون (المؤلفة قلوبهم) يشمل صنفين:

الصنف الأول: ضعاف الإيمان *فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لّمْ

يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ*(54) كما جاء في الآية الكريمة. وهؤلاء يعطون شيئاً من المال من أجل أن يشتّد دينهم، وتثبت أركان الإيمان في قلوبهم.

والصنف الثاني: الكفار الذين يراد استمالتهم إلى الإسلام، فيعطون شيئاً من الزكاة أو غيرها من بيت المال، ليكونوا عوناً للمسلمين في إقامة الإسلام.

وباجتماع هذه العوامل: الكبت الذي يعيشه الكفار، والحريات والمعاني السامية المتوفرة في الإسلام، وقانون (المؤلفة قلوبهم)، يمكن لهذا العمل النجاح.

والواقع: أن هذا العمل تنظيم غير المسلمين هو: واجب شرعي (أولاً) ووسيلة لمواجهة التحديات الحضارية التي تعيشها أمتنا (ثانياً).

لقد مارس الغربيون والشرقيون مثل هذا العمل بالنسبة إلى المسلمين بالأمس، وهم يمارسون مثل هذا العمل اليوم.. إنهم ينظمون قسماً من شبابنا لكي يكونوا عملاء لهم..

فبعض الحكام عملاء لبريطانيا وإسرائيل وأميركا. والشيوعيون: عملاء للغرب، أو الشرق. وهكذا الوجوديون، والقوميون، وغيرهم..

إنهم يجندون شبابنا في سبيل الكبت، فلماذا لا نجند شبابهم في سبيل التحرر والإصلاح ولا نقصد تحرير بلادنا فحسب، بل بلادهم أيضاً، فإن الحرية الحقيقية إنما هي في الإسلام، قال الله سبحانه: *وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ*(55).

وفيما يلي نذكر نموذجاً واحداً مما فعل المستعمرون في بلاد الإسلام: قبل أن يحتل البريطانيون إيران، أرسلوا مجموعة من عملائهم إلى داخل إيران، وخصوصاً إلى العشائر المحيطة بالحدود وقد أظهر هؤلاء العملاء الإسلام كذبا ونفاقاً كستار لأعمالهم الشيطانية، وأخذوا يضللون قسماً من الشباب السذج، حتى انخرطوا في التنظيم الغربي البريطاني، وأصبح هؤلاء الشباب فيما بعد ركائز للاستعمار البريطاني في إيران.

وقد تزوج أحد هؤلاء العملاء من إحدى فتيات العشائر بعد أن أظهر الإسلام وبعد أن استطاع من إضلال مجموعة من الشباب، ويخرطهم في (التنظيم البريطاني)، وجد أن مهمته

قد انتهت، فباع زوجته لقروي مقابل شراء حمار، وركب الحمار، واتجه نحو (بوشهر)، حيث باع حماره هناك، وركب السفينة، وأبحر إلى (لندن) !

هكذا عمل المستعمرون في إيران.

وأما تركيا فقد أراد المستعمرون سحبها إلى الإلحاد الكامل.. وإزالة حتى المظهر الإسلامي منها.. ومن أجل تحقيق هذا الهدف بعثوا بمجموعة من عملائهم إلى (تركيا) من أجل إفساد الشباب، وتخريب البلاد.. وفي هذا الإطار ينقل أحد اليهود وكان في مهمة استعمارية في (أنقرة) الحادثة التالية، فيقول:

(بعد أن انتهت مهمتي، ونظمت العدد المطلوب من الشباب، صممت على أن لا أخرج من البلاد إلا بعد إفسادها. فتعاونت مع شاب تركي كان في تنظيمنا حتى تمكنا من تفجير (البنك العثماني) الذي كان في أنقرة، مما أحدث في العالم أثراً طيباً) ! حسب تعبيره. هكذا ضلل المستعمرون شبابنا، ولا زالوا يضللون!

فالواجب علينا أن نقابل بالمثل، وأن نرد الحجر من حيث جاء! بفارق واحد هو أنهم يعملون في سبيل الهدم، ونحن نعمل في سبيل البناء، هم يعملون في سبيل الاستعباد، ونحن نعمل في سبيل التحرير، هم يعملون في سبيل الهوى والشيطان، ونحن نعمل في سبيل الله والإنسان.

كما أن على المسلمين المتواجدين في البلاد الأجنبية وهم يبلغون الملايين أن يبدؤوا بتنظيم أنفسهم، وبتنظيم الأجانب، ليكونوا عوناً للمسلمين في الوصول إلى الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة.

3 توحيد الحركات

إن التصاعد النسبي للوعي الحيوي في البلاد الإسلامية والتحديات المصيرية التي واجهت الأمة، عملا على انبعاث حركات إسلامية كثيرة في مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.

فهنالك حركة في إيران، وأخرى في العراق، وثالثة في الخليج. وحركات أخرى في الهند، والباكستان، والمغرب، ومصر، والسودان.. وحركات أو فروع حركات في أمريكا، وأوروبا، واليابان، والصين، والاتحاد السوفيتي... إلخ.

إن

من الضروري أن تنصهر كل هذه الحركات في حركة واحدة.. ما دام الهدف واحداً، وما دامت المشكلة واحدة.. فالجميع يشكون من الاستعمار، والاستغلال، والدكتاتورية، والتخلف الحضاري، وما أشبه.

واختلاف الاجتهادات لا يضر بالوحدة، فإن الاختلاف أمر طبيعي في الإنسان، والعاملون مهما كانوا مخلصين لابد أن يختلفوا في الاجتهادات. وحلّ (اختلاف الاجتهادات) في الحركة العالمية الموحدة يتم بالعمل ب(أكثرية الآراء) حسب موازين الشورى الإسلامية.

فإذا توحدت هذه الحركات تكون قوة كبيرة أمام الاستعمار الخارجي، والتخلف الداخلي.. وبذلك يمكن أن تقام الحكومة الإسلامية الواحدة ذات الألف مليون مسلم.

إن من الأمور المهمة التي حققها رسول الله صلي الله عليه و اله هو (توحيد المسلمين). وكان ذلك من الأسباب الرئيسية لتقدم المسلمين، وقد قال أحد العلماء: (قام الإسلام على كلمتين: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة).

وفي هذا الصدد يذكر المؤرخون: إن سرعة انتشار الإسلام في العالم بعد هجرة النبي صلي الله عليه و اله إلى المدينة أدهشت الفرس والروم.. وقد أخذ (ملك الروم) يسأل من كل قادم من الجزيرة العربية عن النبي صلي الله عليه و اله ومزاياه وخصوصياته، ليعرف مدى صدق النبي صلي الله عليه و اله وسبب هذا التقدم الغريب؟

وذات يوم أخبر الملك بأن هناك تاجراً مسيحياً مرّ على الجزيرة العربية في طريقه من اليمن إلى العاصمة الرومية فأمر الملك بإحضاره. ولما حضر سأله الملك: هل مررت على (يثرب) أي المدينة؟ أجاب: نعم.

قال الملك: وهل رأيت محمداً؟ قال: لا.

سأل الملك: وهل سمعت بمعجزات عنه؟ فإنه يدعي النبوة، ولابد لكل نبي من معجزة؟ أجاب: لم أسمع شيئاً، ولم أسال عن ذلك، فإني تاجر لا يهمني ذلك.

قال الملك: هل سمعت عن أخلاقه، وسلوكه؟ قال:

نعم سمعت شيئاً واحداً.

فتلهف الملك لسماع الشيء وقال: ما هو؟ فأجاب التاجر: سمعت أن محمداً لما ورد المدينة استطاع أن يصلح بين قبيلتي (الأوس) و(الخزرج) وكان الصراع قائماً بينهما منذ مائة عام وقد صاروا الآن أخوة متحابين، يعملون معاً في سبيل تقدم الإسلام.

قال الملك: حسبك، فإن من أخلاق الأنبياء الإصلاح بين الناس، ومن أخلاق السلاطين المستبدين التفرقة بين الناس... هكذا عمل النبي صلي الله عليه و اله على توحيد المسلمين..

وفي النصوص الإسلامية تحريض شديد على الوحدة والتوحيد، فقد جاء في الحديث: *خير الولاة من جمع المختلف، وشر الولاة من فرّق المؤتلف*.

وجاء في القرآن الكريم حول فرعون:* إنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً*(56). وفي القرآن الكريم: *وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ*(57).

*وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ*(58).

*إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ*(59).

وورد في الدعاء بالنسبة إلى الإمام الحجة عليه السلام :*جامع الكلمة على التقوى*(60).

إذن فمن الضروري أن نسعى لتوحيد الحركات الإسلامية.. وفي هذا السبيل يجب علينا أن نتجاوز عن السيئات، ونتغاضى عن الأخطاء، ونتناسى المشاحنات والمطاحنات.. يقول الله سبحانه: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ*(61).

فإذا تم ذلك.. فإن القيادة العامة لهذه الحركات المتحدة تستطيع تحقيق الأهداف.. فتقرر مثلاً صنع إضراب عام لقضية معينة في يوم محدد. فتضرب الأسواق كلها من (طنجة) إلى (جاكرتا) ومن (كابل) إلى أقاصي الغرب وبذلك وأمثاله يرى المستعمرون أن لا قرار لهم في بلاد الإسلام، فيحملون عصاهم، ويرحلون!

وقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله: *المسلمون يد على من سواهم*(62) ولم يقل النبي صلي الله

عليه و اله: المسلمون يد متصافقة، لأنه يريدهم وحدة واحدة.. فإن الإنسان إذا أراد أن يدفع عنه المهاجم ضربه بجمع يده الواحدة.. وهكذا الأمة إذا أرادت دفع الغزاة والمستعمرين.

ونؤكد هنا مرة أخرى : بأن هذا التنظيم الإسلامي العام الواحد يجب أن يحتوي على ما لا يقل عن (عشرين مليون منظم) حتى يكون بإزاء كل خمسين مسلم موجه واحد، وهي أقل نسبة مطلوبة.

4 التنظيم الاستشاري

من الضروري أن يكون التنظيم استشارياً، لا استبدادياً، فالاستشارية ما وضعت على شيء إلا سببت تقدمه وازدهاره، بينما الاستبداد ما وضع على شيء إلا سبب تأخره وانهياره. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: *من استبد برأيه هلك*(63).

والإسلام يحبذ (الاستشارة) في كل شيء حتى في الأمور الصغيرة.. يقول الله سبحانه: *فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا*(64).

أي: إن أحد الأبوين إذا أراد فطام الطفل عن الرضاع فعليه أن يستشير الآخر حول: هل من الأفضل استمرار إرضاع الطفل، أو فطامه؟! وإذا كانت الاستشارة مرغوبة فيها في مثل هذا الأمر الصغير، فكيف بالأمور السياسية والثورية التي يتوقف مصير الأمة عليها؟ وقد طبق الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله مبدأ (الاستشارة) في شؤونه.. رغم اتصاله بالوحي ووفور عقله وقوة إدراكه، حتى يتعلم المسلمون منه ذلك..

وفي التاريخ: إن بعض الكفار جاؤوا إلى الرسول صلي الله عليه و اله في قصة مفصلة يريدون منه التمر، فقال النبي صلي الله عليه و اله: استشير أصحابي في ذلك.

وعند ما استشارهم الرسول صلي الله عليه و اله أشاروا عليه بأن لا يعطيهم التمر.. فطلب النبي صلي الله عليه و اله أولئك الكفار وقال: إن أصحابي أبوا أن أعطيكم التمر.

إن التنظيم يجب أن يكون استشارياً من

القمة إلى القاعدة.. أما قانون (نفّذ ثم ناقش) فليس إلا قانون المستعمرين والمستبدين.. وقد رأينا كيف انغمس أصحاب هذا القانون الخاطئ في أوحال التأخر والاستعمار والاستبداد.

والقانون الصحيح هو (استشر، وقلّب وجوه الرأي، وخذ برأي الأكثرية حسب موازين الشورى الإسلامية، ثم نفّذ).

وقد قال علي عليه السلام لأصحابه: إن لكم عليّ إعطاء المشورة.

إن الاستشارة تعرّف الإنسان على الخطأ والصواب.. وتأخذ بيده إلى الطريق السليم.

وقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: وترى قفاك بجمع مرآتين.

فالإنسان لا يستطيع أن يرى قفاه بنفسه، ولكنه إذا جمع مرآتين: مرآة أمامه، ومرآة خلفه. فعند ذلك يستطيع أن يرى قفاه..

وهكذا غوامض الأمور لا يمكن إدراكها وفهمها إلا باجتماع الأفكار والعقول.

وقد ذكر المؤرخون: إن إحدى القبائل العربية قبل ظهور الإسلام كانت موفقة في أمورها: في سياستها، واقتصادها، وحربها، وسلمها، وغير ذلك.. وعندما سألوا كبيرهم عن سر نجاح هذه القبيلة، أجاب: إننا لا نقدم على أي عمل إلا بعد أن نستشير الخبراء، ونأخذ بأفضل الآراء، وبذلك تقل أخطاؤنا، ويزداد تقدمنا.

لقد قسم الله (العقل) بين عباده.. وعلى الإنسان أن يضم عقول الآخرين إلى عقله حتى يتجنب المزالق، ويهتدي إلى سواء السبيل.

والحادثة التالية تؤكد هذه الحقيقة:

(البهلوي الأول رضا شاه كان من عملاء الاستعمار.. وعندما وصل إلى الحكم عمل على تحطيم إيران سياسياً، وثقافياً، واقتصادياً، ودينياً و...، وكان ضمن ما عمل: أن هدم المساجد، وجعلها إسطبلات، وهدم المدارس العلمية وجعلها مراقص وملاهي ومخامر ومقامر.. وفرض السفور الإجباري على النساء.. وذات مرة طلب الشاه (إمام جمعة) طهران وقال له: الواجب عليك أن تشكل مجلساً مختلطاً من الرجال والنساء العاريات، وتدعو إلى هذا المجلس رجال الدين والخطباء والعلماء باعتبارك إمام جمعة طهران، وإن لم تفعل ذلك

فسوف أقتلك، وأصادر أموالك..

يقول العالم: تحيرت في أمري، واستمهلت البهلوي أسبوعاً حتى أفكر فيما أصنع.. وقد خطر ببالي أن أذهب إلى أحد العلماء الكبار كي أستشيره في الأمر، فذهبت إليه وقلت له: بم تشير عليّ؟

فقال: اعلم أن للإنسان مالاً وجسماً وعرضاً وديناً، وعلى الإنسان أن يضحي بماله في سبيل جسمه، وإذا دار الأمر بين التضحية بالجسم أو العرض فعلى الإنسان أن يفدي بجسمه في سبيل الحفاظ على عرضه، وإذا دار بين الثلاثة (المال والجسم والعرض) وبين الدين فالواجب أن يفدي بهذه الثلاثة في سبيل الدين.

ثم قال لي: (يا فلان إنك عمّرت طويلاً، ولم يبق من عمرك إلا القليل، وإنك إذا قتلت في سبيل الدين فسوف تذهب إلى جنان الله، أما لو عملت بما قاله الشاه فمصيرك في الدنيا العار، وفي الآخرة النار، اذهب إلى البهلوي وقل له: لا أفعل ما طلبت، وافعل بي ما شئت.

قال العالم: فاستقرت نفسي، ولما حلّ الموعد ذهبت إلى البهلوي وقلت له: إنني لاأفعل ما طلبت. قال: ولم؟

قلت: لأنني غير مستعد أن أبيع ديني بدنياي. قال: سوف أقتلك.

قلت: لا يهمني ذلك.. وإن أُقتل الآن في طاعة الله خير لي من ألقاه وقد عصيته.

قال العالم: فغضب البهلوي غضباً شديداً.. ولكني توسّلت إلى الله سبحانه أن ينقذني من شرّ هذا الطاغوت.. وفعلاً استجاب الله دعائي، ولم يصل إليّ سوء.. وحفظت ديني ببركة استشارة ذلك العالم.

وهكذا يجب أن يكون التنظيم استشارياً في كل أموره.. حتى يتجنب الأخطاء، ويتوقى العثرات.

5 التنظيم التوعوي

التوعية على قسمين:

القسم الأول: التوعية العامة.. وهي التي تعمل على إعطاء (الرشد الفكري) لألف مليون مسلم، وقد سبق الحديث حولها.

والقسم الثاني: التوعية الخاصة.. وهي التي تعمل على إعطاء (الوعي المركز العميق) لكل أفراد التنظيم.

فالتنظيم إذا

لم يكن توعوياً، لم ينجح في تخطيطه وعمله وسلوكه أولاً، ويقع ألعوبة بيد المستعمرين والمستبدين ثانياً.

وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: *قصم ظهري اثنان: عالم متهتك، وجاهل متنسك*(65).

فالعالم الذي لا يتقيد بالموازين، والجاهل المتنسك الذي لا يفقه الأمور.. كلاهما يؤدي بالأمة إلى البوار..

وفي التاريخ الإسلامي شواهد كثيرة على ذلك..

فقد كان للإمام أمير المؤمنين عليه السلام جيش منظم، لكن لم تسنح الفرصة للإمام عليه السلام كي يغرس الوعي في جميع أفراد هذا الجيش

مبايعة الإمام بالخلافة وشن الحرب عليه

ولذلك رأينا كيف انقلبت مجموعات من هذا الجيش (الخوارج) رأساً على عقب.. فبينما كانوا يحاربون الأعداء تحت لواء الإمام في حرب (صفين) أخذوا بمحاربة الإمام نفسه في (النهروان) !

إذن.. فمن الضروري أن يهتم القائمون بالتنظيم لإعطاء الوعي الشامل العميق لأفراد التنظيم حتى يفقهوا الدنيا، ويفقهوا الدين.. لكي يفهموا كيفية تطبيق الإسلام في العصر الحاضر؟ وكيفية دحر الاعتداء؟ ويعرفوا ماذا يحيك المستعمرون ضد المسلمين من المؤامرات؟ وكيفية إفشال هذه المؤامرات؟

قبل ثلاثة عقود كتب رجل ألماني اسمه (بول أشميد) كتاباً سماه (الإسلام قوة الغد)، ويذكر في هذا الكتاب: إن على الحكومات الغربية أن توحد صفوفها وتكرس جهودها لأجل إعادة الحرب الصليبية مرة أخرى ضد المسلمين، وأنه إذا لم تفعل الحكومات الغربية ذلك فسوف ينتصر المسلمون عليهم.

ثم يستدلّ على هذه المقولة بأن المسلمين يمتلكون أربع قوى هائلة، وإذا وعى المسلمون لما يمتلكونه من قوى جعلوا منها حربة قاتلة ضد الغرب.

وما هي هذه القوى؟ إنها كما يقول أشميد :

أ: خصوبة النسل.. فهم يؤمنون بتعدّد الزوجات، وبكثرة النسل لأن نبيهم صلي الله عليه و اله قال: *تناكحوا تناسلوا، تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسقط*(66). وهذا ما يسبب كثرة

عددهم.

ب: القوة الاقتصادية.. فهم يملكون بحيرات الذهب الأسود (النفط) روح الاقتصاد المعاصر، ويمتلكون معادن هائلة يتمكنون بها لا من النهوض فحسب وإنما من السيطرة على الغرب أيضاً.

ج: الموقع الاستراتيجي. فإن بلادهم تقع بين الشرق والغرب.

د: الدين الوثاب.. فإن دينهم دين عالمي تقدّمي.. وليس ديناً قومياً أو قبلياً أو جامداً.. والمسلمون يرون أنفسهم مكلفين بنشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.

ثم يحذر (أشميد) الحكومات الغربية مرة أخرى من المسلمين، وينصحها بأن تشن الحرب الصليبية ضد المسلمين، ولكن بأسلوب عصري.

هذا ما ذكره هذا الكاتب قبل حوالي ثلاثين عاماً.

وقد شاهدنا هذه (الحرب الصليبية) بصيغتها العصرية متمثلة في: قومية ناصر، ووجودية سارتر، ورأسمالية فهد، وبعثية عفلق.. وشاهدناها متمثلة في إسرائيل الغاصبة رأس الحربة الاستعمارية في المنطقة .. وشاهدناها متمثلة في تبديل الثقافة الإسلامية إلى ثقافة شرقية أو غربية.. في الماسونية، والبهائية، وسائر الأحزاب الاستعمارية..

وعلى كل حال.. فإن من الضروري أن يعي التنظيم ما يدور حوله.. أن يعي ماذا يعمل المستعمرون وعملاؤهم ضد المسلمين.. وكيف أنهم متحدون رغم اختلاف مصالحهم وأفكارهم أمام المسلمين،*يَا َأيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ*(67) وكيف خططوا حتى أجروا أنهار الدماء في بلادنا.. في أفغانستان.. لبنان.. فلسطين.. الحدود العراقية الإيرانية.. أريتريا.. الفلبين.. بورما.. وغيرها..

هذا في الجانب السلبي..

وفي الجانب الإيجابي، على التنظيم أن يفهم بعمق: السياسة الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والثقافة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، والدولة الإسلامية.. و.. و..

فإذا وعى التنظيم أصبح تنظيماً قوياً صامداً (تزول الجبال ولا يزول)، وإلا كان أفراده *همجاً رعاعاً، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق*(68)! ولن يكون المصير عندئذٍ إلا التقهقر والانهيار!

6 التنظيم الحديدي

كان الأساس الثاني من أسس إقامة حكومة الألف مليون مسلم: (التنظيم) بينما كان الأساس الأول: (التوعية)، وقد ذكرنا في بحث سابق موضوعاً حول ضرورة تنظيم الحركات. أما في هذه الحلقة فيدور الحديث حول وجوب أن يكون التنظيم حديدياً مع حرية القاعدة، وكيف يكون التنظيم كذلك؟

التنظيم الحديدي يجب أن تتوفّر فيه شروط:

الشرط الأول: إطاعة القاعدة للقيادة إطاعة كاملة وعن اقتناع.

الشرط الثاني: انتخاب القاعدة للقيادة، لأنه إذا لم يكن هنالك انتخاب من القاعدة للقيادة انتخاباً حراً لا يكون التفاعل بين القمة والقاعدة تفاعلاً عن اقتناع ومن أعماق النفس. وبذلك يتحول التنظيم ديكتاتورياً. والديكتاتورية لابد من أن تزول إن عاجلاً أم آجلاً، لأن الاستبداد خلاف طبيعة البشر. فالأمة التي يحكمها المستبدّون لابد من أن تثور ذات يوم. كما أن القاعدة التي تحكمها قمة مستبدة تصبر ولكن لا تمضي مدة طويلة حتى تثور على القمة وتسقطها، فالقمة يجب أن تُنفذ أوامرها تنفيذاً حرفياً. بينما يجب في قبال ذلك أن تكون القمة منبثقة عن القاعدة ومختارة من قبلها عبر انتخابات حرة مائة في المائة.

هذان شرطان أساسيان لأجل أن يكون التنظيم حديدياً،فلا ينفذ فيه خارج منه. ولايكون التنظيم متأرجحاً ومبعثراً ورخواً،وبمثل هذا التنظيم يمكن التقدم بالأمة إلى الأمام.

ثم يجب (ثالثاً) في التنظيم الحديدي أن لا يعاقب المخالف عن حسن نية عقابا يسبب له الانعزال، كالعقوبات الجسدية أو العقوبات المالية، وإنما يجب أن تكون العقوبة أدبية قبل ذلك. فإذا كان التنظيم هكذا قمة وقاعدة، وعلى فرض المخالفة تكون العقوبة أدبية، فإن هذا التنظيم يأخذ بالتوسع والانتشار، ويستهوي الناس فيكبر هذا التنظيم.. ويكبر.. ويكبر.. حتى يستوعب العالم الإسلامي كله.

إن لنا في قضايا رسول الله صلي الله عليه و اله خير أسوة،

فمثلاً: وجوب إطاعة القاعدة للقمة إطاعة حرفية درس نستلهمه من قصة معركة أحد، حيث هيأ المشركون جيشاً ضخماً لكي يحاربوا رسول الله صلي الله عليه و اله وتلاقى الجمعان والتحما في معركة عنيفة في مكان يبعد عن المدينة المنورة مقدار فرسخ، ويسمى ب (أحد) وحيث كان هناك جبل يسمى بجبل أحد، كان من الممكن أن يهجم منه المشركون على المسلمين، لذا فقد أمر رسول الله صلي الله عليه و اله جماعة من المسلمين، وهم زهاء خمسين مسلماً بقيادة صحابي يسمى ب(عبد الله) أن يكونوا على الجبل، وقال لهم: احموا ظهورنا، وأضاف: لا تبرحوا مكانكم سواء غَلبنا أم غُلبنا.

والتقى الجمعان، وقاتل المسلمون، وأبلوا بلاءً حسناً، وقتلوا جماعة من المشركين، وأخيراً: انهزم المشركون أمام زحف الإسلام وحكمة الرسول صلي الله عليه و اله.

وعندما أخذ المسلمون في جمع غنائم الحرب، قال أصحاب (عبد الله) ما لنا ههنا وإخواننا يجمعون المال وقد انهزم المشركون وولوا الدبر؟

قال عبد الله: إن رسول الله صلي الله عليه و اله أمر بذلك فلا تخالفوا أمره.

.. ولكن الدنيا حليت في أعين جماعة منهم وكان السبب أنهم كانوا جديدي عهد بالإسلام ولم يكن الدين قد أخذ بمجامع قلوبهم فتركوا أوامر عبد الله وأوامر الرسول صلي الله عليه و اله، وكلما هتف بهم عبدالله أن لا يبرحوا أماكنهم لم ينفع كلامه، فنزلوا من الجبل وأخذوا يجمعون الغنائم مع سائر المسلمين.

وانتهز الكفار الفرصة، وهاجموا المسلمين من الخلف بقيادة خالد ابن الوليد وأخذوا يقتلون المسلمين ويكثرون فيهم الجراح، وهكذا انهزم المسلمون وصار الغلب للكفار، ولكن النبي صلي الله عليه و اله صمد، ومعه علي عليه السلام وبضع من المسلمين الآخرين.. وقاتلوا قتالاً شديداً حتى

استطاعوا أن يلحقوا الهزيمة للمرة الثانية بجيش الكفار، ولكن بعد أن قتل من المسلمين عناصر خيرة تقارب السبعين وكان فيهم حمزة سيد الشهداء عليه السلام.

وهكذا إذا كان التنظيم رخواً، وخالفت القاعدة القمة، فإن الأمر لابد وأن ينتهي إلى الفشل. ولكن إذا خالفت القاعدة القمة ولم تطع أوامرها فيجب أن تكون القمة حكيمة في اتخاذ الإجراءات المناسبة، فقد يقتضي الأمر العفو كما عفا رسول الله صلي الله عليه و اله عن المخالفين في (أحد)، سواء الذين كانوا على الجبل وخالفوا أمر الرسول صلي الله عليه و اله بالبقاء على الجبل، أو الذين انهزموا أمام جيش الكفار الزاحف وتركوا الرسول صلي الله عليه و اله وحده، وقد ذكرنا في كتبنا الفقهية: أن الحاكم الإسلامي يستطيع أن يعفو عن الم̘љŠإذا رأى ذلك صلاحاً.

وإذا رأت القمة العقوبة فالأفضل أن تجعل العقوبة، أدبية لا مادية أو جسمية، ولذا نرى أن الرسول صلي الله عليه و اله كان: يعفو عن المتخلّفين أو يضع عليهم عقوبة أدبية فمثلاً:

في غزوة تبوك تخلف ثلاثة أفراد عن الجهاد مع رسول الله صلي الله عليه و اله والخروج معه، ولم يكن لهم عذر في ذلك، وعندما رجع الرسول رأى معاقبتهم حتى يرتدع غيرهم بذلك، فماذا فعل الرسول صلي الله عليه و اله؟ أمر المسلمين أن لا يجالسوهم ولا يؤاكلوهم ولا يسلموا عليهم ولا يجلسوا في مجلس هم فيه، بل إنه قال لزوجاتهم: اطبخن لهم الطعام ولكن لا تتكلمن معهم، ولا تقربن منهم في الفراش.

وبذلك وقع هؤلاء المتخلّفون في حصار اجتماعي صارم حتى ضاقت عليهم أنفسهم، وكانت النتيجة: أنهم تابوا من عملهم، كما سبب ذلك: اعتبار الآخرين بهم.

وقد وردت قصتهم في القرآن الحكيم، حيث قال الله تعالى:

*وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُواْ حَتّىَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنّوَاْ أَن لاّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ*(69).

وهكذا فإن من الضروري أن يكون تأديب القمة للقاعدة المخالفة للأوامر تأديباً صارماً ولكن أدبياً في نفس الوقت، فإن التأديب الأدبي والعقوبة الاجتماعية يسببان ارتداع الإنسان المخالف نفسياً، لأن العقوبة ليست من القمة، وإنما هي من أفراد المجتمع الذين لا يتكلمون معهم، ولا يعاشرونهم، ولا يحضرون في محضر هم فيه، مثلاً.

وإننا لا نقول: إنه يجب أن يكون العقاب هكذا دائماً، وإنما نقول: يجب أن نتخذ من سيرة الرسول صلي الله عليه و اله درساً لكيفية جمع الشمل وعقاب المخالفين مخالفة سياسية (لأن أمثال هذه المخالفات: سياسية، وليست مخالفات اجتماعية كالزنا وشرب الخمر، وقتل النفس كما هو واضح). إذن.. فالواجب علينا إذا أردنا التنظيم الإسلامي الواسع النطاق لإنقاذ ألف مليون مسلم أن نجعل من تنظيمنا تنظيماً حديدياً، وحراً في الوقت ذاته، وإنما تكون الحرية: إذا كانت القمة منتخبة من قبل القاعدة انتخاباً حراً من ناحية، وكانت الأوامر نابعة من الاقتناع، لا من الإكراه والقسر، من ناحية ثانية.

7 لا لصنمية التنظيم

يجب أن يكون التنظيم واقعياً لا صنمياً. يعني: لا يُجعل من التنظيم صنماً ويكون معياراً في الأخذ والعطاء والرد والقبول، وإنما يكون وسيلة إلى إقامة ونشر العدل وتوسيع رقعة الإسلام وإنقاذ المسلمين من المستغلين، بل وإنقاذ غير المسلمين، فإنه كثيراً ما يصبح التنظيم صنماً ويكون هو المحور، لا الحق، وهذا أخطر ما يقع فيه التنظيم الإسلامي، لأنه إذا صار التنظيم صنماً فبطبيعة الحال لا يكون إسلامياً، لأن الحق يجب أن يُتَّبع، والتنظيم يجب أن يكون آلة لتطبيق

الحق لا أن يكون معياراً فيبتعد عن الحق.

وإذا ابتعد التنظيم عن الحق سبب ذلك أمرين:

الأمر الأول: انفضاض الناس عن التنظيم، لأنهم يريدون الحق فإذا رأوا التنظيم يسير في مسلك، والحق يسير في مسلك آخر اتبعوا الحق وتركوا التنظيم.

الأمر الثاني: حينئذ لا يكون التنظيم إسلامياً، وإنما يكون أهوائياً، والتنظيم الأهوائي لا يصل إلى الإسلام، وإنما يصل إلى ما يضاد الإسلام، وكيف يكون الأساس غير إسلامي والبناء إسلامياً؟ فإن هذا غير معقول، لان المبنى يبنى عليه من نحوه كما هو واضح، وفي الأمثلة الإسلامية وغير الإسلامية قصص كثيرة في أن (فاقد الشيء لايعطيه)، وأن التنظيم لو لم يكن إسلامياً لا يمكن أن يعطي الإسلامية.

شاهد من التاريخ

جاء شخص إلى رسول الله صلي الله عليه و اله وقال: (يا رسول الله إن لي ولداً يضره أكل التمر وكلما نهيته لم ينته فأمره يا رسول الله بترك أكل التمر).. قال النبي صلي الله عليه و اله: *لا بأس* لكنه لم ينه الولد عن أكل التمر في ذلك اليوم، وإنما أخّر النهي إلى اليوم الثاني، وفي الغد نهاه عن أكل التمر فانتهى، إطاعة للرسول صلي الله عليه و اله. رأى الشخص رسول الله صلي الله عليه و اله بعد ذلك، وقال: (يا رسول الله لماذا لم تنه الولد في نفس اليوم)؟ قال النبي صلي الله عليه و اله: كنت في ذلك اليوم قد أكلت التمر وآكل التمر لا ينهى عن أكل التمر.

إن كلام الرسول صلي الله عليه و اله صحيح اجتماعياً، وإن كان الأمر دائراً مدار الواقع، يعني أنه يباح للإنسان أكل التمر، ولكن لا يصح له اجتماعياً أن ينهى عن ذلك، لأن المنهي عنه لو رأى الناهي قد ارتكب

ما ينهى عنه فلا يرتب أثراً لكلام الناهي وإنما يقول: (إذا كان ما ينهى عنه صحيحاً فلماذا لم ينته هو عنه؟ وإذا كان ما يأمر به صحيحاً فلماذا لا يأتمر به هو)؟. صحيح أن كثيراً من العقلاء يفرقون بين الآمر والمأمور والناهي والمنهي عنه، لكن النظرة الاجتماعية والتي يجب مراعاتها حسب قوله صلي الله عليه و اله: *إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم*(70) تقضي أن يكون الإنسان عند أمره ونهيه، وإلا إذا رأيت إنساناً يأكل طيباً من الطعام ويقول لغيره: كن زاهداً! لابد وأن تقول في نفسك أو بلسانك: (إذا كان الزهد خيراً فلماذا لا تتزهد أنت)؟ ومن الممكن أن يكون هو مقبلاً على الطعام الطيب لا من جهة الشهوة وإنما من جهة المرض، لكن من الطبيعي أن يرى الناس (العمل قبل القول)، ولهذا ورد في الحديث: (عظوا الناس بأعمالكم قبل أقوالكم).

فهذا الشيء يجب على التنظيم مراعاته، فلا يكون صنماً يُعبد، فيكون الميزان في الحق والباطل هو التنظيم، بل اللازم أن يخضع التنظيم لمقاييس الحق والباطل.

في كلام للإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يقول: *يعطف الهوى على الهدى حين ما عطفوا الهدى على الهوى*(71).

إن التنظيم الذي لا يلتزم بالحق لا يتمكن أن يدعو إلى الحق، وإذا دعا إلى الحق كانت مهزلة، وانطبق عليه قول الله تعالى: *يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَتَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ*(72).

ومن كلام للإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): *لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به*(73).

وفي قصة من قصص العلماء يذكر: إن عبداً جاء إلى عالم وكان العالم خطيباً أيضاً وقال له: (إن لي مولى

وهو من المخلصين لكم، وأنا في شدة ومولاي يحضر تحت منبركم وهو يطيعكم، فشوقوه ليعتقني جزاكم الله خيراً).

قال العالم للعبد: لا بأس، ثم صعد المنبر في ذلك اليوم وبعد ذلك بأسبوع وشهر.. وشهور.. ولم يتفوه بكلمة في استحباب عتق العبيد.

وذات يوم تكلم حول استحباب عتق العبيد، وأن *من أعتق عبداً أعتق الله بكل عضو من ذلك العبد عضواً من المولى من النار*(74).. وأخذ يقرأ الأحاديث ويشوق الناس لعتق عبيدهم، وسيد العبد جالس تحت منبر العالم، فرجع إلى الدار وقال لعبده: (أنت حر لوجه الله تعالى، اذهب حيث شئت) فشكره العبد وجاء إلى العالم قائلاً: (جزاك الله خيراً إن مولاي أعتقني، ولكن لي سؤال، هو: لماذا لم تشوق في اليوم الأول الموالي لعتق عبيدهم، والآن وبعد ما مضى على الطلب عدة شهور تكلمت حول عتق العبيد)؟.

قال العالم: (نعم يوم طلبت مني لم يكن لي عبد ولم يكن لي مال، ومنذ ذلك اليوم أخذت أجمع المال، واشتريت عبداً وأعتقته كي يكون كلامي مؤثراً في سيدك، والله سبحانه وتعالى جعل التأثير في كلامي بعد عملي به ولهذا أعتقك مولاك).

هذا في الحقيقة مثل رائع لأن يكون الإنسان عند قوله لا أن يقول ما لا يعمل، لأن المجتمع يرفض كلامه عندئذ ولو كان معذوراً، إن التنظيم لو صار صنمياً لا تؤثر تعليماته وقراراته في القلوب *والموعظة إذا خرجت من القلب دخلت في القلب، وأما إذا خرجت من اللسان فلا تتجاوز الآذان*.

فالتنظيم يجب أن يكون حقانياً لا صنمياً وأهوائياً، فإنه لو كان واقعياً وقال للناس اتبعوا الحق لاتبعوه، وليس التنظيم معيار المدح والذم وإنما الحق هو المعيار، فيجب أن يكون في طريق الحق كي يكون إسلامياً.

طريق النصر الالتزام بما يلي:

خلال الحرب

العالمية الثانية بين الحلفاء وبين دول المحور، كانت الصحف الحرة في إحدى بلاد الحلفاء تهاجم الدولة إبان الحرب القاسية وتذكر أخطاء الدولة ونقاط ضعفها، انزعج الوزراء من هذه الصحف، وطلبوا من رئيس الوزراء أن يأمر بغلقها. قال رئيس الوزراء: إننا نحارب هتلر لأجل ديكتاتوريته، فهل يصح أن نعمل بالديكتاتورية! فلماذا إذن نحارب الديكتاتوريين؟ إن الذي يحارب الديكتاتوريين يجب أن يكون ديمقراطياً حسب اصطلاحهم أما أن نكون نحن مستبدين ونقول للناس حاربوا المستبدين فهذا مستحيل.

وكلما أصرّ الوزراء على رئيسهم بأن يغلق تلك الصحف المعارضة رفض ذلك، فصار موقف رئيس الوزراء موضع إعجاب الجماهير وسبباً لانجذابهم إليه، وهذه سنة اجتماعية دائمة.

في الحقيقة من يحارب الديكتاتور يجب أن لا يكون ديكتاتوراً، ومن يحارب الظلم يجب أن لا يكون ظالماً، ومن يحارب الكذب يجب أن لا يكون كذاباً، والتنظيم الذي يحارب الأصنام البشرية والحجرية ويحارب ما هو ضد الإسلام لا يمكن أن يكون صنماً، وإلا فلا جدوى من محاربته، لا إسلامياً ولا اجتماعياً، ومصيره النهائي هو الفشل المحتم، فلابد لكل تنظيم أن يراعي مقاييس الحق والواقع والصدق والصراط المستقيم، وبذلك يتوسع بإذن الله تعالى حتى يشمل كل بلد في العالم الإسلامي، ثم يقيم دولة إسلامية قوية ترفرف رايتها على ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.

8 جماهيرية التنظيم

معنى التنظيم الجماهيري

التنظيم الجماهيري يعني أن تكون مؤسسات التنظيم وعناصره ملتحمة بالجماهير، وأن ينظم طاقاتها ويقودها في معارك التحرر ضد الاستعمار والاستبداد، ولو فقد التنظيم صلته بالجماهير فسيعيش في الفراغ ولا يتطور، وبالنتيجة لا يستطيع تقديم الأمة إلى الأمام، ولا طرد الاستعمار من بلاد الإسلام، وإذا كان التنظيم جماهيرياً فالجماهير تغذيه.. فينمو ويتوسع حتى يستوعب العالم الإسلامي،

وتحدث عندئذ اليقظة الكاملة والحركة الشاملة ثم مكافحة الاستعمار وطرده.

مقومات التنظيم الجماهيري

أما كيف يكون التنظيم جماهيرياً؟

فالجواب: إنه إنما يكون جماهيرياً إذا اعتمد على مقومين رئيسيين:

الأول: القيادة النموذجية النزيهة:

إن القائد لو ارتمى في أحضان الفساد، والارتشاء، والاختلافات، والميوعة الخلقية، سقط عن عين الجماهير وانفضّ الناس من حوله، والجماهير لا تسلم زمام أمرها إلا إلى القائد النزيه، بناءً على هذا فاللازم على القيادات التنظيمية أن تكون في مستوى لائقٍ وسامٍ من النزاهة، وهذا العامل هو الذي جعل راية الأنبياء عليهم السلام تخفق على العالم، فإنهم كانوا في غاية النزاهة والعفة والزهد والخلق الكريم والفضيلة والتقوى والكرامة. وذلك واضح في شخصية عيسى، وإبراهيم الخليل، ولوط، وشعيب، وموسى الكليم، ويعقوب، ويوسف، ومحمد (صلوات الله عليهم أجمعين) وفي علي والأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام)، وفي العلماء الراشدين، وفي القادة المصلحين.

إن الذي يريد أن يقود الجماهير يجب أن يضبط أعصابه ويحفظ لسانه وعينه وأذنه وقلبه ولا يقدم على الدنيا، فقد قال عيسى عليه السلام: *الدنيا داء والعالم طبيب، فإذا رأيتم الطبيب، يجر الداء إلى نفسه فاتهموه*(75).

وقال أيضاً: *الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها*(76).

وقال علي عليه السلام: *إن دنياكم هذه أهون عندي من عراق(77) خنزير في يد مجذوم*(78)، انظر كيف وصف أمير المؤمنين عليه السلام الدنيا؟ وصفها عليه السلام بأقذر جزء من الخنزير وهو الأمعاء الممتلئة بالأوساخ فضلاً عن أنها بيد مجذوم.

إذن عدم انفصال التنظيم عن الجماهير بحاجة إلى نزاهة القائد نزاهة كبيرة وشاملة، وكلما كان القائد التنظيمي أكثر نموذجية في النزاهة كان اطمئنان الناس واعتقادهم به أكثر والالتفاف حوله أشد، وبذلك ينجح التنظيم في التقدم واكتساب الجماهير إلى خطه.

الثاني: احترام الجماهير.

المقوم الثاني للتنظيم الجماهيري هو احترام الجماهير، فإن كثيراً من

التنظيمات يأخذها الغرور والعجب بنفسها، فتنظر إلى الناس نظرة احتقار، وترى نفسها هي العاملة والآخرون كلهم خاملون! وجزاء الناس لهذه التنظيمات احتقارها وإهانتها.. مما ينتهي بشكل تدريجي إلى السقوط. يقول الشاعر:

فكلك سوآت وللناس ألسن

لسانك لا تذكر به سوءة امرئ

من الناس قل يا عين للناس أعين

وعينك إن أبدت إليك معايباً

فمن احتقر الناس احتقر، ومن اتهم اتّهم، ومن ظن بالناس سوءً ظنّوا به السوء، ومن دخل مدخل السوء تجنب منه الناس، فالواجب على القيادات التنظيمية أن يربوا تنظيمهم على احترام الناس وإكرامهم بقضاء حوائجهم، وعدم بناء الحواجز دونهم إلا بالقدر الضروري واستيعاب طاقاتهم لتنمو وتتوسع.

وفي سلوك الأنبياء والأئمة عليهم السلام الشيء الكثير من احترام الناس واستماع آرائهم، فقد جاء في الروايات: إن رسول الله صلي الله عليه و اله جاءه أعرابي خشن وهو جالس في مسجده وحوله جماعة من الصحابة، فطلب من النبي صلي الله عليه و اله حاجته، فلم يتمكن النبي من قضائها في ذلك الوقت، وبصورة ترضي الأعرابي، فأرجأه إلى وقت آخر، ولكن الأعرابي كان سيئ الأدب فتكلم بما لا يليق أن يقال عند النبي صلي الله عليه و اله فثارت حمية الأصحاب، وأرادوا تأديبه، إلا أن النبي صلي الله عليه و اله أمرهم بالكف عنه، ثم توجه إلى الأعرابي وقال له: تعال معي إلى الدار، فاصطحبه إلى الدار وأعطاه ما يرضيه وقال له: هل رضيت عني؟.

قال الأعرابي: نعم، رضي الله عنك يا رسول الله، ومدحه.

وقال له النبي صلي الله عليه و اله: اذهب وقل لأصحابي إني أرضيتك وإنك راض عني، فجاء إليهم في المسجد ومدح النبي صلي الله عليه و اله وأظهر رضاه عنه.

ويجدر بنا أن نتروى عند هذه الرواية لنسلط الضوء

على أمور ثلاثة مهمة:

الأمر الأول: أن النبي صلي الله عليه و اله بفضل خلقه الكريم لم يرض أن يقابل الإساءة بالإساءة، بل قابلها بالإحسان، ليعطي درساً حيوياً للعاملين على إصلاح المجتمع في التأثير فيهم بالأسلوب الأقرب للإيمان والتقوى، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: *وَأَن تَعْفُوَاْ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ*(79). وقال أيضاً في محكم كتابه: *خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ*(80).

فإن الرسول الأكرم صلي الله عليه و اله أكبر من أن يترك حتى إنساناً واحداً يغضب ولو في أشد حالات الضرورة إلا إذا لم يكن هنالك مناص من ذلك . إنه صلي الله عليه و اله لا ينظر إلى سلوكه من خلال الطرف المقابل فحسب، بل ينظر إلى مدى تأثير العمل في نفوس الناس، وما هو الانعكاس الذي يؤدي إليه وما هي نتائجه في تصرفات الناس، فالنبي صلي الله عليه و اله كان دائماً يلاحظ الجماهيرية.

الأمر الثاني: إن النبي صلي الله عليه و اله لم يصرف الأعرابي لشأنه حتى أرضاه، والواضح أن من سياسة النبي صلي الله عليه و اله أنه لا يترك إنساناً حتى يقنعه بما يعطيه، ولا يصرفه إلا وقد أرضاه، وكذلك كانت سياسة أمير المؤمنين عليه السلام إلا في أقصى حالات الضرورة وما أندرها في حياة هذين العظيمين. وقد ذكرنا في كتاب القضاء وغيره من (الفقه) أن الحاكم الإسلامي له حق العفو عن الحدود الشرعية كما عفا رسول الله صلي الله عليه و اله وعفا أيضاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حسب ما رأيا من المصلحة.

الأمر الثالث: جاء في قصة الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله والأعرابي، أن الرسول صلي الله عليه و اله قال له: (اذهب وقل لأصحابي إني

أرضيتك وإنك راض عني) وقد فعل الأعرابي ما أمر به. لكن لماذا هذا الأمر؟

والجواب: إن النبي صلي الله عليه و اله يريد أن يشعر أصحابه بأنه حتى الأعرابي لم يغضب عليه، وإن لم تكن لذلك الأعرابي قيمة، وإن لم تكن هناك خشية من غضبه.

وهكذا تمكن الرسول صلي الله عليه و اله من تجميع الجماهير بصورة منقطعة النظير، وقد ورد في حديث أنه قال: (خير الولاة من جمع المختلف وشر الولاة من فرق المؤتلف).

وكيف كان، فالتنظيم إنما يكون جماهيرياً إذا احترم الجماهير واستمع لآرائهم وانتقاداتهم البناءة.

كيف يتعامل التنظيم مع الجماهير؟

يقع كل تنظيم بين شوكتين: شوكة الجماهير التي تريد مساواة عناصر التنظيم معها، وشوكة الهدف حيث يجب أن تكون الوسيلة بيد التنظيم حتى يصل إلى الهدف، ولأجل أن لا يتأثر بهذين الأمرين، يجب عليه أن يكون حازماً عاقلاً مفكراً، وأن يعرف مداخل الأمور ومخارجها، كي لا يفقد الجماهير من جهة، ولا يتوقف عن السير في طريق الهدف من جهة أخرى، فلأجل أن لا يخسر الجماهير ولا يضيع الهدف يجب عليه أن يحترم الناس وأن يسير معهم خطوة إلى الأمام، وفي هذه الحالة يكون التنظيم جماهيرياً.

إني قد لاحظت في التاريخ كثيراً من الحركات الإسلامية منذ مائة عام أنها فشلت في تقديم الأمة إلى الأمام، وإذا كانت قد قدمتها فقد كان التقدم وقتياً، بسبب أن تلك الحركات لم تكن تحترم شخصية الجماهير، وبالنتيجة انفصلت الجماهير عن تلك الحركات وظلت هي وحدها في الميدان، تنادي وتستنهض الهمم، فلا تسمع سوى صدى نداءاتها، وبانفصالهم عنها سقطت تلك التنظيمات. وما سقطت الحركات العاملة في العراق قبل 2540 عاماً إلا لأجل ما ذكرناه، وقد كان مجموع الأحزاب في العراق أربعة وأربعون حزباً

من مختلف التنظيمات والانتماءات، ولم تتمكن من شيء يذكر! لماذا..؟ للأمرين الذين سبقت الإشارة إليهما.

الأمر الأول: سقوط جملة من القيادات التنظيمية في أوحال المادة: الدور، القصور، السيارات، الوظائف، الأهواء، الشهوات، فكان الناس من جراء انغماس القادة في هذه الأشياء لا يطمئنون إليهم، فأدى إلى أن انفضوا من حولهم، والنتيجة الفشل الذريع الذي أصاب التنظيم.

والأمر الثاني: أنها كانت تزدري بالناس والجماهير وتهزأ بهم وتغمزهم وتترفع عنهم، وهكذا كانت الجماهير تقابلهم بالمثل، والنتيجة الوحدة في الساحة، حيث لا قاعدة جماهيرية ولا أناس مؤيدين.

إذن، إذا أردنا إقامة حكومة ألف مليون مسلم فعلينا أن نلتزم بمقومات التنظيم الجماهيري الواسع وعندئذ نتمكن من التقدم إلى الأمام بإذن الله تعالى.

9 التنظيم وإرضاء الجماهير

هذه الحلقة من الحديث هي ضمن السلسلة التي تناولت بحث مسألة التنظيم وضرورة جماهيريته والأسس التي يعتمد عليها، وسيدور البحث هنا حول (ضرورة إرضاء الجماهير) وطبعاً (رضا الناس غاية لا تدرك)، لكن المقصود من ذلك هو خدمة التنظيم للجماهير، ومحاولة جذب ودهم قدر المستطاع ضمن إطار رضا الله سبحانه.

الجماهيرية شيء صعب، لكنها محمودة العاقبة، وصعوبتها تنبع من أن للجماهير حاجاتها، والتنظيم إذا لم يعط الجماهير مطاليبها فسرعان ما يخسرها، وإذا خسرها كان السقوط لا محالة.

أما أن إعطاء مطاليب الجماهير أمر صعب، فذلك لأن الجماهير لها آراؤها وأفكارها وحاجاتها وأسلوب عملها واجتماعاتها وغير ذلك، وهذه الأمور تضغط على التنظيم ضغطاً كبيراً، لكنّ تحمّل صعوبة إعطاء مطاليب الجماهير أسهل من تحمّل وجود الأعداء. ولابد للإنسان أن يواجه ضغطاً معيناً، إما ضغط الصديق وإما ضغط العدو، وضغط الصديق أسهل وأحمد عاقبة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن الجماهير لا تنظر إلى الهدف غالباً، بينما التنظيم وقياداته ينظران إلى الهدف بصورة مستمرة، ونظراً لاختلاف

النظرتين ينشأ التناقض فيعيقهما جميعاً عن التقدم إلى الأمام، فما العمل الذي يحصن التنظيم عن رفض الجماهير له؟

الواقع، يجب أن يكون التنظيم على قدر كبير من التعقل والحزم، حتى يتمكن من إطفاء النار لو صح التعبير التي تشب بينه وبين شرائح معينة من الجماهير، وبذلك يستطيع الجمع بين الجماهيرية وبين الهدف، وهذا ليس بالأمر السهل، إلا أنه ممكن، ولذا نجد في الحياة الإصلاحية كالأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وغيرهم أمثلة لهذا الأمر.

أمير المؤمنين عليه السلام والجماهير

الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان هو الرئيس الأعلى لأكثر من خمسين دولة، حسب التقسيم الجغرافي الاستعماري الحديث، وكانت دولة الإمام عليه السلام أكبر دولة آنذاك، ورغم ذلك كان يخرج عليه السلام من (دار الإمارة) إلى الناس، ويتعقب أمورهم بنفسه، ويوفر لهم حوائجهم فرداً فرداً، ويتحرى رضاهم، وذات مرة كان يمر عليه السلام في إحدى أزقة الكوفة وإذا به يرى امرأة جالسة تبكي فتوجه إليها الإمام عليه السلام قائلاً: (يا أمة الله لم جلوسك هنا ومم بكاؤك) ؟

قالت: (يا هذا إن أهلي أرسلوني لأشتري تمراً واشتريته وذهبت به إلى الدار، وإذا بهم يأمرونني بردّه، فرجعت إلى التمار وطلبت منه أن يسترجع التمر ويرد لي دراهمي، فلم يقبل بذلك، وأنا أمة مملوكة والآن أنا حائرة، فإن رجعت إلى أهلي غضبوا علي، والتمار لا يقبل الاسترجاع فلا أعلم ماذا أصنع).

قال لها الإمام عليه السلام: يا أمة الله قومي معي إلى التمار. فقامت مع الإمام عليه السلام وذهبا إلى التمار، وكان شاباً مغروراً، فنصحه الإمام قائلاً: (هذه أمة لا تملك من أمرها شيئاً فخذ التمر وردّ عليها الدراهم). لكن الشاب أخذ إناء التمر من يد المرأة ونثر التمر في

الطريق وسبّ الإمام عليه السلام وهو لا يعرفه وقال له: (ما أنت والتدخل بيني وبينها)!

فلم يتكلم الإمام شيئاً، وانصرف الشاب إلى عمله، وتحيرت المرأة إذ صار الأمر أصعب، فقد فقدت الدراهم والتمر، وفي فترة وجيزة حيث كان الشاب منشغلاً بعمله، مرت بعض شخصيات دولة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في السوق فلاحظوا الإمام واقفاً هناك، فأتوا ووقفوا إلى جانبه، وفجأة يلتفت الشاب إلى الرجل وإذا به يراه واقفاً وحوله كوكبة من شخصيات الدولة، فتحير من ذلك فمن هو هذا الرجل؟ ولماذا يجتمع هؤلاء حوله وهم لا يتكلمون وكأن على رؤوسهم الطير؟. فسأل من أحد أصدقائه من هذا؟ ومن هؤلاء الواقفون حوله؟ فقال له: هؤلاء واقفون احتراماً لهذا الرجل.

قال: ومن هذا الرجل؟

قال له: هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. أخذ الشاب يرتعد ويرتجف، واصفر لونه وقفز من دكانه يقبّل قدم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ويقول: يا أمير المؤمنين ما عرفتك، اعف عني، ارض عني يا أمير المؤمنين.

قال له الإمام عليه السلام: اذهب وأقِل الجارية وأعطها دراهمها واجمع تمرك، أما ما طلبت مني أن أرضى عنك؟ فما أرضاني عنك! إن أصلحت أمرك(81) وأرضيت الناس عن نفسك. هذه الكلمة الكبيرة سر النجاح، وهو دستور ليس للزعماء فحسب، بل لكل إنسان يريد أن يعيش بسلام ويكون محبوباً عند الجماهير: (ما أرضاني عنك! إن أصلحت أمرك وأرضيت الناس عن نفسك) القائد، العالم، الخطيب، رئيس الدولة، الموظف، يجب أن يلاحظوا مسألة (رضا الناس) وإلا سقطوا. ثم قفز التمار إلى الدكان وأخذ الدراهم وقدمها إلى الجارية، ثم جمع تمره وأرجعه إلى مكانه. إن الإمام عليه السلام كان يلاحظ أن لايكون حتى إنسان واحد غير راض على

امتداد الوطن الإسلامي الرحب. فيجب على التنظيم أن يتخذ من هذا الأمر درساً لعمله الدائب في خدمة الجماهير.

إن أصحاب النفسيات السلبية الذين يتصورون أنهم الأفضل، ويقول أحدهم: (إن هذا رأيي) أو: (أنا أكثر فهماً) أو: (إن الجماهير لا تفهم وهي غير واعية) أو: (ما للجماهير والتدخل في هذه الشؤون) وما أشبه ذلك، نتيجتها انفضاض الجماهير من حول تنظيمهم وعدم توسعة التنظيم ونموه، وعدم وصوله إلى المستوى المطلوب، فلا يتمكن من إنقاذ العالم الإسلامي ولا حتى بلد واحد.

إن واجب التنظيم أن يلاحظ الجماهيرية على طول الخط، فإن الجماهير هي التي تتمكن من إنقاذ بلاد الإسلام لا جماعة خاصة من المثقفين فقط. إن مثل الجماهير كمثل الماء، إذا لم يكن ماء في البحر فلا تبقى الأسماك حية، والتنظيم مثله كمثل السمكة.

وقد نقل لي أحد المراجع عن قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) الذي أسس أول دولة إسلامية في كربلاء المقدسة: (إن الإمام الثائر قد التفت حوله الجماهير بصورة غريبة، الشيوخ والعشائر، الكبار والصغار، ضد بريطانيا الغاصبة، وكان وراء بريطانيا في ذلك اليوم أكثر من ألف مليون الهند بكاملها والصين والشرق الأوسط ومناطق أخرى من أفريقيا وغيرها لكن القائد الإسلامي المحنك تمكن أن يطرد الاستعمار البريطاني من العراق، وكان الازدحام هائلاً حول الميرزا محمد تقي الشيرازي ومن الطبيعي أن لا يتمكن المرجع وهو كبير السن أن يجمع بين القيادة الثورية وبين إعطاء حوائج الناس، وإنه رحمة الله عليه قال لنا نحن معاشر الطلبة وكنا صغاراً في ذلك اليوم :

(أيها الطلبة إني قبل الثورة كنت أتمكن من قضاء حوائجكم شخصياً وأما بعد الثورة فإني مشغول بالمسؤوليات، ولا

أتمكن من قضاء حوائجكم شخصاً شخصاً، كما إنكم لاتتمكنون أن تصلوا إلي للازدحام الذي حولي، فإذا كانت لأحدكم حاجة فإني في كل يوم بعد صلاة الصبح أخرج إلى الشوارع الممتدة في أطراف كربلاء المقدسة، فيتمكن كل طالب علم أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد، أن يأتي في ذلك الوقت لأقضي حاجته).

هذا العالم الراوي للقصة يقول: إني شخصياً ذهبت إليه مرات عدة، وعندي حاجة مادية أو معنوية، وكنت أرى الإمام يمشي وحده، على النهر أو في الشارع المحاط بالأشجار، وأحياناً يذهب إليه فقير أو طالب أو جماعة لأخذ حاجاتهم وهكذا.

هذا الإمام الثائر، القائد الأعلى للمسلمين في ذلك اليوم كان يعطي وقته لفرد فرد من أفراد الأمة ويقضي حاجاتهم، وهذا هو سبب تمكنه من طرد بريطانيا من بلد المقدسات العراق، تمكن أن يطرد هذا الاستعمار من العراق، للمحبوبية المنقطعة النظير التي اكتسبها جراء أخلاقه الطيبة وجماهيريته الواسعة. إذن، فإذا أردنا إنقاذ ألف مليون مسلم يجب علينا أن نؤسس أسساً قائمة على التوعية والتنظيم، والتنظيم يجب أن يكون جماهيرياً ومحبوباً، ويجب أن نجعل كلمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام التي يقول فيها: (ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك وأرضيت الناس عن نفسك)، شعاراً عملياً دائماً كي نصل إلى الهدف بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.

10 تنظيم المؤسسات والجمعيات

تكثر التنظيمات في الوقت الحاضر في الهند، والباكستان، وبنغلادش، وأفغانستان، والعراق، ومصر، وفلسطين، والخليج، وإندونيسيا، وتركيا، وغيرها. والى جنب هذه التنظيمات يوجد مفكرون كثيرون، ومكتبات، ودور نشر، ومطابع، ومجلات، وجرائد، وأحياناً مؤسسات إذاعية وتلفزيونية، وقد تمكن الشرق والغرب من جعل هذه التنظيمات والأجهزة الإسلامية متفرقة، كل واحد منها في ميدان بمفرده، فالشرق والغرب مجتمعون والتنظيمات الإسلامية متفرقة، ودائماً المجتمِع

يغلب المتفرِّق، وهذه سنة الله من القدم إلى الآن.

ولذا فمن الضروري على التنظيم الإسلامي الواعي الذي يريد إقامة حكم الله تعالى في الأرض، وإقامة حكومة ألف مليون مسلم أن يعمل جاداً لأجل أن يصب كل هذه الأجهزة الإسلامية في تيار واحد عام، من جنوب بلاد الإسلام إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها، حتى تكون حركة واحدة وأمة واحدة كالبنيان المرصوص وتتمكن من أن تقاوم المستعمرين سواء الشرقيون منهم أو الغربيون أو وليدتهما الصهيونية العالمية وذلك ممكن بالكيفية التالية: أن تجعل أولاً مسودة تعاون، على أساسها تتوحد كل القوى الإسلامية من منظمات وجمعيات وحركات..

وفي المرحلة الثانية، تنتخب جماعة من المثقفين الذين يحملون الفكر الإسلامي حملاً جيداً ويلتزمون بالإسلام سلوكاً ومنهاجاً في حياتهم، وتكون مهمتهم صب طاقات الأحزاب والمنظمات والمكتبات ودور النشر والمؤلفين وما أشبه في تيار واحد.

أما في المرحلة الثالثة، فيتحركون لتشكيل قيادة واحدة، ويتم تشكيلها بانتخاب الأكثرية، فتتخذ قرارات مناسبة لتكوين الحركة الإسلامية الواحدة، وكل القوى والأحزاب والمنظمات الإسلامية وغيرها تصب في هذا التيار الواحد، ويكون مثله كمثل النهر الكبير الذي يبتدئ بقطرات ثم تصبح عيوناً ثم أنهارا صغيرة ثم أنهارا متوسطة تصب في النهر الكبير.

وهذا الأمر ممكن ويسير إلا أنه يحتاج إلى حركة عاقلة وحازمة ومفكرة ومخلصة ومضحية قادرة على توحيد هذه الجهود.

لقد فعل الرسول الأعظم صلي الله عليه و اله نفس الشيء ولكن بشكل آخر، كانت القبائل العربية قبل عهده صلي الله عليه و اله متنافرة وأحياناً متناحرة، فجاء الرسول صلي الله عليه و اله وأخذ يجمع القبائل حول كلمة (لا إله إلا الله) و(محمد رسول الله) وما يتبعها من وجوب تطبيق شرائع الإسلام، فوحد القبائل والمدن وجعلها كلها

في تيار واحد.

ومن يطالع حروب الرسول صلي الله عليه و اله يرى فيها الاتساع البشري، مثلاً في حرب بدر وهي أولى حروب الرسول صلي الله عليه و اله كانت الجماعة المسلمة التي خرجت للحرب زهاء ثلاثمائة، فأصبحوا للحرب التي تلتها ألفاً، وفي الحرب الثالثة ألفاً وثلاثمائة تقريباً، ثم ألفين ثم ثلاثة آلاف، وفي حرب أخرى بلغ عددهم سبعة آلاف، وفي فتح مكة عشرة آلاف مقاتل، وفي حرب حنين بلغ عدد الجيش الإسلامي اثني عشر ألفاً، ثم تصاعد عددهم إلى ثلاثين ألفاً في حرب تبوك، وأخيراً نرى أن رسول الله صلي الله عليه و اله لما عزم على حجة الوداع تجمع حوله كما تشير بعض الروايات مائة وثلاثون ألفاً، وهذا التصاعد يعطينا دليلاً على إمكانية تصعيد التجمعات الإسلامية في العصر الحاضر.

في ذلك اليوم كانت القبائل وهي عبارة عن تجمع طبيعي للإنسان، مصدره الولادة والانتساب، أما اليوم فالتجمعات أصبحت ثقافية على شكل جمعيات وأحزاب وتنظيمات، وهذه المؤسسات في الإمكان أن نجمعها في تيار إسلامي واحد منظم وقوي، وذلك باجتماع منظمة إلى أخرى إلى ثالثة ورابعة و....، إلى أن يأتي يوم يكون لنا فيه تيار إسلامي واحد من أقصى بلاد الإسلام إلى أقصاها.

وهذا التيار الإسلامي الواحد يتمكن من التصرف في البلاد الإسلامية تصرفاً واحداً، ويلتف حوله المسلمون، وبعد ذلك فالويل للمستعمر الشرقي والغربي لو أراد مواجهة هذا التيار، لأن هناك بالإضافة إلى القوة الإسلامية العددية تكون القوة الكيفية *وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ*(82).

هذه القوة الكيفية غير موجودة لا في الشرق ولا في الغرب، فإذا جمعنا إلى هذه القوة الكيفية والقوة العددية أيضاً حسب قوله تعالى: *وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن

قُوّةٍ*(83) توحدت بلاد الإسلام تحت حكم الله تعالى الذي ينضوي تحت لوائه آنذاك ألف مليون مسلم، وآنئذ يرجع المسلمون إلى ما كانوا عليه من السيادة والسعادة والقوة ويتمكنون من إنقاذ المستضعفين من براثن المستغلين سواء في داخل بلاد الإسلام أو في خارجها، كما قال ذلك القائد الإسلامي لرستم القائد الفارسي في حرب وقعت بين المسلمين والفرس حيث سأله (رستم) ماذا تريدون؟

فأجابه القائد الإسلامي: إننا نريد أمرين: الأول: أن ننقذ أفكار البشر من الخرافة إلى الحقيقة، عبادة الملك، عبادة النار، عبادة البقر، عبادة الصنم، نريد إنقاذ الأفكار من هذه الخرافات الزائفة إلى عبادة الله الواحد القهار، الخالق الرازق، المحيي المميت،الذي بيده كل شيء.

قال رستم: ما أجمل هذا الشيء وما أجمل ما تدعون إليه، ثم ماذا هو الأمر الثاني؟

أجابه القائد الإسلامي: الأمر الثاني: (أن نخرج عباد الله من ضيق الأرض إلى سعتها). ماذا تعني هذه الكلمة: (أن نخرج عباد الله من ضيق الأرض إلى سعتها)؟

أنت إذا أردت السفر من بلدك إلى بلد آخر تحتاج إلى جواز و(الروتينيات) الإدارية المعقدة. أليس هذا ضيقاً، وإنما الإسلام يقول: الأمة واحدة، والأرض لله.

ثم إنك إذا أردت التجارة، أو الزراعة، أو الصناعة، أو العمل، أو العمارة، أو إبداء الرأي، أو إصدار صحيفة، فإنك تحتاج إلى الإجازة، والرواح والمجيء، والرسوم، والجمارك، والمكوس، و... وكل هذه الأمور تضييق على الإنسان..

لقد أصاب الإنسان الضيق حيث أعرض عن ذكر الله تعالى، يقول القرآن الحكيم:

*وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ* قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ*(84).

لقد وقعنا في ضيق الأرض بعد تركنا أحكام الله سبحانه، ولا يمكن

أن نخرج أنفسنا من الضيق إلى السعة إلا إذا أطعنا الله في توحيد بلاد الإسلام، وتوحيد الأمة المسلمة تحت لواء (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وصار القرآن الكريم والسنة المطهرة دستوراً لحياتنا.

قال رستم للقائد الإسلامي: وما أجمل هذا الأمر الثاني أيضاً.

ثم وجه رستم كلامه للقائد الإسلامي وقال له: إذا قبلنا هذين الأمرين، فهل تتركونا، وتعودون إلى بلادكم؟

أجاب القائد الإسلامي: نعم والله، إننا لا نحارب من أجل المال والسلطان والأرض.. وإنما نحارب لإنقاذ البشر من الخرافة إلى الحقيقة، ولإنقاذ المستضعفين من ضيق الأرض إلى سعتها.

فقال رستم: وما أجمل هذا أيضاً.. ولكن قومي لا يقبلون ذلك..

ثم وقعت الحرب، وكانت كلمة الله هي العليا..

إننا إذا تمكنا من توحيد القوى الإسلامية المختلفة في تيار واحد عالمي فإننا نستطيع عندئذ إنقاذ أنفسنا.. فلا ترى أثراً لإسرائيل الغاصبة، ولا للشيوعية المعتدية، ولا للغرب المستعمر.. ولا شيئاً من المشكلات التي يواجهها المسلمون اليوم..

ونسأل الله أن يجعل ذلك اليوم قريبا.

الأساس الثالث أخلاقيات الحركة الإسلامية

1 التعاون الإسلامي الشامل

التعاون هو الأساس الثالث من الأسس العامة للحركة، وهذا الأصل يجب أن يكون قبل الحركة، ومع الحركة، وبعد الوصول إلى دولة ألف مليون مسلم، بإذن الله تعالى.

والتعاون يعني نبذ كل التفرقات، والتنسيق بين كافة المنظمات والأحزاب والجمعيات والمكتبات ودور النشر والمؤلفين ووسائل الإعلام وما أشبه. يجب علينا أن نفكر في التعاون تفكيراً جدياً وأن نجعله تطبيقاً خارجياً، وإلا فالمستعمرون يفرقون بيننا بألف اسم واسم، ويحاولون جر الحركة إلى التشتت ثم يهدمون الحركة جزءً جزءً، حتى تكون البلاد لقمة سائغة في أفواه المستعمرين من صليبيين وشيوعيين وصهاينة، يقول الله تعالى: *لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ*(85).

المشركون ذلك اليوم هم الشيوعيون هذا اليوم، واليهود ذلك اليوم هم الصهاينة في هذا

اليوم. وفي آية أخرى يقول الله تعالى: *لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ*(86). والنصارى في ذلك اليوم هم الصليبيون في هذا اليوم المتمثلون في الدول الأوروبية وأمريكا وما إليها.

فلنجعل التعاون بين كافة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم واجتهاداتهم وبلادهم وقومياتهم وجنسياتهم وألوانهم وسائر المميزات بينهم، لنجعل توحيد الكلمة والتعاون هو الأصل العام الذي يرجع إليه الكل قبل الحركة ومع الحركة وبعد الحركة حين الوصول إلى الدولة الإسلامية.

وإن الكل له الحق في إبداء الرأي والمناقشة وتحري الحقيقة، لكن هذا شيء، والمحاربة وتبادل الاتهامات، والتفرقة، والتشتت، وابتعاد البعض عن البعض حتى ينتفع من ذلك المستعمر الكافر شيء آخر.

تاريخنا يؤكد ضرورة التعاون

إن قائد ثورة العشرين الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي رحمة الله عليه كان يعلم أن أكثرية الشعب العراقي هم الشيعة، أي زهاء ثمانين في المائة والسنة هم الأقلية. وكان الشيرازي مرجعاً للشيعة، وقد قام ضد الاستعمار البريطاني والتفت حوله عشائر الفرات الأوسط، والعلماء، والخطباء، والوجهاء، والأثرياء، والكتّاب، والمؤلفون، والشعراء، ومع ذلك لما أراد النهوض لطرد الاستعمار كان يقول: (يجب أن يشترك في النهضة الأخوان السنة) وكان يرسل إلى علمائهم وإلى شخصياتهم الرسل، ويأخذ آراءهم ويوحد الشيعة والسنة في النهضة، وبذلك اقتدى به الكل الشيعة والسنة لمحاربة الاستعمار ولطرده. كانت خطة حكيمة لأنه بدون هذه الخطة يتمكن الاستعمار من أن يصبغ حركة العراق بأنها حركة شيعية ويثير الدفائن، ويسبب إبعاد السنة عن الحركة، وبالنتيجة يبقى الاستعمار جاثماً على صدر الشعب، ويضرب هذا الطرف بذلك الطرف، ويكون العراق مستعمرة بدل أن يكون دولة مستقلة.

لماذا فعل الإمام الشيرازي هذا العمل؟

واضح أنه فعله تطبيقاً لقوله تعالى: *وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً

وَلاَ تَفَرّقُواْ*(87)، وبالفعل تمكن من القضاء على الاستعمار البريطاني، مع أن بريطانيا في ذلك اليوم كانت أكبر دولة في العالم، وكان العراق دولة صغيرة لا تصل نفوسها حتى خمسة ملايين، ووسائلها بدائية إلى أبعد الحدود وكثير من الشعب أمي.

إننا إذا أردنا إعادة حكم الله سبحانه وتعالى يجب أن نوحد صفوفنا أمام الأعداء الواقعيين، وأن نجعل من مختلف القوميات والطوائف والألوان والقبليات وحدة واحدة حتى نتمكن من تحقيق هذا العمل الكبير بإذن الله سبحانه وتعالى.

إن معنى ما ذكرناه ليس أن تبدل طائفة مذهبها بمذهب طائفة أخرى، أو يصافح بعضهم بعضاً مصافحةً خلاف عقيدته، فإن ذلك لا يزيد الأمر إلا إعضالاً، بل لكل أن يعمل حسب مذهبه وقناعاته الأصولية والفقهية، وإنما يكونون صفاً واحداً في صيانة سيادة البلد الإسلامي الواسع والأمة الإسلامية الواحدة.

أما البحث الحر والإقناع والاقتناع فهو مرحلة أخرى لا ترتبط بما ذكرناه من توحيد الصف.

شاهد آخر حدث في إيران

وهو حادث من هذا القبيل، فإن أحد علماء أصفهان ويلقب ب (آية الله الفشاركي) كان ضد السلطة، وكان يأمر وينهى وينتقد، فانزعج منه حاكم أصفهان وكتب إلى ناصر الدين شاه قائلاً: في أصفهان، رجل يأمر الناس بالابتعاد عن السلطة وبعدم إعطاء الضرائب ونحو ذلك.

فكلف الشاه جماعة أن يبعدوا (آية الله الفشاركي) إلى طهران، وفي ذلك اليوم أي قبل حوالي مائة عام كانت وسائل النقل منحصرة بالدواب. فركب هذا العالم دابته بصحبة جلاوزة الشاه وتوجه إلى طهران، وطال سفرهم أياماً ووصل الخبر إلى علماء طهران، وكان هناك عالمان بارزان يقتسمان تقليد (طهران) وكان بينهما بعض اختلاف النظر. ذات ليلة كان أحد العالمين نائماً في فراشه، وإذا بالباب يطرق، فأسرع الخادم وفتح الباب، فرأى العالم الآخر على

الباب. تعجب الخادم وأسرع إلى سيده (العالم الثاني) صاحب الدار، وأخبره بأن العالم الفلاني على الباب، فأسرع العالم بدوره إلى باب الدار، واستقبل زميله فدخلا البيت وجلسا، ولما استقر بهما المجلس، قال العالم الزائر: إن طهران بيني وبينك وهذا الرجل (يقصد الشاه) إذا تمكن أن يهين آية الله الفشاركي فإن الدور يأتي غداً لنا. إننا نؤمن بالله سبحانه تعالى وبالآخرة وبقوانين الإسلام كافة، ومن قوانين الإسلام وحدة الصف، وبالإضافة إلى ذلك يتوجه الخطر إلى دنيانا أيضاً. فالعقل والشرع متطابقان على أن نتحد حتى ندفع الغائلة.

قال العالم صاحب الدار: وكيف نتمكن؟

قال العالم الزائر: إن نصف طهران يقلدونك والنصف الآخر يقلدونني، فلنرسل غداً من ينادي في الناس، وفي الشوارع والأسواق والأزقة: أنه بأمر العالمين فلان وفلان (أنا وأنت) يلزم على الناس غلق المحلات والنفير إلى خارج طهران لاستقبال (آية الله الفشاركي)، فإذا اتخذنا هذا الإجراء لم يستطع الشاه من إهانة الفشاركي.

اتفق العالمان على الخطة، وتعاونا وإذا بالأسواق والشوارع والدور تسمع في الصباح منادياً ينادي من قبل هذا العالم، ومنادياً ينادي من قبل العالم الآخر: إنه بأمر مرجع التقليد فلان أغلقوا الأسواق واخرجوا إلى خارج طهران لاستقبال آية الله الفشاركي، فهرع الناس وأغلقوا دكاكينهم وخرجوا من البيوت إلى خارج طهران، فاجتمع في خارج طهران جمهور عظيم جداً.

أما الشاه فحينما سمع بهذه القصة صعد إلى سطح قصره ومعه وزيره (وكان يسمى بالصدر الأعظم) فنظرا وإذا بالناس يخرجون في مجموعات كبيرة والأسواق معطلة والدكاكين مغلقة. توجه الشاه إلى الصدر الأعظم، وقال له: ما هو الخلاص؟ إن هؤلاء يتمكنون أن يرجعوا إلى قصري وينزلوني عن عرشي ويسقطوا حكمي، أرأيت كيف تعاون العالمان في طهران ضدي؟

قال الصدر الأعظم: العلاج أن تخرج

أنت وجميع الوزراء لاستقبال العالم، وتسأل منه لماذا جاء إلى طهران وتجاهل القضية وتدعو (الفشاركي) إلى إحدى قصورك، وبذلك تخفف الوطأة وتكون قد ربحت المعركة.

قال الشاه: لا بأس، نعمل هذا العمل. فنزل هو وركب عجلته ومعه وزراؤه واستقبلوا الفشاركي وطلبوا منه أن يأتي إلى أحد قصور الشاه، وسأله الملك: هل لك حاجة جئت من أجلها إلى طهران؟.

قال الفشاركي: أنت طلبتني.

قال: كلا، أنا ما طلبتك، فمن أبلغك هذا الخبر المكذوب؟

قال: حاكمك في أصفهان، وكان الحاكم في أصفهان في ذلك اليوم يسمى ظل السلطان.

قال: إنه أخطأ، والآن تفضل عندي في داري ولك كل حوائجك، وما دمت في طهران فأنت في ضيافتي، ثم ترجع إلى حيث شئت بسلام.

قال الفشاركي: لا، إن لي مكاناً أذهب إليه وأبقى عدة أيام حتى يزورني العلماء وأزورهم. وأتبادل الرأي معهم ثم ارجع إلى أصفهان بلدي.

وهكذا أسقط في يد الملك الذي أراد بالفشاركي السوء، وبقي الفشاركي في طهران مدة واكتسب هو قوة واكتسب العالمان في طهران قوة على قوتهما، ثم رجع الفشاركي إلى أصفهان بسلام. وهكذا يكون التعاون سبباً للقوة. فاللازم أن نعتبر بهذه القصص بالإضافة إلى أوامر الشرع وعمل رسول الله صلي الله عليه و اله. فلنوحّد صفوفنا ونجعل من التعاون شعاراً عملياً لنا في الحركة، وقبل الحركة وبعد الحركة. وبذلك نتمكن من إقامة حكومة ألف مليون مسلم، على خلاف إرادة الشرقيين والغربيين، وإعادة سيادة الإسلام.

وكلمة الإسلام هي الكلمة العليا، ولكن بشرط أن يعمل المسلمون بأوامر الإسلام، و(الإسلام يعلو) ولكن لكل شيء شرط (بشرطها وشروطها) كما قال الإمام الرضا عليه السلام في حديثه المشهور الذي ينقله مسنداً عن آبائه الأطهار عن رسول الله صلي الله عليه و اله عن الله أنه قال: *كلمة

لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي*(88).

ثم قال عليه السلام: *بشرطها وشروطها وأنا من شروطها* وكلمة (أمن من عذابي) قد يراد به الأعم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

قال سبحانه في القرآن الحكيم: *قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىَ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ*(89) لكن الآن نحن أصبحنا جماعات، وكل جماعة تخالف جماعة أخرى وبذلك تغلب الكفار علينا.

أقول: إنه لا شك أن في المسلمين كثرة من العقلاء والمتدينين والذين يأتمرون بأوامر القرآن، وإنما القصد هو المؤامرات الاستعمارية المتمثلة في فتنة القوميات، والشيوعيات، والبعثيات، والديمقراطيات على الأسلوب الغربي هذه الأمور التي فرقت بيننا وجعلت منا أمماً بعد أن كنا أمة واحدة. فالتوحيد للصفوف من أصول الحركة التي يجب أن نراعيها قبل الحركة وبعد الحركة وحين الحركة، التي هي عبارة عن تيار إسلامي عالمي يجتمع فيها كل الأحزاب، كل المنظمات، كل المؤلفين، كل الصحف، كل دور النشر، كل المكتبات، كل الجمعيات (الإسلامية) وإلى غيرها، وما ذلك على الله بعزيز.

2 الاستقامة

يجب أن يكون القائمون بالحركة الإسلامية العامة مستقيمين سواء قبل الشروع بالتحرك أو خلاله أو بعده حين إقامة حكومة ألف مليون مسلم.

فإن الاستقامة توجب جذب الناس حول المجاهد المستقيم، بالعكس من الإنسان الملتوي، فإن الناس ينفضون من حوله، وإن زعم أنه لن يظهر ما يخفي.

الاستقامة فيها صعوبات، هذا لا شك فيه، لكن المستقيم أحمد عاقبة وأسهل في الوصول إلى الهدف، وأسرع سيراً من الفرد الملتوي الذي لا يصل إلى الهدف، ولو فرض أحياناً أنه وصل إلى الهدف، فلا يمضي زمان إلا وينهار، فالاستقامة شرط أساسي لحركة إسلامية عالمية تسعى لقيادة

ألف مليون مسلم.

وكلما استطاع الإنسان السير في الطريق المستقيم، وأن يجعل ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره، ويستمر في عمله بدون تلكؤ وبدون تراجع وبدون التواء، فإنه يكون أقرب إلى النجاح. فاللازم تربية القائمين على الحركة على روح الاستقامة والالتزام بها، قبل حركتهم ومع حركتهم وبعد الوصول إلى حكومة ألف مليون مسلم، وإبعادهم عن كل أنواع الالتواء والانحراف والزيغ.

ومما يذكر أن أحد وزراء حكومة الهند كان من حزب المؤتمر الذي أخذ الهند من يد الاستعمار البريطاني، وكان هذا الرجل زاهداً في الحياة وعمل من يوم التحاقه بالحركة إلى يوم وفاته لأجل رفعة الهند وخدمتها في نهجه، ومن الطبيعي إنا لا نعترف إلا بالنهج الإسلامي، ولكن الله سبحانه وتعالى يحب الصفات الحسنة حتى في غير المسلمين، كما ورد في حديث إن الله قدر في حاتم الطائي كرمه، وفي حديث أنه يخفف عنه العذاب يوم القيامة. وعلى أي حال، فقد عمل هذا الرجل أكثر من خمسين سنة في حزب المؤتمر، وأخيراً انتهى به المطاف إلى الوزارة وبعد مدة مات.

وتكريماً له ذهب الوزراء بعد وفاته إلى قريته والتي كانت تبعد عن العاصمة الهندية عدة كيلومترات، وكانت القرية مسكناً لهذا الوزير أيام كونه وزيراً، وكان في مدة العمل يأتي إلى العاصمة الهندية لأجل إدارة شؤون الوزارة، وفي العطلة يذهب إلى قريته.

وعندما ذهبت هيئة الوزراء برفقة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وحشد من الشخصيات البارزة في الحكومة الهندية والجماهير إلى قرية هذا الرجل وجدوا داره داراً متواضعة جداً، وهي نفسها التي كان يسكنها في أيام نضاله، فكانت داراً من الدرجة الثالثة، لتواضعها ولقلة أثاثها وعدم وجود الماء والكهرباء فيها.

فتعجب هؤلاء وأكرموا هذا الرجل بعد موته أكثر من إكرامهم له في حال حياته، حيث

لم يدخر مالاً ولم يهيئ قصراً ولم يوفر أثاثاً، وجعلوا داره بتلك الحالة المتواضعة متحفاً حتى يزورها الناس ويعتبروا بالإنسان المخلص والمضحي في سبيل هدفه، نعم أمروا بإيصال الماء والكهرباء والتبليط والتلفون إلى القرية، وحسنوا أحوالها تكريماً لذلك الوزير المتوفى المستقيم في هدفه.

وفي الأمثلة الإسلامية شيء كثير من هذا الطراز الرفيع من الزهد. في حياة رسول الله صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام وفاطمة عليها السلام والأئمة من أهل البيت جميعهم عليهم السلام وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وغيرهم من تلاميذ الرسول صلي الله عليه و اله والأئمة عليهم السلام، وإنما استشهدنا بقصة من حياة هذا الوزير حتى نعرف أن الإنسان الذي له هدف، وإن لم يكن مسلماً يجب أن يراعي هدفه، ويكون مستقيماً في عمله لا أن ينسى أصله وماضيه وخصوصياته، كما يحدث للزعماء كثيراً، فحال كونهم أناساً عاديين يكونون كالآخرين، فإذا وصلوا إلى شيء من الشهرة أو المال أو الجاه أو المنصب، رأيتهم تغيروا وصاروا على شكل آخر، إن هؤلاء ليس فقط لا يحترمون الهدف وإنما هم يضرون الهدف لأنهم بعملهم هذا يبرهنون على كذب أقوالهم.

وفي الأحاديث عن الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام): *كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم*(90) لا أن يصف الإنسان الصدق وهو يكذب، ويصف الشورى في الحكم فإذا وصل إلى الحكم صار ديكتاتوراً، ويصف العدل ويكون أظلم الناس إذا وصل إلى الحكم، ويصف الإسلام وقوانين الإسلام ثم إذا وصل إلى الحكم ضرب كل ذلك عرض الحائط. لقد ذكر المؤرخون أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لما وصل إلى الكوفة، وهي عاصمة خلافته وعاصمة الدولة الإسلامية ذات الخمسين دولة حسب التقسيم الحالي للدول (كما ذكره بعض الكتّاب) رآه

شخص وهو يرتجف من البرد وبرد الكوفة برد قارص، فقيل يا أمير المؤمنين: أنت بهذه الحالة خليفة وإمام وأمير المؤمنين، وفي العراق الشيء الكثير الوفير، وبيدك أموال كثيرة، لا أموال الخلافة فحسب وإنما أموالك الشخصية أيضاً حيث كان للإمام عليه السلام مزارع صنعها بنفسه إبان تنحيته عن الخلافة بعد رسول الله صلي الله عليه و اله فكيف ترتجف في هذا البرد؟

قال عليه السلام جواباً يجب أن يجعل درساً لكل الأجيال: (إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن(91) وهذا هو ثوبي الذي جئت به من المدينة)، وكان كما قال عليه السلام.

ولو كان من يقتدي بهذا الإمام عليه السلام وبرسول الله صلي الله عليه و اله هو الذي يقود جماهير الأمة، فهل كان في الهند وحدها ثلاثمائة مليون جائع حسب التقرير العالمي؟ وهل كان في أمريكا واحد وثلاثون مليون جائع. انظروا كتاب (التحدي العالمي) وغيره فإنها تذكر من هذه التقارير الشيء المدهش.

على أي حال، القائمون بالحركة يجب أن يتسلحوا بأصول الحركة العامة، ومن جملتها الاستقامة، الاستقامة التامة حتى نصل إلى الهدف، وحتى تسبب الاستقامة لطف الله بنا كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كلمة له في نهج البلاغة: *فلما علم الله منا الصدق... أنزل علينا النصر*(92).

فإذا كنا مستقيمين وعلم الله منا الصدق والاستقامة، لابد وأن ينزل علينا نصره، هذا من جهة الله، ومن جهة الغيب.

أما من جهة المجتمع: فالناس جبلوا على أن يلتفوا حول المستقيمين الصادقين. وقد قال الله سبحانه في القرآن الحكيم: *يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ*(93)، نسأل الله أن يوفقنا لذلك ويجعلنا من الذين عملوا بما قالوا، وقالوا بما يعملون، إنه ولي التوفيق.

3 نزاهة القائمين بالحركة

يجب

أن يكون القائمون بالحركة نزيهين لساناً، قلباً، أذناً، عيناً، يداً، رجلاً، جنساً، مالاً، أهلاً، وغير ذلك، لأن الإسلام بناء متكامل، بينما غير الإسلام هدم، غير الإسلام سواء الشيوعية أو الرأسمالية الغربية يقول لك: اعمل ما شئت فأنت مطلق في أن تعمل ما تشاء،.. في قضايا الجنس.. في شرب الخمر ولعب القمار.. في أن تسب وتتهم من تريد... ولذا لا يحتاج الذي ينظم تلك الحركات إلى النزاهة، بل إن القادة أنفسهم يأمرون الأفراد بعدم النزاهة، ويعدون الأجواء من أجل تلويث المنظمين.

وبالعكس: الحركة الإسلامية، فإنها حركة طاهرة، نزيهة، شريفة، طيبة، ويجب أن يتصف القائمون بها بالنزاهة الكاملة والطهارة الشاملة، وقد جعل الله سبحانه قادة الإسلام أفراداً معصومين، وكذا قادة جميع الأديان السماوية.

وقد قال تعالى في أهل البيت عليهم السلام: *إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً*(94).

وقال تعالى لإبراهيم وإسماعيل *: *طَهّرَا بَيْتِيَ*(95).

إن بيت الله طاهر، ومصحفه طاهر، وقانونه طاهر، وقادة أديانه طاهرون، فيجب أن يتصف قادة الحركة الإسلامية العالمية بغاية الطهارة والنزاهة والنظافة وأن لا ينغمسوا في الملذات، كالقصور والسيارات، ولو كان ذلك شيئاً حلالاً، لكن ما كل حلال يرتكب خصوصاً لمثل الإنسان الذي يريد أن يقود العالم الإسلامي ويعطي مثالاً للمعنوية وللطهارة وللفضيلة والتقوى، بل يجب أن يكون في غاية النزاهة والطهارة، لأنه إذا لم يعمل ذلك لا يوفقه الله سبحانه وتعالى، يقول الشاعر وكان من طلاب العلوم الدينية، وكان يذهب إلى عالم اسمه (وكيع)،لكنه لم ينجح ولم يصل إلى نتيجة :

فأرشدني إلى ترك المعاصي

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

وفضل الله لا يؤتى لعاصي

وعلله بأن العلم فضل

والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول في نهج البلاغة: *فلما علم الله منا الصدق...

أنزل علينا النصر*(96). يعني لما كنا صادقين في أعمالنا، في نزاهتنا، في طهارتنا.. إلخ، أنزل الله سبحانه وتعالى بعد ذلك علينا النصر.

القادة يجب أن يكونوا نظيفين، والحركة يجب أن تكون نظيفة، قبل الحركة، ومع الحركة، وبعد الحركة حين الوصول إلى الدولة الإسلامية الموحدة، ذات ألف مليون مسلم إن شاء الله تعالى.

أما إذا كان القائد غير نزيه، أو كانت الحركة غير نزيهة، أو كان القائمون بالتيار العالمي الإسلامي منغمسين في الفساد، في الرشوة، في حب الشهرة، في قضايا الجنس، في قضايا المباني والقصور والسيارات والأثاث والرياش وما أشبه، فلابد وأن تنهدم هذه الحركة، لأن الله لا يوفقها، والناس لا يلتفون حولها، لأن الناس لا يلتفون إلا حول القائد الصحيح النظيف صاحب الفضيلة والتقوى.

وفي التاريخ تذكر قصة حول عالم خرج عن النظافة فالتحق بركب السلاطين، وصار من وعاظهم ومن أدوات قصورهم، فإن أحد الخلفاء كان قد استقطب جملة من العلماء، وجعله من أدوات بلاطه، وكان هناك عالم يسمى: (شريكاً) وكان ورعاً، زاهداً، تقياً، مبتعداً عن الملذات والملاهي، ولذلك لم يكن يلتحق بركب هذا الخليفة، وقد طلبه الخليفة ذات مرة وقال له: إني أطلب منك باعتبارك عالماً تقياً، أن تكون مستشاراً لي، فإني محتاج إلى الاستشارة، والاستشارة بحاجة إلى عالم عامل، وأنت تعلم أنه إذا صار مستشار الخليفة إنساناً ورعاً تقياً، انتفعت الأمة بمثل هذا الخليفة.

قال شريك: لا أفعل.

قال الخليفة: إذا لم تفعل ذلك: فاقبل أن تكون قاضي القضاة أي وزير العدل لأن القضاة كثيرون، وهؤلاء لا يستقيم بعضهم، فإذا أردت إصلاح أمة رسول الله صلي الله عليه و اله فكن رئيس القضاة حتى تهدي القضاة إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

قال شريك: لا أفعل، لأنه علم

أن الاستشارة شرك(97)، وأن رئاسة القضاة حبالة يريد الخليفة بسببها صيده وجعله من أدوات البلاط.

قال الخليفة: إذا لم تفعل هذا الشيء أيضاً، فإني أطلب منك أن تكون مؤدب أولادي، لأن أولادي سيصبحون في المستقبل خلفاء، فإذا ربوا تربية إسلامية صحيحة أصلحوا البلاد وخدموا العباد، أما إذا لم يربوا تربية صحيحة فسدوا وأفسدوا.

قال شريك: لا أفعل هذا الشيء أيضاً.

ولما رأى الخليفة أن شريكاً لا يقبل طلباته، قال: يا شريك فتغد معنا هذا اليوم وهذا آخر طلبي منك.

قال شريك: لا بأس، لأن رسول الله صلي الله عليه و اله استحب إجابة المؤمن.

... بقي شريك حتى الظهر، وأكل من مائدة الخليفة الدسمة بعد أن كان زاهداً يقتنع بخبز الشعير، وهناك عملت الأكلة في روحه، وقد سأل رئيس طباخي الملك من أحد الندماء: هل أكل شريك من طعام الخليفة؟ قال: نعم أكل الطعام.

فقال الطباخ: والله لا يفلح شريك بعد هذا أبداً.

وكان الأمر كما قال رئيس الطباخين، فقد قال شريك بعد الطعام للخليفة: إني فكرت أن أخدم البلاد والعباد، وإني مستعد لأن أكون مشاوراً لك.

قال الخليفة: أحسنت، بارك الله لك.

ثم قال شريك: وإني فكرت أيضاً أن أكون رئيس القضاة، وفي ذلك خدمة المظلومين وإعادة الأمور إلى نصابها.

قال الخليفة: جزاك الله خيراً عن الإسلام والمسلمين.

ثم قال شريك: وفكرت أيضاً أن أكون مؤدباً لأولادك حتى يصبحوا بعدئذ خلفاء راشدين، وأئمة عدل.

قال الخليفة: أحسن الله لك، كما أحسنت إليّ.

ثم انخرط شريك في قصر الخليفة وصار من عمال الظلمة، وكلنا نعلم أن العباسيين كالأمويين أساءوا إلى الإسلام إساءة بالغة نرى آثارها إلى اليوم.

وهكذا الذين يخرجون عن النزاهة، فإنهم لابد وأن ينخرطوا في عمال الظلمة، وأن ينخرطوا في هدم الإسلام، ولذا قال رسول

الله صلي الله عليه و اله: (إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فقولوا بئست الملوك وبئست العلماء، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا نعمت العلماء ونعمت الملوك).

لأنه إذا كان العالم على باب الملوك لا لحاجة الناس ولا لاضطرار وخوف وما أشبه من التقية الواردة في القرآن الحكيم هذا العالم يكون من أهل الدنيا، وإذا كان العالم من أهل الدنيا فتعساً له، وللملك، لأن الملك لا ينتصح عندئذ بنصائحه، وبالأحرى إن العالم لا ينصح الملك لأنه يحتاج إلى دنياه.

أما إذا كان الملوك والأمراء والرؤساء يذهبون إلى باب دور العلماء الأتقياء، فيظهر كون العلماء طيبين حتى أنهم لا يرضخون للملوك، ويتبين كون الملوك طيبين حتى أنهم يختلفون إلى أبواب العلماء.

الحركة الإسلامية يجب أن تكون في غاية التجرد والنزاهة حتى تتمكن من استقطاب الناس حولها. وندعو الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا من أمرنا رشداً، وما ذلك على الله بعزيز.

4 الصمود

يجب أن يكون القائمون بالحركة أناساً صامدين، ولا يكونوا رخوين هشين وإنما صامدين، مثابرين، صابرين، حلماء لما يرون من المشاكل. إن الطريق ليس مفروشاً بالورود والأزهار، وإنما بالأشواك، ولهذا نرى في جملة من الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى يذكر ما كان يلاقي أنبياؤه من العنت والإرهاب والصعوبة النفسية والجسمية، وقد لقي رسول الله صلي الله عليه و اله مع تحليه بأحسن الأخلاق، واتصافه بالعلم، واتصاله بالوحي مختلف المصاعب حتى قال صلي الله عليه و اله: *ما أوذي نبي مثلما أوذيت*(98).

فهو صلي الله عليه و اله كما يكون أسوة لنا في الصلاة والصيام والحج، كذلك هو أسوة لنا في صموده ومثابرته وصبره وحلمه، ويجب أن نقتدي به حتى نتمكن من التقدم، لقد

قالوا عنه إنه ساحر، مسحور، كاهن، شاعر، مجنون.. وغير ذلك حتى انتهى المطاف إلى أن أرسل المشركون عمه أبا طالب عليه السلام إليه ليقول له عنهم: اترك هذا الأمر!. فاغرورقت عين رسول الله صلي الله عليه و اله بالدموع وقال: *يا عم والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته*(99).

وليس الصمود من القائمين بالحركة لأجل أن يمدحهم الناس، أو يصفقوا لهم، أو يكرمونهم الآن أو في المستقبل، إذا كان الأمر هكذا كان معناه أن هؤلاء لا يعملون للهدف، ولا يعملون لله، ولا يرون ثوابه، ويرجون مع الله غيره، ويوم القيامة يقال للمرائين: اذهبوا واطلبوا أجركم ممن كنتم تعملون له، وإنما يجب الصمود وتلقي الصدمات من الأعداء والأصدقاء برحابة صدر من أجل الله وحده، وقد قال الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء: *هوّن ما نزل بي أنه بعين الله*(100).

يعني يجب أن يكون الإنسان صامداً لأجل الله ولأجل ثوابه ولأجل رضاه لا لأجل أن ينال الدنيا الآن أو في المستقبل.

إن هؤلاء الصامدين المخلصين هم الذين يتمكنون من النهوض بالحركة الإسلامية، ويوجد من هؤلاء الكثير من النماذج.

لقد اعتقلت حكومة (نوري السعيد) في العراق رجلاً مسلماً، مجاهداً، مناضلاً وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة لأنه كان يدعو إلى إقامة الدولة الإسلامية، وقد نقل لي أحد الخطباء قال: إن هذا الرجل كان صديقاً لي، فوسطني والد هذا الشاب لكي أذهب إلى بغداد عند نوري السعيد حتى أفك ولده، فذهبت إلى بغداد وتعبت حتى وصلت إلى نوري السعيد رئيس الوزراء ذلك اليوم فقلت له: إن هذا الولد شاب وقد غرر به هذا أولاً، وثانياً: إن

له أباً شيخاً، عالماً، تقياً، وأُمّاً طاعنة في السن، وهذا ولدهم الوحيد، وله زوجة شابة وولد.. فلو أطلقت هذا الشاب.

وأخيراً قال نوري السعيد لي: اذهب إلى الولد في سجن نقرة سلمان وقل له أن يكتب كتاباً خطياً بتبرئه مما عمل سابقاً، واعتذاره مني، وإني مستعد إذا فعل ذلك أن أتركه وشأنه.

يقول الرجل: ففرحت كثيراً واتجهت نحو نقرة سلمان، وذهبت إلى السجن، والحر شديد، وليس في السجن حتى المروحة، فرأيت الشاب قد تغير، وقد لفحته الشمس، ومال لونه إلى السواد والسمرة الشديدة، والضعف آخذ منه مأخذه.. فرحب بي، ونقلت له القصة وأهديت إليه أشواق أبويه وزوجته، وذكرته بطفله الصغير، وقلت له: ارحم نفسك وارحم أباك وارحم أمك وارحم زوجتك وارحم طفلك وارحم مستقبلك، ثم قلت له: إنك إذا تبرأت من أعمالك السابقة خطياً واعتذرت إلى نوري السعيد فهو مستعد أن يطلق سراحك.

قال هذا الخطيب: فتبسم الشاب وقال: يا فلان.. اذهب إلى نوري السعيد وقل له: لو أنك أبقيتني في هذا السجن، أو أسوأ منه حتى أموت، أو قطعوني قطعة قطعة فإني

لا أتنازل عن مبدئي وفكرتي، وإن مستقبلي الجنة، وأما أبي وأمي وزوجتي وولدي فالله خليفة عليهم، وهل هم أفضل من زينب عليها السلام أو عائلة الحسين عليهم السلام، وقل لنوري السعيد: إن عليه أن يعتذر هو عما جنى على الإسلام والمسلمين.

يقول الخطيب: كلما حاولت أن يتنازل ولو بقدر شعرة لم يتنازل حتى يئست ورجعت، ونقلت لأبيه ولأمه ولزوجته ما رأيته.

هذا الصمود الهائل الذي نجده في رسول الله صلي الله عليه و اله، وفي علي عليه السلام، في فاطمة عليها السلام، في الحسن عليه السلام، في الحسين عليه السلام، في الأئمة الطاهرين عليهم السلام، في العلماء

المجاهدين، في الأخيار الطيبين، هو الذي سبب توسع الإسلام إلى هذا الحد الذي نشاهده في هذا اليوم، ولو اتخذت الحركة الإسلامية العالمية العامة هذا الصمود شعاراً ودثاراً لأمكن الوصول إلى الهدف المنشود وهو حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى.

إن الطريق صعب، فيه شماتة، فيه إهانة، فيه تهم، فيه سجون، فيه معتقلات، فيه مشانق، فيه كل شيء، لكن إذا تحمل المسلمون مصاعب هذا الطريق وساروا فيه وصلوا.

وقد قرأت في تاريخ إسلام بعض مناطق روسيا: أن سبعة من العلماء في إحدى مدارس قفقاز وقفقاز كانت بيد الشيوعيين سابقاً وكانوا يسومهم الشيوعيون أسوأ أنواع الكبت والإرهاب والسجن والتعذيب والتشريد فكروا في أنفسهم أنهم عاكفون في هذه المدرسة، والناس ضالون وكافرون فعليهم أن يبلغوا رسالات الله فاختاروا للتبليغ أسوأ مناطق روسيا في ذلك اليوم وحشية ووثنية وتم الاتفاق بينهم على أن يذهب أحدهم ويبلغ أولئك القوم رسالة الله تعالى، فإذا استجابوا له كتب إلى أصدقائه حتى يأتوا إليه، وإن لم يكتب إليهم كتاباً فذلك دليل على أنهم لم يستجيبوا له وقتلوه. ذهب الأول، وبلغ رسالات الله، فاجتمع عليه الوثنيون وقتلوه ولما لم يأت الكتاب إلى أصدقائه الستة ذهب الثاني مع علمه بالخطر، فقتل.. ولما لم يأت كتابه إلى الخمسة الباقين، ذهب الثالث، ثم الرابع، وهكذا إلى أن قتلوا جميعاً.. وبعد ذلك أنار الله قلوب أولئك الغلاظ الشداد البرابرة، ودخل الإيمان في قلوبهم تدريجياً حتى سيطر الإسلام على كل تلك المنطقة.

وقد ألمحت إلى هذه القصة في كتاب (كيف انتشر الإسلام) فهناك تجدون شيئاً من هذه القصة، ولا زالت قبور هؤلاء العلماء المجاهدين السبعة موجودة إلى الآن في تلك المنطقة.

هكذا صمدوا، وهكذا صبروا، وهكذا ثابروا *يَا أَيّهَا الّذِينَ

آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ*(101).

في الحديث: *لا يخدع الله عن جنته*(102) يعني أن الإنسان لا يتمكن أن يخدع الله سبحانه وتعالى ليحصل على الجنة بدون العمل وبدون الصمود وبدون الصبر وبدون الجهاد، وكلنا نعلم أن من فروع الدين (الجهاد) والجهاد مأخوذ من الجهد ومنه اجتهد، يعني أن الإنسان يجتهد ويصبر، ويسير، ويصمد، ويحلم حتى يكون في طريق التقدم.

فاللازم أن تجعل الحركة الإسلامية العالمية العامة الصمود من شعاراتها الواقعية، فإن الصمود من أصول الحركة التي تنتهي إلى حكم إسلامي زاهر لألف مليون مسلم.

5 فهم ارتباطات الحياة

من الضروري على أفراد الحركة فهم روابط الحياة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة ذات روابط خاصة، وأسباب ومسببات، وعلل ومعاليل، واللازم على الإنسان الذي يريد هدفاً أن يتبع الطريق المجعول لذلك الهدف، فإن الله سبحانه وتعالى أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، إلا إذا كان خارقاً للعادة أي إعجازاً، والإعجاز نادر، مثل إخراج الله سبحانه وتعالى ناقة صالح وفصيلها من الجبل. ومثل جعل الله سبحانه وتعالى عصا موسى حية تسعى، وإلى غير ذلك من معاجز الأنبياء وكرامات الأولياء، هذه خوارق ولا يقاس عليها عام، وقد أراد الدنيا، دنيا أسباب ومسببات، حتى أنه سبحانه حين ما يريد أن يبين كيف تمكن ذو القرنين من أن يجوب شرق الأرض وغربها قال: *ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً*(103) يعني: أن ذا القرنين أتبع السبب حتى وصل إلى المسبب. فإذا أردنا نحن المسلمين إقامة حكومة ألف مليون مسلم يجب أن نتبع الأسباب المنتهية إلى ذلك.

لقد جاء في بعض الكتب: إن عبد الحميد الخليفة العثماني الذي سقطت تركيا على يده، كان قد كتب لافتة ونصبها فوق رأسه في قصره، وكان مكتوباً على اللافتة هذه الرواية المروية عن

رسول الله صلي الله عليه و اله والتي أثبتها صاحب الوسائل في كتاب الإرث من الوسائل : *الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه*(104).

فإذا قيل له أي لعبد الحميد : إن الغرب تقدم في النظام، في صنع السلاح، في الصنايع وما أشبه مما يخشى منه أن يتغلب الغرب على بلاد الإسلام كان يشير عبد الحميد إلى اللافتة فوق رأسه، يعني *إن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه* فالغرب لا يعلو علينا لأنا مسلمون وهم كفار والكفار لا يغلبون المسلمين.

العقلاء كانوا يخافون أن يتكلموا بالردّ على عبد الحميد، لأن الديكتاتور لا يحب أن يتكلم أحد أمامه بما لا يشتهي، وإنما يريد المدح والتملق والتحسين وما أشبه، لكنهم كانوا يقولون في أنفسهم: الإسلام يعلو بأسبابه، لا أن الإسلام يعلو بدون سبب، إن الرسول صلي الله عليه و اله الذي قال: *الإسلام يعلو، ولا يُعلى عليه* هو الذي أتعب نفسه الشريفة ليلاً ونهاراً في تجهيز الجيوش، وجمع الرجال والسلاح وقد قال الله سبحانه وتعالى: *وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ*(105) أعدوا لهم قوة السلاح، قوة التنظيم، قوة المال، قوة العلم، قوة المعاهدات، والى غير ذلك من القوى.

وقد قال الله سبحانه: *وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ* وعبد الحميد يقول: لانحتاج إلى قوة بلسان حاله وإنما (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)! وأخيراً سبب فهمه الخاطئ وديكتاتوريته سقوط دولة آل عثمان ذلك السقوط الشنيع والذي نرى آثاره إلى الآن.

القائمون بالحركة الإسلامية يجب أن يفهموا، أن الله قال في المنافقين: *وَلَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ*(106) يعني صفة المنافق عدم العلم. بينما شيمة المسلمين: العلم، الفهم، الفقه *ليَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ*(107) الفقه هو الفهم والدين عبارة عما يصلح شأن الإنسان في

دنياه وفي آخرته.

الحركة الإسلامية العامة التي تريد إقامة حكومة ألف مليون مسلم يجب أن تفهم كيف تتصرف؟ كيف تعمل؟ كيف تتعامل؟ كيف ترتبط؟ كيف تعاهد؟ إلى غير ذلك من مقومات الحركة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الحياة للمنافقين، وإنما للعاملين الواعين المخلصين، سواءً كان مخلصاً في دنياه، أو كان مخلصاً في دينه. حيث يقول الله سبحانه وتعالى: *كُلاّ نّمِدّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً*(108) أي ممنوعاً، يعني عطاء الله يشمل الكافر والمؤمن في دنياهما، وعطاؤه يشمل المؤمن وحده في الآخرة.

وعلى أي حال فالتفكير، التدبر، الاستشارة، فهم الروابط: العلل والمعلولات والأسباب والمسببات، كل ذلك يعين الحركة في مسيرها وفي مصيرها وفي توسعها كماً وكيفاً.

يقول الحديث الشريف عن أبي ذر (رضوان الله عليه): *كان أكثر عبادته التفكر*(109)، يعني كانت أكثر عبادة أبي ذر أنه يفكر.. كيف يصنع؟ كيف يعمل؟ كيف يتقدم؟ كيف يحارب؟ كيف يسكت؟ كيف يصمد؟، ولهذا رأينا كيف عالج أبو ذر ذلك الانحراف العريض الذي حدث في الدولة الإسلامية بتلك الخطابات والكلمات والمواقف المشهورة لأنه كان يفكر، لأنه كان يدبر، لأنه كان يعمل.

وورد في حديث آخر حول لقمان الحكيم: إن لقمان كان كثير التفكير في العلل والمعلولات والأسباب والمسببات.

ومن الطبيعي أن يبقى الإنسان الذي يفكر ويتعلم ويستشير كلقمان لا ثلاثة آلاف سنة وإنما مليون سنة وأكثر قال تعالى: *سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً*(110) *وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً*(111).

ينقل عن المنصور الدوانيقي الخليفة العباسي الغاصب: إنه ذات مرة طلب شيخاً من شيوخ العباسيين وكان طاعناً في السن، وقال له: إن رجلاً في المدينة خرج علي، فماذا ترى أن أعمل معه؟

فسأله

الشيخ أسئلة من باب تجاهل العارف:

قال له: وما هي المدينة؟

قال: مدينة الرسول.

قال: كم اقتصادياتها؟

قال: لا اقتصاد لها إلا التمر والنخل القليل.

قال الشيخ: وكم رجالها؟

قال: رجالها قليلون لا يصلون إلى خمسين ألف.

قال: وما موقعها، أي موقع المدينة المنورة؟

قال: موقعها في الصحارى.

فسأل الشيخ من المنصور: ومن هذا الخارج عليك؟

قال: ولد من أولاد رسول الله من علي وفاطمة.

قال الشيخ: وهل هو محبوب لدى الجماهير؟

قال: نعم.

قال له: وهل له أنصار في غير المدينة؟

قال: نعم، له أنصار في سائر الآفاق: في الكوفة، في البصرة، في مصر، في فارس، وفي غيرها.

بعد هذه الأسئلة قال الشيخ للمنصور: إذا أردت أن تقابله فاملأ البصرة عليه رجالاً وسلاحاً.

المنصور لم يقل شيئاً احتراماً لذلك الشيخ الطاعن في السن ولكنه هزأ به في نفسه وقال للشيخ: اذهب بسلام ونحن نشكرك على إشارتك.

ثم قال المنصور لندمائه: هذا الشيخ قد كبر وخرف، إني أقول له الخارج خرج علي بالمدينة، وهو يقول لي املأ البصرة عليه رجالاً وسلاحاً، وكان بين البصرة والمدينة في ذلك اليوم مسافة شهر أو أكثر. وتعجب الندماء من المستشار، ولكن لم يمض زمان إلا وسمع المنصور وهو في بغداد أن هذا الثائر ضد الظلم جاء إلى البصرة والتف الناس حوله، وأخذ يحارب الدولة حرباً لا هوادة فيها.

تعجب المنصور كثيراً وفكر كثيراً ثم أرسل إلى ذلك الشيخ يطلبه وحينما جاء قال له: هل كان لك علم الغيب حتى قلت املأ البصرة عليه رجالاً وسلاحاً.

قال الشيخ: لا، وإنما أشرت عليك من نفس إجابتك، إن الرجل الثائر عليك، المحبوب لدى الناس في داخل المدينة وخارجها، وهو من أولاد رسول الله وعلي وفاطمة عليهم السلام، وله اتباع كثيرون في العالم الإسلامي.. هذا الرجل لا يبقى في المدينة ذات الاقتصاد

القليل والرجال القليلين، والمدينة تقع في صحراء يعني أنه ليس في أطرافها بلاد عامرة، وأول بلد عامر حول المدينة المنورة هي البصرة، والبصرة ذات رجال وذات سلاح. ففكرت أن هذا الرجل لا يبقى في المدينة لأنه لا يستطيع فيها أن يحارب الجيش الضخم الذي ترسله أنت لمحاربته، ولابد أن يأتي إلى البصرة لأنها موضع الرجال والمال والسلاح... إلخ.

تعجب المنصور من حنكة الشيخ واستحسن إشارته ثم جهز إلى البصرة جيشاً، ووقعت الحرب بين الجانبين مما انتهى إلى سقوط ذلك الثائر سقوطاً سطحياً، وإن كان قد عمق في نفوس المسلمين كره المنصور وكره العباسيين، وبين لهم خطأ الحكم وانحرافه عن منهاج الإسلام وعن منهاج العقل.

وعلى أي حال فإن فهم الأمور والارتباطات وماذا يؤثر هذا الشيء؟ وماذا ينتج من ذلك الشيء؟ وما هو السبب؟ وما هو المسبب؟ لماذا سقطنا نحن المسلمين؟ لماذا تقدم الغربيون والشرقيون؟ لماذا صرنا مبضعين مبددين؟ كيف العلاج؟ ما هو المسير؟ كيف المصير؟ كيف نتمكن أن نقيم حكومة ألف مليون مسلم فهماً وعملاً ومثابرة واستقامة وذهاباً وتضحية؟

كل ذلك ضروري للوصول إلى حكومة الألف مليون مسلم بإذن الله تعالى.

6 زهد القادة

الواجب على القائمين بالحركة أن يتزهدوا في الدنيا، فإن الزهد يوجب أولاً كثرة العمل وثانياً التفاف الناس، فإن الناس جبلوا على الالتفاف حول من لا يرغب في المادة، وبالعكس من ذلك الذين يرغبون في الماديات فإن الناس ينفضون من حولهم.

لنفرض أن قائداً كان دخله السنوي ألف دينار، فإذا كان زاهداً في ملبسه ومسكنه وسائر شؤونه، صرف من هذا الألف مائة وأبقى التسعمائة لأجل الحركة، بينما إذا كان إنساناً راغباً صرف كل الألف لنفسه.

وإذا تصورنا أن الحركة تحتاج إلى عشرين مليون منظم، وفرضنا أن هؤلاء العشرين مليون

صرفوا ثلاثة أرباع دخلهم لأجل إقامة حكم الله في الأرض، فكم يكون قدر تقدمهم بالأمة إلى الأمام، وبالعكس إذا كانوا راغبين في المأكل والمنكح والمسكن.. فإنهم لا يتمكنون من التقدم.

وقد نسب لعيسى المسيح عليه السلام أنه قال لأصحابه الحواريين: إذا سافرتم لأجل الهداية والتبليغ فلا تأخذوا شيئاً إطلاقاً، حتى حذاؤكم ارموه..

وفلسفة هذا الحكم إذا كان عن عيسى المسيح ولا يبعد أن يكون منه عليه السلام لما نعهده من سيرته الطاهرة واضحة فإن الإنسان المثقل لا يتمكن من الوصول إلى الهدف، ولذا جاء في كلمة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: *تخففوا تلحقوا*(112) والشاعر يقول:

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد، حتى نعله ألقاها

يعني أن هذا الإنسان الذي يقصد السفر ألقى حتى الأوراق التي كانت معه وألقى زاده، وألقى حتى نعله.

وهنا سؤال: فمن أين يتمكن الإنسان أن يأكل إذا ألقى زاده؟

أجاب عن هذا السؤال الرجل الشهم الذي حرك الشرق قبل مائة سنة تقريباً السيد جمال الدين الأفغاني وقد كان من تلاميذ الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمة الله تعالى عليه).

هذا الرجل المجاهد لما ورد مصر وتحرك وحرك وأيقظ وأوعى وحذر وأنذر حكومة بريطانيا، حتى خشيت منه وأمرت عملاءها في مصر بإخراج هذا الرجل، ولما اركبوه القطار ليخرجوه جاء جماعة من أصحابه وقدموا له كيساً من الليرات الذهبية وقالوا له: سيدنا إنك في سفرك تحتاج إلى المال وهذه هدية متواضعة منا لك حتى تستفيد بها في أكلك وشربك ومنزلك إلى أن تصل إلى الهدف.

فأجابهم السيد جمال الدين الأسد آبادي: اجعلوا هذا المال لأجل مشاريعكم فإني في غنى عن هذا المال.

قالوا له: وكيف تصنع، ولا نعهد عندك مالاً؟

قال: نعم لا مال عندي الآن لكن الأسد يجد فريسته فهو يصبح

جائعاً ويمسي وهو ممتلئ، ومثال الإنسان المبلغ والمجاهد هو مثال الأسد فإنه لا يحتاج أن يحمل المال، فحيث ورد فهناك أرض الله، وهناك رزق الله، والله قد تكفل لعباده بالرزق، وحتى إذا لم يجد الإنسان طعاماً شهياً، فإنه يتمكن أن يستعيش بالعشب ويشرب الماء المالح.

وهكذا لم يقبل السيد الأسد آبادي الكيس ورده إليهم ليصرفوه في مشاريعهم.

إن الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها شيمة الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين عليهم السلام وعباد الله الصالحين والمصلحين، والسبب هو أنه يخفف حمله، وإذا انقطعت علاقة الإنسان بالدنيا تمكن من السير، وفي الآية الكريمة إشارة إلى ذلك حيث يقول الله تعالى: *مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ*(113).

يجب أن يكون الإنسان خفيف الحركة، سريع العمل، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله بالنسبة إلى الزواج: *خير نسائكم أو خير نساء أمتي أقلهن مهراً*(114).

وقد ورد في حديث صحيح في الكافي: أن رسول الله صلي الله عليه و اله زوج ابنته من علي (صلوات الله عليهم أجمعين) بستة وثلاثين درهماً يعني زهاء ثمانية عشر مثقالاً من الفضة فقط وفقط، مع أن الرسول كان في ذلك اليوم رئيس دولة وبإمكانه إنفاق الشيء الكثير(115).

وقد جاء في حديث: أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في ليلة الزواج جاء بحفنة من الرمل، وفرش بذلك الرمل الغرفة ليكون ذلك الرمل عوضاً عن الفراش.

والمشهور عند الكل أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان يسمى بأبي تراب، لأنه كان يتوسد التراب وينام على التراب ويجلس على التراب(116).

وقد ورد: أن امرأة رأت الرسول صلي الله عليه و اله وهو جالس على التراب ويأكل بتواضع

وكانت تلك المرأة بذيئة اللسان فقالت: يا محمد إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه..

فأجابها الرسول صلي الله عليه و اله قائلاً: وهل أنا إلا عبد؟ (117).

نعم هو عبد الله، والعبودية والقيادة للناس تقتضي ذلك، ولهذا نكرر في كل يوم مرات ومرات في تشهد الصلاة (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ونقدم كلمة (العبد) على كلمة (الرسول) لأن مقام العبودية لله جلّ وعلا مقام رفيع جداً.

وعلى كل حال: فإن من الضروري على القادة أن يكونوا بالمستوى المطلوب من الزهد في زخارف هذه الحياة الدنيا. وإذا كان تزوج الإنسان بمهر السنة وكان لباسه وفراشه ومأكله ومشربه وسفره وحضره وسائر شؤونه أشياءً متواضعة.. فإنه يتمكن من التحرك، ومن أن يكون أسوة للناس، وعندئذ يلتف الناس حوله، وإذا التف الناس حوله تمكن من السير بهم إلى الهدف. لقد سار المسلمون الصالحون من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله والأئمة عليهم السلام، وسائر العلماء الراشدين وسائر المصلحين في كل جيل وجيل في طريق الزهد، وأخبار زهدهم وأخبار تقشفهم وأخبار اهتمامهم بالهدف مشهورة عند العام والخاص.

أحد علمائنا قبل مائة سنة يسمى بالشيخ مرتضى الأنصاري رحمة الله عليه، هذا الرجل العظيم الذي يُدرّس في كل الحوزات العلمية كتابان من كتبه وهما (الرسائل) و(المكاسب) بالإضافة إلى دراسة بعض كتبه الأخرى كرسالة (لا ضرر) ورسالة (التسامح في أدلة السنن) ورسالة (العدالة) وكتاب (الصلاة) وكتاب (الطهارة) وغيرها، إنما تمكن من السير إلى الأمام في العلم حتى صار علماً في كل البلاد الإسلامية منذ قرن كامل لأنه كان زاهداً في الحياة، لا يبالي بأكله ولا بلباسه ولا بمسكنه، بل كان يصرف كل وقته في العلم وفي التحقيق وفي العمل وفي العبادة وفي التربية.

ينقل

في أحوال هذا الشيخ العظيم الذي يجب أن نتخذه أسوة في العلم وفي الزهد أنه سمع الخليفة العثماني في الآستانة بتركيا بزهد هذا العالم فأرسل رجلاً من أشداء رجاله ليأتي إلى النجف الأشرف ويرى هل صحيح ما انتشر من زهد هذا الرجل أم أنه رجل راغب لكنه يتزهد؟ وصل الرجل إلى النجف الأشرف، ودخل بيت الشيخ كزائر عادي ولم يعرف نفسه أنه من قبل الخليفة، فرأى الشيخ جالساً على حصير من القصب وأمامه موقد لأن الوقت كان شتاءً وهو منكب على المطالعة، وعلى بدنه الشريف ملابس من أحط الملابس قيمة. فجلس عند الشيخ وسأله عن أحواله، فأمر الشيخ أن يصنع له شراب قوامه الدبس والماء، فجاؤوا إليه بآنية من الخزف وفيها الشراب، فشرب الضيف الشراب، ثم توجه إلى الشيخ وقال له إن الخليفة يبلغكم السلام وأنا رسوله الخاص إليكم.

يقول هذا الرجل: فتعجبت أن الشيخ كان كالجبل جالساً ولم يزل بعد كلامي كسابق حاله. قال الشيخ: بلِّغ جوابي له.

ثم قلت له: إن الخليفة سألك أن تطلب منه حاجة؟

يقول: قال الشيخ: لا حاجة لي. ثم قال الشيخ: إن وقت تدريسه قد حان وهو لايتمكن أن يعطل الدرس لأجل مبعوث الخليفة: فإن العلم واجب كفائي فإن رسول الله صلي الله عليه و اله أوجب طلب العلم وجعله فريضة، أما الاستضافة فإنها مستحبة، والواجب لا يدع مجالاً للمستحب. قال هذا وقام، فقمت معه. ثم ذهب المبعوث إلى الآستانة ورأى الخليفة وقال له: لقد وجدت الشيخ في زهده كما ينقل عن رسول الله صلي الله عليه و اله.

القائمون بالحركة يجب أن يزهدوا في الدنيا، لا أقصد زهداً يمرضهم، وإنما عدم الاعتناء بالحياة، ففي الحديث: *لو

كانت الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء*(118). يعني أن الدنيا مبغوضة لله إلا ما كان منها لأجل الآخرة: *وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا*(119). يعني أن الهدف هو الآخرة، والآخرة وحدها، وإنما الدنيا طريق.

وقد قال عيسى عليه السلام: *الدنيا قنطرة فاعبروها*(120).

يعني الدنيا كالقنطرة، والإنسان الذي يريد عبور القنطرة كم يصرف لأجل القنطرة؟ إنه لا يصرف إلا صرفاً طريقياً لا صرفاً هدفياً واقعياً.

وهكذا يجب أن يتخذ القائمون بالحركة الإسلامية العالمية التي تصل بإذن الله تعالى إلى الهدف وهو إقامة حكومة ألف مليون مسلم الزهد من أصول حركتهم، وأن يتركوا الدنيا، إلا بالقدر الواجب، نسأل الله أن يوفقنا لذلك.

7 عدم حب الشهرة

الزهد قسمان:

زهد عن الأمور المادية، وزهد عن الأمور غير المادية.

الزهد عن الأمور المادية بمعنى أن يكون الإنسان غير مهتم بأكله وشربه ولباسه ومسكنه وما أشبه، فالدنيا ملعونة، وملعون كل ما فيها إلا ما كان لله سبحانه وتعالى (121).

وفي الآية الكريمة: *ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ*(122).

وقد أخذ رسول الله صلي الله عليه و اله بيد أبي ذر الغفاري ذات مرة وانتهى به المطاف إلى خربة، وكان في تلك الخربة شيء من الأثواب البالية، وشيء من مدفوع الإنسان، وشيء من عظام الإنسان، وإنما كانت العظام؛ لأن الجاهليين لم يكونوا يدفنون موتاهم كما ندفن نحن الآن موتانا حسب الموازين الإسلامية، وإنما كانوا أحياناً يدفنونهم، وأحياناً يحرقونهم، وأحياناً يضعونهم في مكان من الأرض ثم يرمون عليهم الحجارة وما أشبه حتى يغطى جسمهم، وأحياناً يلقون الجنازة في خربة أو في بئر أو ما أشبه، لأن الإنسان لم يكن له احترام في الجاهلية وإنما الإسلام

هو الذي احترمه هذا الاحترام المنقطع النظير حتى قال سبحانه: *مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً*(123) هذا الاحترام الذي لا تجد مثله في دين أو في قانون هو الشيء الذي جاء به الإسلام لأنه دين الله، الدين الذي جعل الإنسان محور الكون .

وعلى أي حال فقد كان في تلك الخربة إلى جانب الخرق والمدفوع عظام لإنسان، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله لأبي ذر الغفاري: يا أبا ذر هذه ملابسهم التي كانوا يلبسونها، وهذه مآكلهم التي كانوا يأكلونها وهذا هو الإنسان، فانظر إلى مَ صاروا؟

وهكذا الدنيا قد يزهد الإنسان في مادياتها، وقد ذكرنا في حلقة سابقة: أن الحركة الإسلامية العالمية التي تريد الوصول إلى حكومة ألف مليون مسلم يجب أن يتزهد القائمون بها في الدنيا.

هذا قسم من الزهد، وهناك قسم ثانٍ من الزهد أصعب من هذا القسم، وهو الزهد عن الشهرة، الزهد عن السمعة، يعني أن القائمين بالحركة يجب أن لا يفكروا في أن الناس سيمدحونهم، وأن الناس سيعظمونهم، وأن الناس سيبجلونهم ويسجلونهم في التاريخ في مصاف العظماء، أو ستنطق بأسمائهم الإذاعات والجرائد، أو سينوه باسمهم في الاحتفالات والمجالس وعلى المنابر، فإن حب ذلك وحب الله لا يجتمعان في قلب إنسان، وهما هدفان متعاكسان لا يمكن الوصول إليهما معاً، فبينهما بون شاسع.

إن حب الشهرة وحب السمعة وحب أن يقال عن الإنسان الخير.. هذا الحب يوجب غمط حق الآخرين. إنه لا يستشير الناس حتى يقال إن هذا الشيء رأيه وهذا العمل عمله، ولذا نرى الاستبداديين والديكتاتوريين والذين نزع الله الإيمان عن قلوبهم يريدون الأنانية، يريدون الفردية، يريدون أن

يقال عنهم الخير بينما يقال عن غيرهم الشر أو السوء، وعلى الأقل أن لا يذكر سواهم، وهؤلاء كثيراً ما يتهمون زملاءهم حتى يسقطوهم عن أعين الناس، وإذا امتلك أحدهم القدرة استغل قدرته من السلاح والمال والإعلام لأجل أن يرفع نفسه ولأجل أن يضع غيره، فنرى مثلاً اثنين من الساسة، كلاهما كان إبان الاضطهاد في درجة واحدة، وأحياناً كان أحدهما أقدم درجة من الآخر، ثم يصل أحدهما إلى مرتبة رفيعة من الحكم، وإذا به يسقط صديقه السياسي عن الاستشارة وعن أخذ آرائه، لا هذا فحسب بل كثيراً ما يتهمه وكثيراً ما يشهر به في أجهزة إعلامه، ويوجه أجهزة إعلام الدولة وأموال المسلمين للفتنة والفساد والاتهام والقول بالإفك والإثم حباً للشهرة، رغم أن هذا الإنسان كان زاهداً في حياته الشخصية المادية أي يقتنع بمأكل قليل وملبس عادي ويسكن مسكناً بإيجار أو نحو ذلك.

القائمون بالحركة الإسلامية الذين يريدون الانتهاء بالحركة إلى الدولة الإسلامية الواحدة يجب عليهم أن يتنزهوا عن هذا الشيء، وإلا فالديكتاتوريون والمستبدون ولو برروا أعمالهم بألف مبرر ومبرر هؤلاء ليسوا صالحين لتقديم الإسلام، فإن الشيء غير الطاهر لا يكون مقدمة للشيء الطاهر، كما أن الأساس المنحرف لا يمكن أن يكون أساساً لشيء مستقيم. القائمون بالحركة الإسلامية يجب أن يعرفوا أنهم إن لم يزهدوا في التنويه بعيوب الآخرين ونحوه فإنهم لا ينالون الهدف أولاً، وثانياً ينفض الناس من حولهم، وثالثاً تبدوا عوراتهم، فمن أظهر عورات الناس انكشفت عورات بيته كما ورد في الحديث (124).

وقد ذكرنا سابقاً قول الشاعر:

فكلك سوآت وللناس ألسن

لسانك لا تذكر به سوءة امرئ

من الناس قل يا عين للناس أعين

وعينك إن أبدت إليك معايباً

إذا أسقطت صديقك السياسي فاعلم أن الدهر أيضاً

يأتي بيوم يسقطك فيه، وفي الحديث (من حفر بئراً لأخيه وقع فيها) وعلى هذا المنوال.

فالقائمون بالحركة يجب أن يراعوا هذا الأصل، وهو أصل الزهد عن التنكيل بالشخص والشخصية، وإنا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام وصل إلى الهدف، فلأنه كما ضحى بنفسه وبعائلته وبأقربائه وبأصحابه وبأمواله ضحى في نفس الوقت بسمعته، حتى كان آل يزيد يسمونهم بالخوارج، ويقولون إنهم كفرة وإنهم مبدعون، وإنهم خرجوا على سنن رسول الله صلي الله عليه و اله، ولذا نرى أن الله عوَض الإمام الحسين عليه السلام هذه المكانة العظيمة في الدنيا، والمكانة التي عند الله سبحانه وتعالى في الآخرة أعظم وأرفع.

وكذلك نرى نحن في الأنبياء العظام وسائر الأئمة الطاهرين والصديقة الطاهرة والبتول مريم (عليهم الصلاة والسلام) ونرى في العلماء الراشدين الشيء الكثير من التنكر لأشخاصهم والتنكر لشخصياتهم. فمثلاً: إنا نرى الشيخ المرتضى رحمة الله عليه زاهداً حتى في تأليفه، ولذا لم يذكر اسمه في الرسائل والمكاسب وسائر كتبه، وإنما الذين أتوا بعده كتبوا اسمه الشريف على كتبه، فالشيخ بالإضافة إلى زهده في الماديات كان زاهداً أيضاً في الشهرة ونحوها، ولذا جعله الله سبحانه وتعالى علماً منذ قرن ففي كل الحوزات العلمية تدرس كتبه، والتعليقات والحواشي على كتبه من العلماء الذين أتوا من بعد الشيخ كثيرة، وسيبقى الشيخ علماً لأن *ما كان لله ينمو*، *وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً*(125) فإن ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى يبقى، بينما ينفد ما يرتبط بغير الله *مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ*(126).

فإذا كان القائمون بالحركة الإسلامية العالمية مخلصين إلى هذا الحد، وزاهدين عن الزخارف وعن الماديات وعن حب السمعة والشهرة وما أشبه، تمكنوا من الوصول إلى الهدف بإذن الله.

نسأل الله سبحانه

وتعالى أن يجعلنا من المخلِصين والمخلَصين، ومن عباده الصالحين، وأن يزهدنا في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، إنه على ما يشاء قدير.

8 الإخلاص

يجب على القائمين بالحركة أن يربّوا أنفسهم وأفرادهم الذين يهدفون إلى النهضة الإسلامية الشاملة المنتهية إلى حكومة إسلامية ذات ألف مليون مسلم على منتهى الإخلاص، فإن للإخلاص فائدتين:

الفائدة الأولى: لطف الله سبحانه، فإنه سبحانه يمنح لطفه ورحمته لعباده المخلصين، لأنهم قصدوه وحده في عملهم، وفكرهم، وجهادهم، وأخذهم، وعطائهم. وقد قال الله سبحانه وتعالى: *وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ*(127).

ولا يخفى أن الإخلاص أمر في غاية الصعوبة، لأنه يتطلب منك أن تعمل في سبيل الله خمسين عاماً ولا تريد بذلك جاهاً، ولا مالاً، ولا سلطاناً، ولا عزاً، ولا شهرةً، ولا سمعةً، وإنما تريد الآخرة، تريد إنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين، تريد وجه الله سبحانه ورضوانه، تريد عزّ المؤمنين. إن هذا أمر صعب، ولذا نجد أن كثيراً من العاملين لايستطيعون الوصول إلى هذه المرحلة من الإخلاص.

وفي الحديث الشريف: *والناس كلهم هالكون إلا العالمون، والعالمون كلهم هالكون إلا العاملون، والعاملون كلهم هالكون إلا المخلصون، والمخلصون في خطر عظيم*(128).

والسبب في كل ذلك واضح، فالإنسان الجاهل هالك، لأنه لم يطع الله سبحانه وتعالى في التعلم، ثم إذا تعلم ولم يعمل فهو هالك أيضاً، ويقال له يوم القيامة: *هلا عملت؟*، كما جاء في حديث شريف عند تفسير قوله تعالى: *وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ*(129).

أما إذا علم الإنسان وعمل، ولكن لم يكن عمله عن إخلاص، بل أشرك مع الله غيره، فهو أيضاً هالك، لأن الله لا يتقبل إلا ما كان لوجهه خالصاً.

وهل تنتهي القضية عند هذا الحد؟ كلا، إن المخلصين أيضاً في خطر عظيم! وما هو

ذلك الخطر؟ إنه خطر الارتداد، وليس معنى الارتداد الكفر فقط، بل معناه: الارتداد عن منهج الله سبحانه بمختلف ألوانه وأشكاله، ولذا قال الله سبحانه بالنسبة إلى أصحاب الرسول صلي الله عليه و اله: *أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ*(130).

وعلى كل حال.. فإن الفائدة الأولى للإخلاص: لطف الله سبحانه.

أما الفائدة الثانية: فهي التفاف الناس حول المخلصين، أما الذين يعملون من أجل المال أو السلطان أو الرئاسة أو غير ذلك، فإن الناس ينفضون من حولهم، وبالتالي: لايمكن الوصول إلى الهدف.

وكم رأينا أناساً كانوا يهتفون بالدين والوطن، ولم يكونوا مخلصين، ثم سقطوا عن الأعين، الوطني منهم عن أعين الوطنيين، والديني منهم عن أعين الدينيين، وعن هؤلاء وأمثالهم قال الشاعر:

فالقوم في السر غير القوم في العلن

لا يخدعنك هتاف الناس بالوطن

فاعتاض عنها الورى أحبولة الوطن!

أحبولة الدين ركّت من تقادمها

إن أحبولة الوطن، أو المستضعفين أو الفقراء، وأمثالها.. كلها تصبح أحابيل مفضوحة إذا لم يكن الإنسان مخلصاً.

ومهما أراد غير المخلص التستر على نفسه، فإن نواياه تنكشف على الملأ، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: *ما أضمر امرؤ شيئاً، إلا وظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه*(131).

ويقول الشاعر:

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

ثم إن الله سبحانه لا يت˜șĠمن العمل إلا ما كان مُخلصاً وقد قال سبحانه: *وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ*(132).

وفي الحديث الشريف: إن رسول الله صلي الله عليه و اله كان يصلي بعد انتهاء حروبه على قتلى المسلمين، ثم يأمر بدفنهم بملابسهم من غير غسل ولا تكفين ولا تحنيط كما يدفن كل شهيد.

وفي إحدى الحروب جيء إليه صلي الله عليه و اله

بالقتلى فصلى عليهم ثم جيء إليه بقتيل فرفض الصلاة عليه، وعلل ذلك (بأن هذا القتيل لم يحارب لأجل الله ورسوله، وإنما حارب لأنه وجد في جيش الأعداء حماراً أعجبه، فقاتل من أجل الحصول على الحمار) وقد سماه المسلمون ب (شهيد الحمار) !

يجب على العاملين أن يحذروا أن يكونوا من قبيل (شهيد الحمار)، فلا يحاربوا لأجل الحصول على مال أو جاه أو امتياز معين أو في سبيل أن ينالوا وسام (الجهاد) فيكونون عندئذ شهداء الوظيفة أو الجاه أو السمعة، ويحرمون لطف الله سبحانه، وينفض من حولهم الجمهور.

وفي حديث آخر: أنّ الرسول صلي الله عليه و اله لم يصلّ على أحد القتلى بعد انتهاء الحرب، ولما سئل عن السبب أجاب: إنه لم يحارب من أجل الله، بل من أجل الحصول على امرأة في جيش الأعداء تدعى أم جميل فأطلق المسلمون عليه (شهيد أم جميل).

وفي التاريخ الإسلامي شواهد كثيرة على هذه الحقيقة.

فعبد الله بن الزبير، والإمام الحسين عليه السلام كلاهما حارب بني أمية حرباً لا هوادة فيها، وكلاهما قُتل، الحسين عليه السلام قتل في كربلاء، وابن الزبير قتل في مكة، وصلبت جثته.. ولكن شتان ما بين القتيلين.. فسيد الشهداء الحسين عليه السلام أصبح مشعلاً وضياءً ينير الطريق للأجيال، وارتفع لواؤه في كل مكان من الأرض، وظل ذكره يتردد على كل الشفاه المؤمنة رغم مرور ألف وأربعمائة عام على استشهاده..

أما ابن الزبير فقد طواه النسيان. والسبب: أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يهدف إلا مرضاة الله، وكان يقول: *وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وشيعة أبي.. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر*(133).

أما عبد الله بن الزبير فكان يريد التربع على كرسي الخلافة.. وأن يقال له

(أمير المؤمنين) ! وهكذا ينتصر الإخلاص.. وتندحر المصلحية..

9 العمل الدائب

في معرض البحث حول المنهج الذي يؤدي بنا إلى الحكومة الإسلامية العالمية، لابد من طرح موضوع مهم هو: (العمل الدائب) والدائم الذي لا يعرف الكلل ولا الملل، فإن الحركة الدائبة توجب النمو والتقدم، مما ينتهي إلى الحركة الإسلامية العامة، والحركة الإسلامية العامة تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم، بإذن الله تعالى.

فاللازم على الذين يريدون التحرك أن يعرفوا أنه قد انتهى وقت الكسل والخمول والنوم الكثير وأشباه ذلك، وقد روت خديجة أم المؤمنين (عليها الصلاة والسلام) أن رسول الله صلي الله عليه و اله لما نزل عليه الوحي ترك كل راحة وكان يدأب ليل نهار، في العبادة والعمل، فقلت له: يا رسول الله ألا تستريح؟ ألا تنام؟ فقال صلي الله عليه و اله: لقد مضى عهد النوم يا خديجة.

يعني أن الإنسان يجب عليه أن يستمر في العمل إذا أراد تحقيق الهدف السامي، وإذا أراد رضا الله سبحانه وتعالى، وإذا أراد تقديم المسلمين إلى الأمام.

وأذكر أن والدي (رحمة الله عليه) كان يوصيني بقلة النوم وعدم التفكر بالأمور الدنيوية، وينصحني بالمطالعة والمثابرة والعبادة وما أشبه. وكان هو رحمة الله عليه قليل النوم، وقد قلت له ذات مرة: لماذا لا تنام يا أبة؟ فقال: إني سوف أنام في القبر طويلاً فأنا أؤخر نومي إلى القبر.

وهكذا العاملون يجب أن يتهيئوا بأنفسهم وأن يهيئوا أصدقاءهم للعمل الدائب الذي لا يعرف الكلل.. من التأليف، والخطابة، واللقاءات الفردية، واللقاءات الاجتماعية، والتكلم مع الأثرياء لأجل مساندة المشاريع الإسلامية، وهكذا على طول الخط.

وقد وصفت سيدتنا فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في خطبتها المشهورة، ومن جملة ما قالت:*مكدوداً في ذات الله*(134) يعني أنه

يعمل ليل نهار، لأجل الله سبحانه وتعالى.

ويروي لنا أصبغ بن نباتة وهو تلميذ من تلاميذ الإمام (عليه الصلاة والسلام) يقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة كان يصل الليل بالنهار، والنهار بالليل، تعباً وسهراً وعملاً، يصلي ويتعبد بالليل ثم يصلي صلاة الصبح، ثم يجلس معقباً ويقرأ القرآن، ويذكر الله سبحانه وتعالى، ويقرأ الأدعية إلى أن تشرق الشمس، ثم يذهب إلى داره قليلاً ويرجع كي يوزع وقته بين الدوران في الأسواق لأجل الأمر والنهي والموعظة، وبين المجيء إلى المسجد الجامع بالكوفة ليقضي حوائج الناس، ويقضي بينهم في مكان يسمى ب (دكة القضاء)، وإذا صار الظهر صلّى، وكذلك يفعل في العصر إلى الليل، ويصلي صلاة المغرب والعشاء وبعد مضي هزيع من الليل يأتي إلى داره، فكنت معه ذات يوم، ولما انقضى هزيع من الليل رجعت معه إلى الدار فنمت في ساحة الدار، وذهب الإمام عليه السلام إلى غرفة من غرف الدار، ولم يكن النوم قد غلبني بعد وإذا بي أرى الإمام عليه السلام ينزل من الدرج وهو منحنٍ من شدة الإرهاق والنعاس، وكان يستند بيده الكريمة إلى الحائط، فظننت أن الإمام عليه السلام يريد شيئاً، فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا تريد؟ قال الإمام عليه السلام: أريد أن أصلي لربي ركعات.

قلت يا أمير المؤمنين: قبل قليل جئت إلى الدار، وما نمت إلا قليلاً فكيف تقوم؟ ألا ترحم نفسك، ألا تستريح؟ فقال الإمام عليه السلام كلمة يجب أن نتخذها نحن المسلمين إذا أردنا العمل في سبيل إنقاذ الإسلام وبلاد الإسلام أسوة في كل شؤوننا ويجب أن نربي الأجيال على هذه الحالة.

قال الإمام (عليه الصلاة والسلام): يا أصبغ كيف أنام؟ إن نمت النهار ضيعت رعيتي وإن نمت

الليل ضيعت نفسي.

وهكذا يجب أن يكون العاملون في سبيل الله دائماً في حالة حركة، وفي حالة هداية، وفي حالة إرشاد، وفي حالة توعية، وفي حالة تنظيم، وفي حالة بناء، وفي حالة دفع المفاسد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، حتى نتمكن من إنقاذ المسلمين والمستضعفين من براثن المستكبرين.

ولقد سيطر الشرقيون والغربيون على العالم وحطموا البشرية. في الهند وحدها أكثر من ثلاثمائة مليون جائع، وفي أفريقيا يموت الأطفال جوعاً، وفي أفغانستان قتل المستعمرون الشيوعيون أكثر من مليون إنسان، وشردوا زهاء خمسة ملايين، وفي الصين قتل ماوتسي تونغ أكثر من عشرين مليون إنسان.

أما البلاد الغربية فعادتهم القتل والنهب والسلب، وقد قتل الأمريكيون والإسرائيليون والبريطانيون أسياد البعث منذ سنتين فقط في الحرب بين العراق وإيران أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان غير المشوَهين والمسجونين والمفقودين وهكذا، فإذا أردنا إنقاذ المسلمين من براثن المستكبرين والمستغلين وعملائهم وتجار الحروب يجب أن نعمل ليل نهار في سبيل الله، وقد قال تعالى: *يَا أيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَىَ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ*(135)، فيجب أن نكون كادحين حتى ينقذنا الله سبحانه وتعالى من براثن الشرقيين والغربيين وعملائهم من الصهاينة والبعثيين وأمثالهم وما ذلك على الله بعزيز.

10 التواضع

يجب على قادة العمل أن يربوا أنفسهم وأفرادهم على التواضع، التواضع لله والتواضع لعباد الله، فإن التواضع من أسباب التقدم، يقول الشاعر:

على صفحات الماء وهو رفيع

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر

إلى طبقات الجو وهو وضيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه

الإنسان المتواضع يلتف الناس حوله، بينما الإنسان المتكبر يتفرق الناس من حوله، ومثل المتواضع مثل البحر الذي يأخذ الضريبة من ألوف الأنهار؛ لأن البحر تواضع وجعل نفسه دون مستوى الأنهار، والأنهار رفعت نفسها فوق البحر، بينما لو

كان البحر أرفع مستوى وكان النهر أخفض، لانصبت مياه من البحر في النهر.

من الواجب أن يلتزم الإنسان الذي يريد تحقيق الهدف بالتواضع، للكبير، وللصغير، وللعالم، وللجاهل، وللغني لا لغناه وإنما لجذبه إلى الهدف وللفقير، ولسائر الناس، وقد ورد في الحديث: *تواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمونه*(136).

وقد ضرب الأنبياء العظام والأئمة الكرام عليهم السلام والعلماء العاملون أروع الأمثلة في التواضع للحق وللخلق، وبذلك تمكنوا من جذب الناس إلى أهدافهم.

فهذا سيدنا رسول الله صلي الله عليه و اله كان يسلّم على الصغير والكبير، والأسود والأبيض، والغني والفقير، والشريف والوضيع، وكذا كان الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في الكوفة عاصمة الخلافة.

فإذا كان رسول الله صلي الله عليه و اله وهو رسول ورئيس دولة، يسلّم حتى على الأطفال الذين يراهم في الشوارع والأزقة، وكان أمير المؤمنين عليه السلام وهو الخليفة والرئيس لأكبر دولة في عالم ذلك اليوم يسلّم حتى على أقل الأفراد رتبة، فيجب علينا أن نتأسى بهما، ونسير وراءهما حتى نستطيع جمع الناس حول الإسلام وحول الدولة الإسلامية.

الحركة، يلزم أن يتبناها رجال متواضعون، سواء كانوا من القيادة أو من القاعدة، وأن يكون تواضعهم شاملاً، فيكون في الأكل، في اللباس، في المسكن، في السلام، في القيام للناس، في قضاء حوائجهم، وفي غير ذلك.

وقد ورد عن عيسى المسيح عليه السلام وهو كسائر الأنبياء عليهم السلام معلم الأخلاق ومربي الأجيال وأسوة للذين يريدون التقدم أنه طلب ذات يوم من تلاميذه الحواريين أن يغسل أرجلهم؟ فقالوا: معاذ الله، أنت نبي الله ونحن تلاميذك، فكيف تغسل أرجلنا؟! فقال عيسى المسيح عليه السلام: بحقي عليكم إلا ما تركتموني أغسل أرجلكم. فقالوا: يا معلمنا ويا

سيدنا ولمَ تريد أن تفعل هذا الفعل؟ فأجاب عيسى عليه السلام: حتى تتعلموا مني، وتكونوا في الناس هكذا، أي حتى تحترموا الناس وتتواضعوا لهم إلى درجة غسل أرجلهم، فاضطر أولئك التلاميذ للقبول، فغسل عيسى عليه السلام أرجلهم.

أيّ تواضع هذا من نبي عظيم بُعث إلى شرق الأرض وغربها؟

وقد حفل التاريخ بنماذج كثيرة حول تواضع الرسول صلي الله عليه و اله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام وقد ورد أنه دخل ذات مرة ضيفان: أب وابن، على علي عليه السلام وبعد أن جلسا واستقر بهما المجلس وتناولا الطعام، أخذ الإمام عليه السلام إبريقاً بيده ليغسل يد الضيف، فقال الضيف لأمير المؤمنين: الله، الله، كيف تغسل يدي وأنت أمير المؤمنين؟ لكن الإمام عليه السلام أمره بالامتثال، فمد الرجل يده مكرها فغسلها الإمام عليه السلام.

ثم أعطى الإبريق بيد ولده محمد بن الحنفية رحمة الله عليه فقال له: اغسل يد الولد، وكان ذلك بسبب أن الإمام عليه السلام لم يرد أن يحترم الولد بقدر احترام أبيه وهو بحضرة أبيه.

ثم قال عليه السلام للولد: لو كنت جئتني وحدك لغسلت يدك(137).

لنتصور إلى أي حد وصل التواضع بهذا الإمام العظيم عليه السلام حتى يغسل يد الضيف، إن هذا تعليم ودرس لمعاشر المؤمنين بالله واليوم الآخر وخصوصاً لمن أراد تحقيق الهدف وأراد الحركة الإسلامية العامة المؤدية إلى حكومة ألف مليون مسلم في كيفية السلوك الأفضل لجذب الناس واستقطابهم حول الأهداف الرفيعة.

وفي حديث آخر: أن يهودياً كان في صحراء الكوفة فرأى رجلاً في مسيره، فسأله اليهودي أين تريد يا عبد الله؟ قال الرجل: أريد الكوفة، فسأله الرجل: وأنت أين تريد؟ فأجاب: أريد الحيرة، فترافقا في الطريق وتكلما حتى وصلا إلى مفترق الطريق بين

الحيرة والكوفة، فتوجه اليهودي إلى طريق الحيرة فاتبعه الرجل.

فقال له اليهودي: يا هذا ألم تزعم أنك تريد الكوفة؟ قال الرجل: نعم.

قال: ليس هذا طريق الكوفة وإنما هو طريق الحيرة!. قال الرجل: نعم، إني أعلم أن هذا الطريق طريق الحيرة، لكن نبينا صلي الله عليه و اله أمرنا أن نتبع من رافقناه في الطريق خطوات، وشيع الرجل اليهودي ورجع إلى طريق الكوفة وانتهت القصة.

وبعد مدة كانت لليهودي حاجة في الكوفة فمر على باب المسجد الأعظم في الكوفة فرأى الجماهير محتشدة في المسجد، وهناك خطيب يتكلم فوق المنبر والناس يصغون إليه، فنظر وإذا الرجل الخطيب صاحبه الذي كان معه في الطريق، سأل اليهودي من أحد الحاضرين: من هذا الخطيب؟

قال الرجل: إنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فتعجب اليهودي تعجباً عظيماً، لأن أمير أكبر دولة إسلامية وأكبر دولة في العالم في ذلك اليوم يمشي وحده في الصحراء، ثم إنه رجل مسلم وهو يهودي فيراه في الطريق ويصادقه ثم يشيعه خطوات في طريق الحيرة!

تعجب الرجل، وحق له أن يتعجب، ووقف حتى أنهى الإمام عليه السلام خطبته وخرج من المسجد، فوقف أمام الإمام عليه السلام بإكبار وقال: أنت أمير المؤمنين؟

أجاب الإمام عليه السلام: نعم أنا علي بن أبي طالب.

قال اليهودي: ما هي شروط الإسلام؟

أجاب الإمام: أن تشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً صلي الله عليه و اله رسول الله، ثم ذكر له بعض شرائط الإسلام.

فقال اليهودي: فامدد يدك حتى أبايعك وحتى أشهد بالشهادتين.

وتشهد اليهودي بالشهادتين وأسلم على يد الإمام عليه السلام، ثم قال له الناس: لماذا أسلمت أيها اليهودي؟ قال: وكيف لا أسلم، وهل هناك دين أفضل من هذا الدين؟ الذي فيه رئيس الدولة الأعلى

يرافق يهودياً في الطريق ثم يشيعه خطوات، إنه لا دين أفضل من هذا الدين(138).

إن هذه القصة القصيرة ترينا كيف أن الإمام عليه السلام جذب يهودياً إلى الإسلام بسبب أخلاقه الكريمة وتواضعه العظيم، ولهذا يجب علينا نحن الذين نريد الحركة الإسلامية المنتهية إلى حكومة ألف مليون مسلم أن نتواضع لله سبحانه وتعالى، وأن نتواضع لخلق الله سبحانه.

وفي الأحاديث: *ادعوا الناس بأعمالكم قبل أقوالكم*، ومن الواضح أن الناس ينظرون إلى عمل الإنسان قبل أن ينظروا إلى قوله.

فيجب علينا أن نجعل التواضع من الأصول العامة للحركة الإسلامية التي تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من المتواضعين له ومن المتواضعين لخلقه إنه فعال لما يشاء.

11 التأهيل الذاتي للحركة

على القادة الذين يريدون الحركة الإسلامية العالمية أن يكونوا بمستوى هذه الحركة، وأن يغرسوا في أنفسهم، وفي أعمالهم، وفي أفكارهم، وفي سلوكهم المؤهلات التي يتقدمون بها إلى الأمام، فإن الحركة الإسلامية إذا أرادت أن تتحول إلى حركة عالمية حقيقية بعيدة عن الدعاية والتهريج والسمعة وحب الظهور، يجب أن تكون مؤهلة لقيادة المسلمين في عالم يعلم فيه الكل أن الشرق والغرب قد نشط في التنظيم وفي الدعاية وفي الصناعة وفي التكنولوجيا وتقدم فيها خطوات كبيرة جداً، إنهم وإن خربوا آخرتهم لكنهم عمّروا من دنياهم.

والحركة الإسلامية لا تعمل في الفراغ، بل إنها تجاهد، وهي في معترك التيارات والمؤهلات والأفكار والأعمال والتنظيمات وما أشبه، لذا يجب على القائمين بالحركة أن يؤهلوا أنفسهم لمثل هذه الحركة، ولمستوى قيادة الألف مليون مسلم، بدلاً من القيادات الشرقية والغربية والديكتاتورية والعميلة.

إنه ليس الأمر بالدعايات والادعاءات، ولا بالرياء ولا بالسمعة، ولا بالتهريج، إنها حقيقة صعبة، حقيقة النهضة الشاملة في عالم مزدحم بمختلف

الاتجاهات والأفكار والتيارات والأعمال، والمؤهلات النفسية من الشروط الأساسية لمثل هذه الحركة.

ينقل في التاريخ: أن عالماً كان يسمى بالجبائي، وكان محترماً عند العلماء وعند الأمراء، وإذا دخل المجالس قدم على زملائه لعلمه، ولما مات هذا العالم جاء ابنه بعده ودخل دار الأمير، ثم تصدر المجلس على عادة أبيه رغم وجود العلماء وكبار السن في المجلس.

فسأل الأمير عنه: من أنت؟

قال: أنا ابن الشيخ الجبائي.

لكن الأمير لم يعجبه عمل هذا الشاب، حيث إنه تقدم على الشيوخ وجلس إلى جانب الأمير، فسأله مسألة لم يتمكن الشاب من الجواب، فسأل الأمير تلك المسألة من الإنسان الجالس عن يمينه فأجاب الجواب الكافي، وتوجه الأمير إلى الجبائي الولد وقال له: هذا الشيخ مقدم عليك في العلم والفضيلة ولهذا لا يحق لك أن تجلس في مكان هو أولى به منك، فقم واجلس بعده.

ثم سأل الأمير من ولد الجبائي مسألة ثانية، فلم يتمكن من الجواب، وسأل الأمير نفس المسألة من الذي تقدم الجبائي عليه في المجلس، فأجاب ذلك الشيخ الثاني جواب المسألة الثانية، عندها توجه الأمير إلى الجبائي وقال: قم واجلس بعد هذا الشيخ الثاني لأنه أفضل منك.

وهكذا أخذ الأمير يسأل من الجبائي الولد مسألة تلو أخرى، وهو لا يتمكن من الجواب، ثم يسأل المسألة المذكورة من الذين هم أخفض منه مكاناً في المجلس، فإذا أجابوه أمر الأمير ولد الجبائي أن يجلس مجلسا دون ذلك المجيب، حتى انتهى الولد إلى صف الأحذية، فقام من المجلس، وقد ابتل بالعرق خجلاً من فشله.

فتوجه إليه الأمير وقال له: يا بني إن أباك استحق هذا المكان الرفيع على كل هؤلاء بعلمه لا لنسبه ولا لاسمه ولا لغير ذلك، فخرج الولد من المجلس، وأخذ يكدح في تحصيل العلم

وسهر لياليه وأتعب نفسه حتى صار عالماً كبيراً بعد عشرات من السنين، وبذلك استحق أن يتقدم على أهل العلم، وكان إذا دخل المجالس قدموه على أنفسهم، حتى اشتهرت العلوم الدينية عنه وعن والده ولُقّبا (بالجبائيين)، وقد ذكرهما شرح التجريد للعلامة الحلي رحمة الله عليه وبعض الكتب الأخرى.

وهكذا الحياة، إنها ليست اعتباطاً، ولا يمكن أن تنال بالكسل والأماني، يقول الله سبحانه وتعالى: *ليْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ*(139).

ويقول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

والمراد: الغلاب في العلم، الغلاب في العمل، الغلاب في الإتقان، الغلاب في الدقة، وهكذا فالدنيا تنافس، والآخرة تنافس، كما يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: *وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*(140).

الواجب أن يعمل الإنسان، وأن تعمل الحركة الإسلامية، وأن يعمل كل فرد من الحركة في البعدين الديني والدنيوي، وفي البعدين العملي والعلمي، إذا أراد التقدم. أما السباب، أما الأماني، أما ما يسمى ب (الشطارة)، أما الاعتباطيات، فإنها لا تصل إلى شيء.

فيجب على القائمين بالحركة أن يوفروا المؤهلات في أنفسهم، وفي أعمالهم حتى يلتف الناس حولهم، فإن الناس لا يلتفون حول أي إنسان، بل إنهم يلتفون حول الشيء الحسن، الجيد، الجميل، وهكذا.

وهناك قصة أخرى عن أحد تلاميذ صاحب الجواهر رحمة الله عليه وهو علم من أعلامنا البارزين، فإنه ينقل أن أحد مشايخ منطقة العمارة في العراق غضب على شاب من عشيرته، لأنه لم يعمل ما أراده شيخ العشيرة، فأمر بالولد أن تقطع يده عقاباً على مخالفته لأوامر الشيخ.

ففر الولد وفكر في الالتجاء إلى مكان لا تصل إليه يد الشيخ، فالتجأ إلى النجف الأشرف وإلى مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فاستهوته مناظر الدروس في الصحن الشريف وفي المدارس، وأخذ

يدرس ويدرس حتى وصل إلى أعلى مراحل الدراسة الحوزوية، وبدأ يشترك في حلقات درس الخارج التي يلقيها الفقهاء العظام على تلامذتهم، فحضر درس آية الله العظمى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر رحمة الله عليه وأصبح عالماً، كاملاً، عادلاً، شريفاً، عفيفاً، نزيهاً.

وذات مرة جاءت عشيرة هذا الرجل إلى النجف وعلموا بأن ولدهم من كبار تلاميذ صاحب الجواهر، فأطلعوا الشيخ صاحب الجواهر على ذلك، وطلبوا أن يجعل هذا الشيخ وكيلاً عن نفسه في العشيرة، في منطقة العمارة.

وقبل صاحب الجواهر، وكتب له كتاباً في الوكالة عنه، فعاد الشاب الذي كان قد بقي في النجف ما يقارب عشرين سنة إلى عشيرته، فاستقبلته العشيرة وتهافتوا يقبّلون يده ووجهه، وجاء رئيس العشيرة وقبّل يده، وكان هناك رجل حكيم مشتركاً في مراسم الاستقبال، فقال لصديق له: (انظر إلى الفرق بين النفس الرفيعة المؤهلة بالعلم والعمل، وبين النفس العادية العاطلة عن العلم والعمل، إن هذا العالم لما كان شاباً أراد (شيخ العشيرة) أن يقطع يده، ولما ارتفعت مكانته بالعلم والعدالة جاء نفس الشيخ يستقبله ويعانقه ويقع على يديه يقبلهما).

إن الإنسان لا يتقدم في مضمار الحياة بالتأفف والأماني والديكتاتورية والاستبداد والتهريج والدعاية الباطلة الزائفة، وإنما التقدم يكون بالإتقان والصحة في العمل، والفضيلة والتواضع، وبتوفير المؤهلات في النفس.

فالواجب على أفراد الحركة أن يهتموا لملء أنفسهم بالمؤهلات التي تعطيهم زمام الحركة الإسلامية، وبعد ذلك تعطيهم زمام ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.

12 التحلّي بالآداب الرفيعة

طلائع الحركة الإسلامية رجال شعبيون منصهرون في بحر الجماهير، ولو لم يكونوا كذلك فإنهم لا يحققون تقدماً ولا يستطيعون أن يخطوا شبراً واحداً على صعيد العمل في سبيل إقامة حكومة الإسلام العالمية.

من هنا.. لابد لطلائع الحركة

الإسلامية أن يلتزموا بالآداب الإسلامية الرفيعة التي تحببهم إلى قلوب الناس، وأن يربوا أفرادهم على الآداب، لأن الأدب يوجب التفاف الناس حول الإنسان وحول الحركة.

إننا نشاهد في المجتمع أن أي مهندس أو طبيب أو خطيب أو عالم.. وأي جمعية أو حزب أو منظمة.. وأي فرد كان.. إذا كان مؤدباً والتزم بالآداب الإسلامية يكون في راحة، ويلتف الناس حوله بشغف، بينما نشاهد من لا أدب له ينفض الناس من حوله، وكذا نرى أن الحكومة إذا كانت غير مؤدبة، سبابة، همازة، لمازة، ولعانة، وطعانة.. تركها الناس، وربما عملوا على إسقاطها.

وهكذا الحركة إذا أرادت أن تكون جماهيرية تضرب بجذورها في أوساط الناس من ناحية، ومن ناحية ثانية تصل إلى الهدف وتتمكن من استقطاب أكبر قوة شعبية في الساحة معها، فإنه يجب أن يكون القائمون بها مؤدبين لساناً، يداً، عملاً، حركةً، فكراً، كتابةً... إلخ. إن أحد أكابر علمائنا، وهو الشيخ المرتضى الأنصاري رحمة الله عليه كان في كمال الأدب، ففي كتبه: (الطهارة والصلاة والمكاسب والرسائل) وغيرها يناقش مع الذين لا يرون رأيه بكل احترام وأدب، في الوقت الذي نرى بعض الكتّاب الذين يسيئون الأدب مع الناس حيث ينفض الناس من حول كتاباتهم ولا يلتفتون إليهم.

فيلزم أن يكون الإنسان متصفاً بالآداب الرفيعة، ويكون ذا تحمل كبير، بحيث يتمكن من السيطرة على أعصابه في حركته وسكونه، في نومه ويقظته، في سفره وحضره، في لسانه وقلمه، في معاشرته مع أصدقائه، ومعاملته مع أعدائه.

وهكذا نجد رسول الله صلي الله عليه و اله اتخذ من حسن الأدب وسيلة إلى جلب أولئك الكفار الغلاظ الشداد، الذين كانوا أبعد موجود عن الأدب، ولما جاءه عدوه الأول أبو سفيان قال له رسول الله صلي الله عليه و

اله: (ألم يأن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله).

ثم قال بكل لطف: (ألم يأن لك أن تشهد أني رسول الله)(141)؟

ثم قابل إساءته بالإحسان في قصة معروفة، مما ضرب أروع مثل للإنسان المؤدب بالآداب الرفيعة.

وفي حديث أنه صلي الله عليه و اله قال: *أدبني ربي فأحسن تأديبي*(142).

وفي أحاديث متعددة: *إن الله أدب نبيه بآدابه ففوض إليه دينه*(143).

فيجب على الحركة أن تراعي هذا الأصل الإنساني الأساسي الذي يقرب الحركة إلى الهدف بإذن الله سبحانه وتعالى وهو: الآداب الإسلامية السامية.

وفي التاريخ نقل: أنه كان لأمير المؤمنين عليه السلام ألف والٍ، وألف قاض، وكان القضاة الذين يعينهم الإمام عليه السلام في أرفع درجات العدالة والنزاهة والآداب الإسلامية، وكان منهم أبو الأسود الدؤلي (رضوان الله عليه).

وفي الحديث الشريف: إن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام طلب أبا الأسود وعزله عن القضاء في المنطقة التي كان الإمام قد نصبه فيها.

جاء أبو الأسود إلى الإمام عليه السلام متأثراً وقال: (يا أمير المؤمنين لم عزلتني وما خنت في أموال المسلمين وما جنيت في أعراضهم ودمائهم ).

قال الإمام (عليه الصلاة والسلام): (نعم) يعني لم تخن ولم تجن (ولكن يعلو صوتك صوت الخصمين)(144).

الإمام عليه السلام يعزل القاضي النزيه الذي يعترف بعدالته، لأنه حين التحقيق القضائي يعلو صوته صوت الطرفين، لماذا هذا الأمر؟ الحكم بيدك ويجب أن تقول هذه الدار لفلان، هذه الزوجة لأحد المتخاصمين، أما أن تصرخ وأن يكون الصوت أعلى من صوت الطرفين المتنازعين فلا.

الإسلام يراعي الآداب إلى هذا الحد، لأن الإسلام دين الإنسان، دين الرحمة والشفقة، دين الفضيلة والكمال. ولذا يجب على الحركة أن تتعلم من الأنبياء والأولياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) الآداب.

وفي التاريخ: أن

رجلاً سب الإمام السجاد عليه السلام، فأغضى عليه السلام عنه حتى يشعره بأنه لم يسمع، فسبه مرة ثانية، والإمام ساكت مغض عنه، ثم سبّه مرة ثالثة والإمام ساكت، فلم يتحمل الشاب سكوت الإمام عليه السلام فقال للإمام: إياك أعني.

فأجابه الإمام عليه السلام: (وعنك أغضي).

يعني: أني شعرت أنك تريدني بالسب، لكن أغضيت عن كلامك لأنه لا يليق بالإنسان الرفيع أن يرد السب بمثله.

وفي حديث، روي عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: معاشرة الناس ثلاثة أثلاث، ثلثان التغافل، وثلث المداراة.

فعلى الإنسان خصوصاً إذا كان ذا هدفٍ رفيعٍ أن يتظاهر بأنه لم يشعر بالسب، وبالهمز، وباللعن، وبالطعن...

والشاعر يقول:

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني

هذا ثلثان.. والثلث الآخر: مداراة الناس، والإحسان إليهم..

يقول الشاعر:

ودارهم ما دمت في دارهم وأرضِهم ما دمت في أرضِهم

ولقد ورد في الحديث الشريف، عن رسول الله صلي الله عليه و اله: أنه قال: *كلما نزل جبرئيل أمرني بمداراة الرجال*(145).

وفائدة المداراة ترجع إلى الإنسان، ترجع إلى الحركة، ترجع إلى المنظمة، ترجع إلى الجمعية، ترجع إلى الحزب، ترجع إلى الإنسان الذي يريد تحقيق هدف كبير في الحياة.

الحركة يجب أن تكون في مستوى رفيع من الآداب في كل شؤونها.

ذات مرة وصف شخص في كتاب له نصير الدين الطوسي رحمة الله عليه بالكلب!، فأجابه نصير الدين الطوسي بجواب رقيق لطيف يذكره الشيخ عباس القمي (رضوان الله تعالى عليه) في كتابه القيم (الكنى والألقاب)، وهكذا كان الأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحون من العلماء الراشدين والذين تمكنوا من التقدم إلى الأمام، وأن يصلوا الأمة إلى الأهداف السامية.. الرفيعة. وهناك قصة تنقل عن أحد كبار العلماء العاملين، وقد كان هذا العالم جالساً في محضر جماعة من أصدقائه العلماء،

فدخل عليه ريفي وهو يحمل معه مقداراً من الخيار في غير موسمه هدية للعالم، فأخذ العالم واحدة وتذوقها، ثم تناول الخيار كله، لم يقدم لأحد الجالسين شيئاً منه وسط دهشتهم ثم شكر الريفي وأهدى له هدية، فقام ذلك الريفي وانصرف. وبعد ذلك توجه إلى جلسائه وقال لهم ربما تعجبتم من أكلي الخيار وحدي بدون تقديمه لكم، إني كنت قد نويت تقشير الخيار وتقديمه إليكم، ولكني ذقت الخيار فوجدته في غاية المرارة، فقلت لنفسي لو قدمته إليكم وذاقه بعضكم لأمكن أن يقول: إنه مر، وذلك يسبب خجل الريفي الذي أهدى الخيار، فرجحت أكل الخيار وتحمل المرارة الجسدية على مرارة الريفي النفسية.

وبهذا الأدب الرفيع تمكن الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعلماء والمخلصون من التقدم بأممهم إلى الأمام. فالحركة يجب أن تتخذ الآداب الرفيعة مصدراً ومورداً ومنهجاً وأصلاً تسير الحركة عليه، فإذا فعلنا ذلك اقتربنا من الهدف المنشود، بإذن الله تعالى.

13 الابتعاد عن السلطات الدكتاتورية

القائمون بالحركات يجب عليهم الابتعاد عن السلطات الدكتاتورية التي ملأت البلاد الإسلامية لا لدفع الاتهام فحسب، وإنما لأجل أن المقترب من السلطان وأعوان السلطان لابد وأن ينزلق، وفي الحديث: (المرء على دين خليله)(146).

لا يمكن أن يقول الإنسان إني أقترب من القذارة ولا يلوثني منها شيء، كما إنه إن اقترب الإنسان من العطر اكتسب رائحة العطر.

ولعل هذا هو سر قوله تعالى: *وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ*(147) يعني أن مجرد التقرب من الزنا فيه خوف الوقوع.

فيلزم أن تكون الحركة نظيفة إلى أبعد الحدود ولا ترتبط بالسلاطين والأمراء والرؤساء من قريب أو بعيد مطلقاً.

ويجب على الإنسان أن لا ينخدع بذريعة أن فلاناً (رئيس الجمهورية) مثلاً، لأن رئيس الجمهورية إنما لا يكون ديكتاتوراً إذا بُدّل هو وأعوانه كل أربعة سنوات أو ما

أشبه.

فمن الضروري على الحركة النزيهة التي تريد أن تنتهي إلى إقامة حكم الله على ألف مليون مسلم، الاجتناب القطعي عن السلطات مهما كانت السلطات وراثية أو انقلابية عسكرية أو رئاسة الجمهورية مستبدة ديكتاتورية أو ما أشبه، فإن ذلك يسبب أولاً تراخي الحركة في ذاتها، وثانياً يسبب اتهام الناس للحركة والمرتبطين بها و(رحم الله من جب الغيبة عن نفسه) كما في الحديث، و(من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن)(148) ، وفي حديث آخر: (من دخل مداخل السوء اتهم)(149)، فمن الواضح أنك إذا رأيت إنساناً عادياً خرج من بيت باغية ولم يكن معصوماً من قبل الله تعالى، فإنك تظن به سوءً...

فمن الضروري أن يتجنب الإنسان مواقع الاتهام. ومواقع الاتهام هي: الثروة، القرب من السلطات، الترف... كل هذه الأمور هي مواقع اتهام، مهما كان الإنسان مخلصاً.

وعلى أي حال فهذا أيضاً أصل يجب اتباعه من قبل القائمين بالحركة إتباعاً صارماً وإلا سقطوا. ولذا نرى في التاريخ أن كل عالم وكل حركة اقتربت من السلطات انزلقت على الأغلب ثم سقطت، وبالعكس نرى أن كل حركة وكل فرد ابتعد عن السلطات كان في محل الاطمئنان.

ولا يخفى أن الكلام في الأصل العام وفي القاعدة الأولية، وإلا فلكل قاعدة مستثنيات كموسى عليه السلام اقترب من قصر فرعون لنصحه، وإبراهيم عليه السلام اقترب من نمرود لإرشاده، ونبي الإسلام صلي الله عليه و اله اقترب من أبي جهل وأبي لهب لإرشادهما، وهما من كبار رجال السلطة في مكة أيام الجاهلية.

فمن الضروري إذن الابتعاد عن السلطات فرداً وحركةً.

ونحن نرى في التاريخ أمثلة كثيرة من الطرفين، مثلاً من الذين اقتربوا من السلطات وفسدوا وأفسدوا: الشيخ أبو يوسف القاضي، حيث اقترب من هارون

العباسي على فسقه وفجوره وسفكه للدماء ومعاقرته للخمر (وكان عصر الرشيد وليس برشيد عصراً مظلماً مرعباً يلاحظه الإنسان إذا راجع التاريخ المحايد الذي لم يكن فيه كاتب التاريخ من كتاب البلاط، أما إذا كان من كتّاب البلاط فيقول كل شيء ويزيف كل حقيقة وليس ذلك بمهم عنده).

أبو يوسف اقترب من السلطات ومن هارون العباسي بالذات، ولهذا كان يفتي بغير ما أنزل الله حتى في الدماء والأعراض، ومن القصص المشهورة عن أبي يوسف والمذكورة في التواريخ: أن هارون العباسي قرر الزواج بزوجة لأبيه، وهي محرمةٌ عليه كتاباً وسنةً وإجماعاً وعقلاً، لكن زوجة أبيه كانت أشرف منه وملتزمة دينياً بصورة نسبية، فعارضت هارون في القضية قائلة: (كيف ذلك أيها الخليفة وأنا زوجة لأبيك).

لكن شهوات هارون حالت دون الاستماع إلى صوت العقل وصوت الشرع، قال: سأستفتي المرجع الديني! فذهب إلى أبي يوسف وقال له: إن هذه المرأة تدعي أن أبي اقترب منها فماذا تقول بزواجي منها؟

قال أبو يوسف لما رأى ميل الخليفة إلى الاقتراب منها: (إنها تكذب يا أمير المؤمنين فلا يهولنّك ما تقول)، فاقترب منها وذنبه عليّ، ضارباً عرض الحائط القاعدة المشهورة: (هن مصدقات على فروجهن) واقترب منها هارون وأعطى لأبي يوسف مائة ألف درهم أي خمسين ألف مثقال من الفضة جزاءً لفتياه هذه.

هكذا يكون حال المقترب من السلطات الديكتاتورية والرؤساء المستبدين، وفي قبال هذه القصة قصة أخرى لعالم شريف وهو آية الله الحاج ملا هادي السبزواري صاحب شرح المنظومة: إن هذا الرجل كان عابداً زاهداً وسمع السلطان القاجاري (ناصر الدين شاه) باسم هذا الرجل وعلمه وزهده، وسأل من أصدقائه هلموا نطلب من هذا العالم أن يأتي من سبزوار إلى طهران لأراه.

قالوا

له: إنه لا يأتي إليك ولو طلبته، لأنه مرتبط بالله وليس مرتبطاً بالسلاطين. بعد ذلك سأل ناصر الدين شاه: وهل يذهب إلى الحج حتى نراه في طريقه؟

قالوا: إنه قد ذهب إلى الحج الواجب وهو مشغول بالعلم ويرى العلم فريضة والحج بعد ذلك سنّة.

قال لأصحابه: وهل يذهب إلى العتبات المقدسة؟

قالوا: ذهب إلى العتبات ويرى الذهاب إلى العتبات سنة، والعلم فريضة، لأنه يدير حوزة علمية هناك، والحوزة العلمية تقوم به، فإذا ذهب إلى السفر اختلت أمورها، ويرى ذلك غير مشروع.

قال: فنحن نذهب إلى خراسان، وبهذا المبرر نمر من (سبزوار) ونراه.

وعندما وصل السلطان إلى سبزوار زاره كثير من الناس من مختلف مناطق سبزوار وأريافها وما أشبه، وكلما سأل: هل جاء الحاج ملا هادي؟ قالوا: لا.

فاضطر إلى أن يرسل إلى الملا هادي إنساناً يقول له: إن الملك يريد زيارتك.

ذهب الرسول ورجع وقال للملك: إن الملا يقول: إني لا أرتبط بالملك ولا أحب أن يزورني فإني مشغول بعملي.

فنظر ناصر الدين شاه إلى رئيس وزرائه وقال: يجب علينا أن نذهب إليه سراً بدون اطلاعه، كزائر غريب.

قال رئيس الوزراء: نعم الرأي ما رأيت.

فذهبا كفردين عاديين وطرقا عليه الباب فجاء الخادم، فقالا له: إنا نريد الشيخ.

فذهب ورجع وقال: ادخلا، فدخلا، وإذا بالعالم جالس على حصير من القصب وهو مشغول بتأليفه، فجلسا عنده وسلما عليه، فرد عليهما السلام وقال: من أنتما وما تريدان ؟

قال: أنا ناصر الدين شاه وهذا رئيس وزرائي.

قال الشيخ: ماذا تريدان ؟

قالا: كنا نريد زيارتك، فهل لك حاجة؟

قال: كلا، لا حاجة لي إلى محتاج، إني بحاجة من رأسي إلى قدمي، لكن حاجتي إلى قاضي الحاجات، وليس من يسمونه بالملك.

قال ناصر الدين شاه: ألا نأمر برفع الضريبة عنك؟

قال الحاج

ملا هادي: لا، لأنه لا فائدة من ذلك، أما إذا رفعت الضريبة عن كل البلد فذلك شيء مفيد، أما أن ترفع عني الضريبة وتجعل الضريبة على غيري فهذا شيء غير صحيح، وإني لا أريد ذلك، حتى لا تكون كالرشوة لي.

وبعد ذلك قال ناصر الدين شاه: وهل تسمح لنا بأن نبقى في بيتك لنأكل من طعامك ظهراً؟

قال: لا بأس، ثم صاح العالم: علي بغذائي، وكان الوقت ظهراً، فجاء الخادم بطبق من الخوص وعليه قرصان من خبز الشعير وإناء ملح وإناء ماء وملعقة من الخشب.

قال لهما: تفضلا، فلم يتمكن ناصر الدين شاه ورئيس حكومته أن يأكلا من ذلك الأكل إلا القليل، ثم أخذ ناصر الدين شاه قسماً من الخبز والملح في منديل له وقام وانصرف من مجلس الشيخ.

وكان ناصر الدين شاه إلى وقت موته يقول: إنه عالم رباني مرتبط بالله وغير مرتبط بالدنيا.

وهكذا نرى صدق حديث رسول الله صلي الله عليه و اله حيث قال: *إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فقولوا: بئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء* أي إنهم يعودون العلماء لأخذ الأحكام والمسائل لا للاستفادة من شخصياتهم وسمعتهم ومركزهم *فقولوا: نعم الملوك ونعم العلماء*.

الواجب على الحركة الإسلامية التي تريد مرضاة الله والانتهاء إلى حكومة ألف مليون مسلم، أن تبتعد عن بيوت الملوك والأمراء ومن أشبههم حتى تبقى الحركة على نظافتها من ناحية، وحتى لا تتهم عند الناس بما يوجب انفضاضهم من حول الحركة من ناحية ثانية، وحيث إن المجاهد الذي يكون مع الله فالله ينصره *إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ*(150).

14 قضاء حوائج الناس

الكثير من القائمين بالحركة الإسلامية يتوهمون أنه ليس من المهم قضاء حوائج الناس، وإنما المهم الاشتغال

بالحركة فقط، وهذا زعم خاطئ، فإن الحركة لا تتقدم إلا بالجماهير، والجماهير لا يلتفون حول حركة ما إلا إذا قدمت لهم الخدمات الاجتماعية، وقضت حوائجهم، ومهما كانت الحاجة صغيرة فإنها في نظر المحتاج كبيرة وفي المثل: (صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءها).

فمن الضروري أن يهتم القائمون بالحركة بقضاء حوائج الناس حسب الميسور، فإن ذلك يوجب التفاف الناس حولهم والاستماع إليهم، ودعم خطهم، والسير معهم إلى الهدف المنشود، أي (الحكومة الإسلامية العالمية) بإذن الله تعالى.

ومن هنا نجد أن رسول الإسلام والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) كانوا يسعون في قضاء حوائج الناس حسب القدرة والمكنة، حتى أن الرسول صلي الله عليه و اله كان إذا لم يتمكن من قضاء الحاجة في وقت الطلب والسؤال كان يجعل قضاءها ديناً على نفسه. هذا جابر بن عبد الله الأنصاري يحدثنا فيقول:

كنا في غزوة مع رسول الله صلي الله عليه و اله وفي رجوعنا جن الليل، وتأخرت عن الركب وأناخت ناقتي وعصت، فلم أتمكن من إنهاضها، وبقيت متحيراً وحدي في ظلمة الليل بالصحراء، وأنا أخاف العدو، وإذا بي أسمع صوتاً من خلفي: هذا جابر.

فعرفت أنه صوت رسول الله صلي الله عليه و اله وكنت أعلم أن الرسول صلي الله عليه و اله من عادته التأخر عن الركب في غزواته، حتى إذا تخلف عن السير عاجز أو من لا يتمكن من السير أو الضعيف أو المريض أو المجروح أسعفه.

فقلت: نعم يا رسول الله أنا جابر.

فتقدم إلي الرسول وأنا في ذلك الوقت شاب، فقال لي رسول الله: ما لك يا جابر هنا ولماذا لم تمش مع الركب؟

قلت: يا رسول الله إن ناقتي عصت وأناخت ولم أتمكن

من إنهاضها.

فتقدم الرسول صلي الله عليه و اله وهو الماهر في كل شيء، فأقام الناقة. ثم شبك يديه وبسط كفيه وقال لي: يا جابر ضع رجلاً على كفي ورجلاً على متني واركب الناقة.

قلت: يا رسول الله لا أفعل ذلك.

قال: افعل ما قلت. لأن الناقة لا يمكن ركوبها إلاّ بالصعود على مرتفع.

ثم قال رسول الله صلي الله عليه و اله: يا جابر ألك زوجة؟

قلت: لا يا رسول الله.

قال: ولم؟

قلت: لأن أبي قد مات وعلي ديون منه ولا أستطيع الزواج.

قال رسول الله صلي الله عليه و اله: يا جابر أنا الآن لا أملك قضاء دين أبيك، ولكن ائتني في فصل التمر لأعطيك ما تتمكن به من قضاء دين أبيك، ثم شوقني رسول الله صلي الله عليه و اله للزواج.

فلما كان فصل التمر ذهبت إليه صلي الله عليه و اله فأعطى دين أبي من التمر الذي جاءه من الزكاة(151). وهكذا كان الرسول صلي الله عليه و اله مهما تمكن يعطي حاجات الناس ويتفقد أمورهم الصغيرة منها والكبيرة.

ويروي بعض المؤرخين عن بعض الصحابة: أن الناس كانوا يأتون إلى رسول الله صلي الله عليه و اله بأطفالهم الصغار حتى يؤذن الرسول صلي الله عليه و اله في أذنهم اليمنى ويقيم في أذنهم اليسرى، لأنها سنة مستحبة وقد ثبتت أهميتها في العلم الحديث، حيث إن مخ الطفل كالشريط يأخذ ما يلقى إليه من سمعه وبصره وسائر جوارحه وحواسه، وستؤثر تلك المعلومات فيه تلقائيا في أيام كبره.. تؤثر في قوله وفعله وفي تفكيره، وهناك حديث عن رسول الله صلي الله عليه و اله: *اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد*(152). وكذلك الإنسان إذا مات، مات جسمه، أما روحه فلا تموت، ولذا يستحب تلقين

الميت في اللحد، وفي القبر، كما هو مذكور في الكتب الفقهية، وقد ثبت علمياً أن روح الإنسان تعي حتى بعد الموت. فهذا الحديث ثابت لا شرعاً فحسب، وإنما علمياً أيضاً بالنسبة إلى الطفل وبالنسبة إلى الميت.

وعلى أي حال: فكان الناس يأتون بأطفالهم الصغار إلى رسول الله صلي الله عليه و اله، والرسول صلي الله عليه و اله كان يؤذّن ويقيم في آذانهم بكل رحابة صدر، وربما بال الصبي في حجر رسول الله صلي الله عليه و اله ونجس ملابسه، فكانت أمه تزرمه (أي تقطع عليه بوله) فكان الرسول صلي الله عليه و اله يقول بكل لطف: لا تزرموا بالصبي، فإني اغسل ثوبي وتذهب آثار البول أما أذى الطفل فستبقى آثاره في جسمه وربما في روحه ويتعقد الطفل بسبب ذلك(153).

بهذه الأخلاق الرفيعة علمنا رسول الله صلي الله عليه و اله طريق رضا الله أولاً، وطريق استقطاب الجماهير حول الحركة الإسلامية ثانياً.

وهكذا كان علي أمير المؤمنين عليه السلام الذي تخرج من مدرسة رسول الله صلي الله عليه و اله حتى أنه كان قد جعل في وسط الكوفة بيتاً وسماه (بيت القفص)، حتى إذا كان لإنسان حاجة واستحى من علي عليه السلام أن يواجهه، والكل يعلم أن علياً (عليه الصلاة والسلام) كان قريباً من كل الناس وبينهم، ولم يكن دكتاتوراً مستبداً يتجنب الناس ويتجنبوه، وكما يقول أحد تلاميذ الإمام (كان فينا كأحدنا)(154) يدور في أسواق المسلمين، ويقضي في المسجد بينهم، ويعطي حاجاتهم، ويخطب لهم، ويصلي بهم، ومع ذلك قد صنع بيتاً يسمى ببيت القفص، حتى إذا عجز إنسان عن الوصول إلى الإمام أو استحى من مواجهته كان يكتب حاجته في ورقة ويقذف بتلك الورقة في بيت القفص،

ثم يأتي الإمام عليه السلام إلى ذلك البيت ويفتح بابه المقفل ويأخذ الأوراق ويطلع على الحاجات ثم يقضيها.

وينقل التاريخ أن الإمام الرضا عليه السلام في خراسان ذهب إلى الحمام ذات مرة وهو إمام معصوم من قبل الله وولي العهد في الظاهر للخليفة، وتحت نفوذه مشارق بلاد الإسلام ومغاربها، ورغم ذلك كان الإمام عليه السلام يذهب إلى الحمام بدون خدم أو حشم، لأن الإمام والرسول والقائد والمصلح الحقيقي يجب أن يكون بين الناس، وبينما كان الإمام في الحمام إذ جاءه رجل لا يعرف الإمام، وقال: يا هذا إدلك ظهري، أي امسحه بالكيس لتنظيفه. فأخذ الإمام الكيس وصار يدلك جسمه، وإذا بشخص يدخل الحمام ويرى الإمام وهو يدلك جسم ذلك الشخص الريفي بالكيس، قال للريفي: يا هذا ما تفعل؟

قال: لم أفعل شيئاً وإنما التمست من هذا الرجل أن يدلك جسمي.

قال: ويلك هذا إمامك وولي العهد. وعندما عرف الرجل الريفي ذلك امتنع، فقال الإمام له: بحقي عليك إلا ما بقيت على حالك حتى أتمّ تنظيفك.

ونظفه الإمام، حسب طلب الرجل منه حين لم يكن يعرفه. وهكذا كان المعصومون (عليهم الصلاة والسلام) يقضون حوائج الناس المادية إلى جانب تعليمهم وتربيتهم على الأخلاق والفضيلة. فكل حركة إذا أرادت أن تحظى بقبول الناس والتفافهم حولها يجب عليها أن تقضي حوائج الناس حسب استطاعتها، فإن هذا أصل مهم يجب مراعاته حتى تتمكن الحركة من التأثير في الجماهير وتتقدم، وما ذلك على الله بعزيز.

15 الإتقان في العمل

على القائمين بالحركة الإسلامية العالمية الإتقان في كل شؤونهم: العلمية والعملية، الأخلاقية والتربوية، التنظيمية والتوعوية وغيرها.

فإن الإتقان أولاً: يسبب صحة العلم والعمل والفكر والحركة.

وثانياً: يسبب ثقة الجماهير بالحركة، فإن الناس يلتفون حول المتقن لأموره، وحول الأشياء المتقنة، فإن

كل تقدم في الحياة إنما هو بفضل الأمور المتقنة. والمتقن من العلماء والخطباء والمؤلفين، ومن الدروس والخطابات والكتب والتنظيمات والنشاطات.. وحتى الماديات كالدور والألبسة والوسائل وغيرها.. هي المفضلة عند الناس.

فالإتقان في أي أمر إذا راعته الحركة ربحت، وإن لم تراعه خسرت، فإن الزيف إذا ظهر للناس في قول، أو عمل، أو حركة، أو كلام، أو تأليف، أو نبأ، أو تنظيم، أو غير ذلك، انفضوا من حول هذا الشيء الهش غير المتقن. ولذا قال رسول الله صلي الله عليه و اله: (رحم الله امرئ عمل عملاً فأتقنه) و(إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن)(155) قال ذلك في حديث مشهور، حيث كان أحد أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله يسمى سعداً، وهو شاب نشط ذكي، وكان يخدم الإسلام خدمة كبيرة، فمات هذا الشاب، وقد شيع الرسول صلي الله عليه و اله هذا الشاب بلا حذاء ولا رداء في صورة من مات أحد أعز أصدقائه أو أقربائه، وكان الرسول صلي الله عليه و اله يمشي أحياناً على رؤوس أصابعه، كما إذا كان الإنسان في زحام شديد، وكان صلي الله عليه و اله يأخذ الجنازة من جوانبها الأربعة ويدور حولها، فلما جيء بجنازة سعد ووضعت على القبر، دخل رسول الله صلي الله عليه و اله القبر فتناول الجثمان ووضعه في لحده، وصفّ اللبن والأحجار أمامه، وكان يقول لمن يعينه: ناولني اللبن وناولني الطين ويبني اللحد بيده، ثم أهيل التراب على القبر وأم سعد حاضرة، فقالت هنيئاً لك يا سعد الجنة.

الرسول صلي الله عليه و اله قال لها: يا أم سعد لا تحتمي على الله الجنة.

وبعد تفرق المسلمين قال بعض الأصحاب للرسول صلي الله عليه و اله: يا رسول الله

رأيناك فعلت هذا اليوم عجباً، لقد مشيت في جنازة سعد بلا رداء؟

قال: لأني رأيت الملائكة هكذا، فاقتديت بهم.

قالوا: يا رسول الله رأيناك تمشي على رؤوس أصابعك؟

قال: وكذلك كانت تمشي الملائكة من الزحام، وقد أراد النبي صلي الله عليه و اله أن يُري المسلمين هذه الحقيقة، وإلا فإن الملائكة ليست أجساماً كالإنسان.

قالوا: يا رسول الله رأيناك تأخذ يمين السرير ويساره الذي كان الجثمان عليه؟

قال: كانت يدي بيد جبرئيل وكلما دار جبرئيل درت، فهو كان يحمل اليمين واليسار وأنا كنت أحمل اليمين واليسار.

قالوا: ثم يا رسول الله رأيناك تملأ الثقوب بين اللبن والأحجار؟

قال الرسول صلي الله عليه و اله: رحم الله امرئ عمل عملاً فأتقنه، وإذا عمل أحدكم عملاً فليتقن(156). يعني: أن الرسول صلي الله عليه و اله كان يريد الإتقان حتى في تصفيف اللبن وشد بعضها إلى بعض حتى إذا كان تحت التراب فلا يسرع إليه البلى.

انظروا إلى ضرورة الإتقان في كل شيء حتى في البناء داخل القبر الذي ليس له منظر ولا مستقبل ولا بائع ولا مشتر، لكن المسلم يجب أن يتعلم الإتقان في كل صغيرة وكبيرة.

قال المسلمون: يا رسول الله بعد كل ذلك قلت لأم سعد: يا أم سعد لا تحتمي على الله الجنة، كيف؟ ألا يذهب سعد إلى الجنة مع ما قلته حول سعد وعملته؟

قال رسول الله صلي الله عليه و اله: نعم إن القبر ضم سعداً ضمّة.

قالوا: ولم يا رسول الله؟

قال: لأنه كان في خُلُقه مع أهله سوء (157).

ليس من الغريب أن يؤكد الإسلام على هذه الأمور وإن صغرت، إن من الغريب أن يتوهم الإنسان خلاف ذلك، فالجزاء مرتبط بما عمله الإنسان *وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىَ*(158) *وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا

سَعَىَ*(159) وإن كان مثقال حبة من الخردل، فكل شيء له موضع، وكل شيء له تقدير، وكل شيء له ثمرة وجزاء *إِنّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*(160). لا يقول إنسان إني عامل.. وإني نشيط.. وإني أجاهد في سبيل الإسلام، وإني أريد إقامة حكومة الإسلام، وإن لي أعمالاً كثيرة، ثم يترك بعض الواجبات ويظن أن ترك تلك الواجبات أو إتيان بعض المحرمات ليس بمهم. لا.. كل شيء مهم *وَكُلّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ*(161) فالقبر ضم سعداً ضمة لأنه كان في أخلاقه سوء مع أهله، وعلى أي حال هذه دروس بليغة جداً للذين يريدون القيام بالحركة.

والجهة التي نريد طرحها هنا هي جهة (الإتقان في العمل) فبالإتقان في العمل يتقدم الإنسان، وبعدمه يتأخر، وليس له أن يكون هشاً في تفكيره وفي عمله وفي تأليفه وفي قوله وفي حركته ونضاله وسائر شؤونه، فالحاكم والعالم والخطيب والثوري الذي يريد الحركة والتقدم وانتشال المسلمين، يلزم أن يكون متقناً لأعماله اتقاناً شديداً.

هذا حديث لعله غريب في أنظارنا، لأننا لا نجد مثله في زماننا، وفي عالمنا المعاصر: الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان يمشي في شوارع الكوفة وإذا به يرى فقيراً، شيخاً، طاعناً في السن يتكفف. وقف الإمام عليه السلام ووقف من كان معه، وتوجه إليهم وقال لهم: ما هذا؟

لم يقل (من) هذا، فإن (ما) تستعمل في اللغة العربية لغير العاقل، أما (من) فتستعمل للعاقل، فكأن عليه السلام رأى شيئاً غريباً.

قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز فأخذ يتكفف الناس.

قال الإمام عليه السلام: ما أنصفتموه، استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال(162).

والكوفة في زمان الإمام عليه السلام حسب ذكر بعض المؤرخين كان فيها أربعة ملايين نسمة، ففي

هذا البلد الواسع، الإمام استغرب حتى من فقير واحد غير مسلم يتكفف، ثم يقول: ما أنصفتموه. يعني أنه لما كان شاباً كان يعمل ويكدح، ويكتسب المال ويعيش، حتى إذا عجز تركوه، فأمر له براتب يكفيه. انظروا إلى الإتقان، إذ في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام العظيمة لا يوجد حتى فقير واحد!! وفي كلام آخر للإمام عليه السلام يقول: *لعل هناك باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع*(163).

الدولة الإسلامية الواسعة، وهي أكبر دولة في ذلك اليوم ويرأسها الإمام عليه السلام لم يكن حتى في أفقر مناطقها محتاج واحد، هذا معنى الإتقان.

تعالوا إلى عالمنا اليوم، فقد ذكرنا في حديث سابق أن كتاب (التحدي العالمي) وهو كتاب غربي ترجم إلى العربية يذكر: أن في أمريكا وحدها أكثر من (30) مليون فقير، هل هذا إتقان؟ أم أن النظام الإسلامي هو المتقن؟

ولقد ذكرت صحف العالم في مناسبات مختلفة أن في العالم أكثر من ألف مليون فقير. يعني ما يقرب ربع البشرية جمعاء.

والإتقان ليس معناه الإتقان في الكتابة، أو الإتقان في الزراعة، أو الإتقان في الصناعة فقط، بل معناه الإتقان في كل شيء، ومنه الإتقان في الحكومة والإدارة والسياسة، وفي الحاكم الأعلى، وشخصيات الثورة والدولة.

إذن لو أرادت الحركة الإسلامية العالمية النجاح بتأسيس دولة إسلامية ذات ألف مليون مسلم، يجب عليها أن تراعي أصولاً عديدة منها: الإتقان.. وفقنا الله تعالى لما فيه رضاه.

16 الوفاء

لابد للمجاهدين في سبيل إقامة حكومة ألف مليون مسلم العالمية أن يتميزوا عن غيرهم بالتزامهم بالخلق الإسلامي الكريم لكي يجذبوا الناس إليهم.. ومن الأخلاق الإسلامية الكريمة (الوفاء).

الإنسان الوفي يثق به الناس ويحسنون الظن به، وكل من يصادقه يلمس منه الصدق لأنه يظل صديقاً له باستمرار، ولا يقطع خيط

الصداقة معه. بينما غير الوفي لا يثق به حتى أصدقاؤه ولا ينسجمون معه كل الانسجام، ويكونون منه على حذر لأنه ربما يتركهم.

ولو تعامل الناس مع المجاهدين بحذر ولم يضعوا فيهم ثقتهم، فسوف يعود ذلك بالضرر الكبير على الحركة الإسلامية كنتيجة لذلك. فلا تستطيع الحركة من تجميع الجماهير والسير بها قدماً إلى الأمام. فاللازم أن يكون أعضاء الحركة متحلين بصفة (الوفاء) ليس مع أصدقائهم فحسب، بل حتى مع الأعداء أيضاً في المعاهدات وأمثالها.

ومن أسباب نجاح رسول الله صلي الله عليه و اله الظاهرية هو التزامه بالوفاء. وكان صلي الله عليه و اله وفياً إلى أبعد الحدود، ولذا نشاهد أن بعض أصحابه الذين صادقهم لم ينقلب عليهم وإن انقلبوا عليه، بل كان يعتني بهم ويظهر الوفاء لهم..

ذات مرة تجسس أحد أصحاب الرسول صلي الله عليه و اله واسمه (حاطب ابن أبي بلتعة) على المسلمين في قضية فتح مكة، ولو كان تجسس حاطب حقق مرماه ونجح في إيصال الأخبار إلى أعداء الرسول صلي الله عليه و اله في مكة لكانت تراق دماء كثيرة، ولا يعلم بعدها من يكون الرابح في المعركة، الرسول أم المشركون؟

وكان صلي الله عليه و اله قد قرر فتح مكة بصورة سرية وسلمية حتى لا تراق الدماء، أي أخذهم على حين غرة لكي تسقط مكة في أيديهم ويستسلم أهلها للإسلام ولحكومة الله سبحانه وتعالى وذلك على أثر نقض الكفار المكيين العهد الذي كان الرسول قد أبرمه معهم مما أعطى الرسول صلي الله عليه و اله المبرر العرفي فضلاً عن المبرر الشرعي في فتح مكة في قصة طويلة مشهورة ، فلما قرر الرسول صلي الله عليه و اله فتح مكة والتحرك نحوها سراً، كتب

(حاطب بن أبي بلتعة) إلى الكفار يخبرهم بعزم الرسول صلي الله عليه و اله.

وقد علم الرسول صلي الله عليه و اله بالكتاب وأرسل علياً عليه السلام والزبير ليأخذوا الكتاب من المرأة التي كانت مرسلة من قبل حاطب إلى أهل مكة، فأخذ علي عليه السلام الكتاب منها، ورجع به إلى رسول الله صلي الله عليه و اله. وعند ذلك أراد بعض الصحابة أن يقتل حاطباً على هذه الخيانة الكبيرة والحق الشرعي والعرفي كلاهما يعطيان للرسول صلي الله عليه و اله حق الانتقام من حاطب، فإن الجاسوس حكمه الجزائي القتل لكن وفاء الرسول صلي الله عليه و اله حال دون ذلك وعفا عن حاطب، في قصة تحير التاريخ إلى هذا اليوم من عظمة الوفاء فيها، فكان صلي الله عليه و اله وفياً لا مع أصدقاءه فحسب، بل حتى مع الذين يرتكبون خيانة كبرى، أمثال حاطب.

وفي قصة أخرى، تآمرت مجموعة على حياة الرسول صلي الله عليه و اله ولكن المؤامرة انكشفت فعفا الرسول صلي الله عليه و اله عنهم(164). هذا الشيء يمكن أن يذكر في حكمة الرسول صلي الله عليه و اله، ويمكن أن يذكر في وفاء الرسول صلي الله عليه و اله، ويمكن أن يذكر في تدبير الرسول صلي الله عليه و اله حيث كان أقدر الناس على جمع الكلمة والسير بالأمة إلى الأمام.

عفا عن حاطب، وعفا عن المتآمرين الذين أرادوا قتله بالذات، ذلك لأن الوفاء يوجب التفاف الناس حول الوفي، سواء أكان فرداً عادياً، أو عالماً، خطيباً، تاجراً، رجلاً، امرأةً، حزباً، منظمةً، هيئةً، حركةً، جمعيةً... وغيرها.

القائمون بالحركة الإسلامية، الذين يريدون الوصول إلى الهدف، يجب عليهم أن يجعلوا الوفاء من أصولهم الأخلاقية الرئيسية التي يراعونها

في حال الحركة، وعند تكون التيار العام، أي الحركة العامة، وبعد الحركة حين الوصول إلى الحكم في الأرض على ألف مليون مسلم، وبدون هذا الأصل لا يلتف الناس حول الإنسان، وإذا صادق الإنسان مجموعة لغرض العمل معهم، ثم انفصلت تلك المجموعة، يجب على الإنسان استقطابها إلى أبعد حد وأقصى قدر، وحتى إذا لم يتمكن من استقطابها يجب أن يبقوا متصادقين لا متحاربين، فإن الانشقاقات في الحركات والتجمعات مصيرها النهائي هو الفشل *وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ*(165).

وهكذا نرى في قصص الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وقصص العلماء أمثلة جميلة من الوفاء العجيب مع الصديق والعدو ومع الفئات الاجتماعية المختلفة.

وقد جاء في أحوال إسماعيل صادق الوعد وهو غير إسماعيل بن إبراهيم (عليهما الصلاة والسلام) حيث يقول الله تعالى فيه: *وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ*(166): إن تسميته عليه السلام بصادق الوعد لأجل أنه حدّد مع رجل موعداً وكان خارج المدينة، فقال ذلك الرجل: (إن لي موعداً في المدينة) فسأذهب إليها وابق أنت هنا حتى أرجع إليك.

فذهب الرجل إلى المدينة ونسي موعده مع إسماعيل نسياناً مطلقاً، واشتغل بأعماله من الصباح إلى الليل، وهكذا في اليوم الثاني والثالث والرابع، وفي الأسبوع الأول والثاني والثالث... وهكذا.. إلى ثلاث سنوات وإسماعيل عليه السلام وفاءً بوعده لم يبتعد عن مكانه، وإنما كان يشتغل بالتبليغ وأعمال أخرى في القرى التي كانت مجاورة لذلك المكان، فكان كلما ذهب إلى مكان عاد إلى موعده ويسأل من كان هناك حول صاحبه الذي ضرب معه موعداً. فبقي إسماعيل هناك ثلاث سنوات ينتظر الرجل، وذات مرة وعن طريق الصدفة مر ذلك الرجل من ذلك المكان ورأى إسماعيل هناك وتذكر الوعد، وقال: يا إسماعيل كيف

بقيت في هذا المكان؟

قال: إنما بقيت وفاءً بوعدي، يعني أنك وعدتني أن ترجع ولم تحدد الوقت، فبقيت أنتظر رجوعك، فكنت أشتغل بمهنتي وهي تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى في هذه الأطراف فإن مهمة التبليغ لا تخص بلداً معيناً وإنما يجب التبليغ في كل مكان .

إن بقاء إسماعيل في مكان الوعد وانتظاره لصديقه ثلاث سنوات إنما كان لسبب مهم، هو: أن أنبياء الله والأئمة عليهم السلام إنما هم أسوة للأمة، ولذلك خلّد الله موقف إسماعيل بآية كريمة في القرآن لكي يتعلم الناس منه الوفاء ويقتدوا به، وقال: *وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً*(167).

فيجب على كل حركة إسلامية تجاهد في سبيل إنقاذ جماهير الأمة الإسلامية من الاستعمار والتخلف والجهل أن تراعي هذا الأصل الأخلاقي الهام (الوفاء) مراعاةً دقيقةً جداً. أما إذا تنازع هذا وذاك لاختلاف بينهما في الفكر أو في السياسة أو في طريقة العمل، وتناسوا ما بينهما من علاقات متينة، فهذا هو الذي يسبب تقلص الحركة وانفضاض الناس من حولها، وعدم الثقة بها، بالإضافة إلى انفصالهم عنها وعملهم ضدها.

ويذكر في أحوال آية الله العظمى الإمام السيد أبو الحسن الأصفهاني (رحمة الله عليه) أنه كان من صفاته الحميدة الوفاء. نعم الوفاء بكل دقة، حتى أنه سافر مرة إلى الكاظمية إبان قيادته العامة ليزور الإمامين الكاظمين *، ثم سأل بعض أصدقائه قائلاً: كان هناك كاسب بسيط في باب الصحن قبل ثلاثين سنة وكنت أشتري منه بعض الأشياء حين كنت طالباً في الحوزة، فهل هو موجود؟ فبادرت جماعة والتقت بذلك البائع البسيط، وقد شاخ وكبر وصار طاعناً في السن، فقالوا له: إن السيد أبا الحسن الأصفهاني يريدك، فجاء الرجل

مسرعاً، فقال السيد للرجل: هل تذكرني؟

أجاب: لا يا سيدنا.

قال: قبل ثلاثين سنة حين كنت طالباً في الحوزة كنت أتردد على محلك وأشتري منك بعض الأشياء.

أجاب الرجل: لا أتذكر.

قال السيد: أما أنا فأتذكر.. وأيضاً أتذكر أنك كنت تقول لي: بأنك لا تملك داراً، وكنت في ضيق من الإيجار، وعائلتك كبيرة فهل الحال كذلك الآن؟

قال الرجل: لا يا سيدنا إن عدة من بناتي قد تزوجن وقد خفّت مسؤوليتي، أما داري فلا زالت مستأجرة.

قال له السيد: اذهب واشتر داراً، وأنا ساُساعدك.

وبالفعل ذهب الرجل واشترى داراً وساعده السيد من بيت المال، وهذه صارت قصة نموذجية تذكر في أحوال السيد المرحوم، فكان من صفاته الوفاء حتى بعد ثلاثين سنة، وحتى مع الكاسب البسيط الذي كان يشتري منه بعض الأشياء في وقت ما.

الحركة الإسلامية العالمية، إذا أرادت بحق وإخلاص جمع مختلف التيارات العاملة على الساحة الإسلامية لإنقاذ الأمة من براثن الكفار والمستعمرين، الشرقيين والغربيين، ووليدتهم الصهيونية وعملائهم في المنطقة، يجب عليها أن تراعي الوفاء بكل دقة وأمانة، ولذا نرى نحن ذم بني العباس وبني أمية في التاريخ، لأنهم كانوا ينقضون العهد ولايضعون للوعود قيمة، ونرى ذلك في قصص مشهورة بين معاوية والإمام الحسن عليه السلام، وبين يزيد وغيره، وبين خلفاء بني العباس وأبي مسلم الخراساني، والإمام الرضا عليه السلام والفضل بن سهل، وغيرهم مما هو كثير.

فهذه عبر يجب علينا أن نعتبر بها، وأن نكون في الحركة أوفياء مع كل من يستحق الوفاء والله الموفق المستعان.

الأساس الرابع: السلام

1 الحركة يجب أن تكون سلمية

شعار الإسلام هو السلام، ولذا إذا التقى المسلم بآخر قال له: (السلام عليكم) ويجيب (عليكم السلام) وكما يبتدئ بالسلام على أخيه، كذلك حين يختم زيارته.. ويسمى بسلام الوداع، فإذا أراد الزائر أن ينصرف يقول: (السلام عليكم)

أيضاً أو (عليكم السلام)، فالإسلام دين السلام، ولذا يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: *ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً*(168).

وليست الحرب والمقاطعة وأساليب العنف إلا وسائل اضطرارية شاذة، على خلاف الأصول الأولية الإسلامية، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه، وإنما الأصل هو السلام، ولذا تقدر الحرب بقدرها في الإسلام، ومع ذلك يقول تعالى: *فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ*(169). ثم في مكان آخر يقول: *وَأَن تَعْفُوَاْ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ*(170).

وكذلك كانت السيرة النبوية وسيرة فاطمة البتول والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فكان السلام شعاراً لهم في كل شؤونهم، وحتى في حروبهم، وهذا النجاح المنقطع النظير لنبي الإسلام صلي الله عليه و اله والأئمة عليهم السلام إنما هو لأسباب من جملتها السلام الذي يتحلون به في كل شؤونهم. ولذا نجد العباسيين والأمويين والعثمانيين ذهبوا حيث لا يذكرهم أحد مطلقاً إلا بسوء، بينما قادة الإسلام الحقيقيون يذكرون بكل خير، ويعرفهم الناس بالسلام والعفو أو الصفح، يقول الشاعر عن لسانهم:

ولما ملكتم سال بالدم أبطح

ملكنا فكان العفو منا سجية

وكل إناء بالذي فيه ينضح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

انطواء الإسلام على السلام هو الذي سبب تقدمه أولاً، وكان السبب في تقدمه في المرة الثانية بعد غزو الصليبيين لبلاد الإسلام من الغرب، والمغول من الشرق، وبالسلام نرجو أن نقدم الإسلام في هذا القرن المليء بغزو الشرق والغرب لبلاد الإسلام.

الرسول صلي الله عليه و اله إنما تقدم كما سبق بالسلام الذي اتخذه شعاراً، وعليكم مثلاً بمكة حينما كانت عاصمة الكفر وعاصمة الأصنام وعاصمة محاربة رسول الله، فإنهم واجهوا رسول الله صلي الله عليه و اله بكل وسيلة من التشريد والقتل، فقتلوا ابنته زينب، وصادروا أمواله، وقتلوا العديد من رجاله،

ثم حاولوا اغتياله فهاجر صلي الله عليه و اله سراً إلى المدينة، واستمرت مؤامرتهم ضد حركته المقدسة.

ومع ذلك وبعد أكثر من عشرين سنة، لما أراد الرسول صلي الله عليه و اله فتح مكة مهد لذلك بمقدمات ثم تقدم وفتحها بسلامٍ دون أن تراق قطرة دم، وكان من جملة المقدمات أن رسول الله صلي الله عليه و اله لما استولى على خيبر غنم مقداراً كبيراً من الأواني الذهبية، قدرت بعشرين ألف آنية ذهبية من مختلف الأحجام، فبعث الرسول صلي الله عليه و اله جملة من هذه الأواني لتقسم على فقراء مكة ورجالاتها وهم كفار ومشركون ومحاربون لرسول الله صلي الله عليه و اله.

ولما جيء بتلك الأواني الذهبية إلى أهل مكة تحيروا وتعجبوا وأسقط في أيديهم عجباً، وقالوا: إنا نقاتل هذا الرجل، وبالأمس صادرنا أمواله، وقتلنا أصحابه وأقرباءه، ومع ذلك يعاملنا بهذا اللطف.

كان هذا تمهيداً من رسول الله صلي الله عليه و اله لنشر الإسلام في مكة وتحطيم الأصنام والإصلاح بين الناس، ولما فتح الرسول صلي الله عليه و اله مكة، جاء أبو سفيان وهو أول عدو لرسول الله، فعفا عنه الرسول، نعم عفا عنه، وليس هذا فحسب، بل وجعل داره مأمناً، وقال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)(171).

ثم بعث إلى زوجة أبي سفيان (هند) تلك المرأة المشهورة بأعمالها اللاأخلاقية، المحاربة لرسول الله صلي الله عليه و اله ليلاً ونهاراً، التي بقرت بطن سيد الشهداء حمزة وقطعت أذنيه وجدعت أنفه ومثلت به أشنع تمثيل، وأخرجت كبده ولاكته في فمها..

هذه المرأة التي كانت (مجرمة حرب)، بعث إليها رسول الله صلي الله عليه و اله من يحمل إليها وثيقة عفوه عنها، وسجل الرسول صلي الله عليه و اله

بهذا الموقف أروع مثل عظيم في الخلق الكريم، والصفح الجميل حتى مع ألد أعدائه.

وقبل رسول الله صلي الله عليه و اله إسلام هند، والعجيب أنه اشترط عليها عدم البغاء(172)، مما يدل على أنها كانت بغية مشهورة قبل الإسلام، وهذه الآية المباركة التي تلاها الرسول صلي الله عليه و اله على هند تشير لهذا الموضوع، يقول الله تعالى: *إِذَا جَآءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىَ أَن لاّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ... *(173).

وكذلك عفا الرسول صلي الله عليه و اله عن أهل مكة، وقال لهم كلمته التاريخية: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(174)، والرسول صلي الله عليه و اله لم يسترجع دوره ودور أصحابه التي صادرها المشركون، وكذلك لما أخذ صلي الله عليه و اله مفتاح الكعبة من سدنتها نزلت الآية الكريمة: *إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا*(175) كما في بعض التفاسير، فبعد أن حطم الرسول صلي الله عليه و اله الأصنام أرجع المفتاح إلى صاحبه(176).

كما مهد الرسول صلي الله عليه و اله الجو لجلب خالد إلى فلك المسلمين، حيث قال لأخيه (وليد ابن الوليد): إني أتعجب من أخيك خالد، إنه رجل ذكي، كيف لم يدخل في الإسلام؟ وكيف لم يتشهد الشهادتين؟ ولما جاء وليد إلى أخيه خالد ونقل له كلمة رسول الله صلي الله عليه و اله حوله تعجب خالد، حيث إنه كان قد حارب الرسول حرباً شعواء، والرسول مع ذلك يستميله بهذا اللطف، فصار ذلك سبباً لإسلام خالد، وانخراطه في جيش المسلمين كما هو معروف في التاريخ.

بهذا الأسلوب السليم استولى رسول الله صلي الله عليه و اله على قلوب أهل مكة قبل أن يستولي على أجسامهم، ولما استولى على أجسامهم انقادوا له وأطاعوه وقالوا فيه:

(أخ كريم وابن أخ كريم).

وذكر المؤرخون أن مكة هذه عاصمة الكفر والشرك والنفاق وسفك الدماء والأنانيات والكبرياء، لما استسلمت لرسول الله صلي الله عليه و اله لم يظهر أكثرهم الإسلام وبقوا على الشرك، والرسول صلي الله عليه و اله لم يجبرهم على الإسلام أبداً، وإنما تركهم وشأنهم حتى يعايشوا الحكم الإسلامي فيسلموا في المستقبل.

وقد جعل الرسول (عتاباً) حاكماً على مكة وهو شاب من المسلمين عميق الإيمان وكان يناهز عمره العشرين سنة، وقرر له ما يقارب المثقالين من الفضة معاشاً يومياً له.

وقد ذكر المؤرخون أن مكة لم تحارب بعد ذلك، وإنما رضخت لحكم عتاب بدون جيش، بدون شرطة، بدون سلاح، بدون قوة، لأن الرسول صلي الله عليه و اله أخذ ألبابهم واستولى على قلوبهم، والقلب إذا صار موالياً لإنسان فإنه لا يتمكن أن يثور عليه أو يناهضه.

وبهذه الكيفية، فقد شعر أهل مكة بصحة الدين الإسلامي، لا سيما وأنهم سيبقون على سيادتهم ورئاستهم وعزتهم وتظل بيدهم أموالهم وتحفظ حرماتهم.

سعد بن عبادة أخذ اللواء في لحظات الفتح الأولى، وأخذ يجول في مكة ويهتف:

(اليوم يوم الملحمة) يعني القتل (اليوم تسبى الحرمة) يعني سنسبي نساءكم، وحينما سمع الرسول صلي الله عليه و اله بذلك قال لعلي ابن أبي طالب عليه السلام: يا علي خذ اللواء من سعد، واهتف بعكسه. فأخذ علي عليه السلام اللواء من يد سعد وأخذ يهتف في شوارع مكة وأزقتها: (اليوم يوم المرحمة، اليوم تحفظ الحرمة)(177). يعني: إننا جئناكم للرحمة، لنوحد صفوفكم، ولنجعل الأخوة بينكم، واليوم جئنا لتبقى حريمكم في عزها وصيانتها.

هذه الأعمال من رسول الله صلي الله عليه و اله كانت سبباً أساسياً لخضوع مكة المكرمة للرسول صلي الله عليه و اله خضوعاً منقطع النظير.

إذن،

الحرب والتهمة والسب والهمز واللمز والعداء والبغضاء والأنانية والكبرياء والغرور وما أشبه، تسبب سقوط الدول وسقوط الأفراد، وبالعكس فالإنسان عبد الإحسان، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (عجبت ممن يشتري العبيد بماله، كيف لا يشتري الأحرار بأخلاقه)(178).

وعلى كل حال، فمن الضروري على الحركة الإسلامية أن تتخذ من السلم شعاراً وبرنامجاً وأسلوباً لجذب أوسع الجماهير، وبذلك سيتحقق النصر إن شاء الله تعالى.

2 السلام أحمد عاقبة

يجب أن يتصف القائمون بالحركة بالسلام تفكيراً وقولاً وعملاً، مع الأعداء والأصدقاء. فإن السلام أحمد عاقبة وأسرع للوصول إلى الهدف، السلم والسلام والمسالمة أصول توجب تقدم المسالم، بينما غير المسالم والعنيف يظل متأخراً دائماً.

النبي الأعظم صلي الله عليه و اله قال لعلي عليه السلام: (يا علي مكارم خصال الدنيا والآخرة: لين الكلام، والسخاء، وأن تعفو عمن ظلمك)(179).

لا يراد العفو عن الظالم المعتدي الذي لا يرعوي، وإنما المراد العفو عند المقدرة.

وقد نظم الشاعر هذا الكلام الذي ورد عن رسول الإسلام صلي الله عليه و اله فقال:

مكارم الأخلاق في ثلاثة منحصرة لين الكلام والسخا والعفو عند المقدرة

يعني: أن الإنسان إذا قدر يغفر ويعفو، ويكون لين الكلام، أي لا يكون عنيفاً، وإلا فسيكون بعيداً عن الناس. ولذا ورد في حديث آخر بمدح المؤمن فيقول في المؤمنين: (الموطؤون أكنافاً) أي أنهم ليسوا من الصعوبة حتى يخاف الناس من أن يحوموا حولهم ويكونوا في أطرافهم، فإن الإنسان العنيف الصعب يتحاشاه الناس.

والحركة التي تريد جمع الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، مثل هذه الحركة جدير بها أن تلتزم باللين، فالناس إنما يلتفون حول من كان هيناً، ليناً، هشاً، بشاً، كما ورد في حديث في صفات المؤمن: (المؤمن هين، لين، هش، بش، بشره في وجهه، وحزنه في قلبه)(180) وهكذا يكون الإنسان الذي

يريد استقطاب الناس.

أما إذا كان شعار الحركة العنف، فإن الحركة تفقد الشرعية عند الناس، ويأخذ الإنسان بالتفكير: أنه كما أن هذه الحركة عنيفة ضد أعدائها لابد وأن تكون عنيفة ضده أيضاً يوماً ما. والشاعر يقول:

فاصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله

كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

هذه حقيقة: العنيف عنيف مع الأصدقاء ومع الغرباء، ومع البعداء والأعداء، واللين لين مع الأصدقاء ومع البعداء، ولذا ورد في أحاديث كثيرة التوصية باللين والرقة والشفقة والحب. وقد ورد عن عيسى عليه السلام في كلمة جميلة تنسب إليه: (قيل لكم أحبوا أصدقاءكم ولكن ليس ذلك بمهم فإن العشارين أيضاً يحبون أصدقاءهم، وإنما أقول لكم أحبوا أعداءكم).

فإن الظاهر من كلام عيسى عليه السلام أن السبب لا يرجع إلى نفع العدو بمثل ما يرجع بنفع الإنسان نفسه، فإن الإنسان الذي يحب عدوه يقوم بوصله ومواصلته، وذلك ما يسبب رجوع العدو عن عداوته.

وقد جاء في حديث عن رسول الله صلي الله عليه و اله: *تهادوا تحابوا*(181) يعني ليعطي بعضكم لبعض الهدية، فإنها تسبب محبة بعضكم لبعض.. إلى غيرها من الروايات والأحاديث الواردة عن الأنبياء المعصومين والأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام).

الحركة يجب أن تتصف بالسلام وأن تجعل شعارها السلام حتى يثق الناس بها، فإن أية حركة عملت عملاً عنيفاً أو عملين عنيفين، ثم حدثت أعمال عنيفة في المجتمع نسب الناس هذه الأعمال إلى الحركة أيضاً، مثل ذلك مثل الإنسان يسرق سرقة واحدة، فإذا حدثت سرقات أخرى نسبها الناس إلى هذا السارق، وفي المثل: (الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب) وإذا ظن الناس بالحركة سوءً أو عنفاً وما أشبه تفرق الناس من حولها ولم تتمكن الحركة من الوصول إلى هدفها.

فالحركة يجب أن تكون

إلى جانب الشرائط السابقة من التوعية والتنظيم ومراعاة الأصول العامة قائمة على هذا الأساس الرابع وهو: السلام، السلم، المسالمة، اللين، العطف، واللطف. وإن حديث رسول الله صلي الله عليه و اله وقصصه وتاريخه وحروبه وغزواته وسراياه كلها تبين لين النبي صلي الله عليه و اله وسلمه والنتائج الطيبة التي نالها من وراء ذلك.

مثلاً: إنا نرى أن رسول الله صلي الله عليه و اله بعد أن فتح مكة لطف بأهل مكة تلك الألطاف العالية الرفيعة الرقيقة، وبذلك تمكن من أمرين:

الأمر الأول: أن يستقرض من صفوان بن أمية وهو من كبار المشركين أربعمائة درع، وكان صفوان في الجاهلية بمنزلة وزير الدفاع أو وزير الحرب للمشركين، وكانت عنده دروع كثيرة يزود بها المقاتلين في الحروب التي تقع بين القبائل والعشائر وما إليها، فلما طلب رسول الله صلي الله عليه و اله من صفوان أن يعيره تلك الدروع لم يتردد صفوان في إعطاء الدروع للنبي صلي الله عليه و اله، لأنه عاش لطف النبي صلي الله عليه و اله واستذوق السلام في ظله في قصة فتح مكة.

الأمر الثاني: تمكن النبي صلي الله عليه و اله أن يجند منهم وبرغبتهم واختيارهم ألفي إنسان كانوا مع رسول الله صلي الله عليه و اله في غزوة حنين والتي وقعت بعد فتح مكة مباشرة حيث إن ثلاثين ألف مقاتل من هوازن وغيرها اجتمعوا في وادي حنين، قرب مكة لكي يهاجموا الرسول صلي الله عليه و اله ويقتلوه وأصحابه، وكان مع الرسول صلي الله عليه و اله من المدينة المنورة عشرة آلاف من المجاهدين، واستكمل الرسول صلي الله عليه و اله عدته بألفي إنسان من مكة المكرمة فبلغ عدد

جيش الرسول صلي الله عليه و اله اثني عشر ألف مقاتل ومحارب وفارس ومتدرع، بهذا السبب تمكن الرسول صلي الله عليه و اله من محاربة أهل حنين تلك الحرب المريرة والتي ذكرها القرآن الحكيم.

وتمكن الرسول صلي الله عليه و اله بأصحابه الذين جاء بهم من المدينة وبالذين التحقوا به من مكة من تبديد جيش العدو ونصر الإسلام، وبذلك انتهت المقاومة الكافرة في كل الجزيرة العربية وكان ذلك بفضل أخلاق رسول الله صلي الله عليه و اله وسلمه وعطفه ولطفه وعطاياه وصدقه وأمانته.

وبعد أن انتهت الحرب، حرب حنين، ردّ الدروع على صفوان، وقد غنم المسلمون في تلك الحرب غنائم كثيرة، وقد ذكر في التاريخ أن صفوان كان ينظر إلى الإبل التي غنمها رسول الله صلي الله عليه و اله فرآه الرسول صلي الله عليه و اله وقال له: هل ترغب في هذه الإبل؟

قال: نعم يا رسول الله.

فقال الرسول صلي الله عليه و اله: أعطوا صفوان عشرة من الإبل، فأعطوه. ثم قال: وعشرة.. وكرر ذلك العطاء، حتى صارت مائة من الإبل أعطاها رسول الله صلي الله عليه و اله لصفوان(182).

وفي الحقيقة لم يكن هذا العطاء إلا عطاءً لأهل مكة، لأن صفوان كان ذا عشيرة وأقرباء وفي ذلك اليوم كان حصول الرئيس على شيء معناه أن أتباعه وعشيرته حصلوا على ذلك الشيء.

وهكذا استقطب رسول الله صلي الله عليه و اله المشركين في مكة فأخذوا يسلمون ويقبلون الشهادتين بدون عنف وبدون محاربة وبدون سفك دم، حباً في الإسلام، لأنهم رأوا في الإسلام الملجأ والملاذ، والرئاسة والصداقة، والمال والأخوة، والتقليل من المشاكل، وهكذا يجب على الحركة أن تتعلم من رسول الله صلي الله عليه و اله العمل والسلام. نسأل الله

سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك، إنه سميع مجيب.

3 السلام دائماً

إنّ المعاملة السلمية تجاه الصديق والعدو هي من الأسس الحيوية التي يلزم أن يقوم عليها النضال للحركة الإسلامية العالمية، والسلم في أول أمره مر وصعب، ويحتاج إلى ضبط الأعصاب وإلى عفو وإغماض، وإلى مقدرة نفسية توجب أن يعمل الإنسان بحزم وبالتي هي أحسن. كما قال سبحانه: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ*(183).

يجب أن ينظر الإنسان إلى الهدف، وأن يعلم أن الانتقام يسبب تأخر الوصول إلى الهدف، ولذا نرى أن الأنبياء والأئمة عليهم السلام والمصلحين كانوا يجنحون للسلام لا قبل قدرتهم فقط، بل حتى بعد قدرتهم. وفي الحديث المشهور: أن رسول الله صلي الله عليه و اله غضب على (وحشي) قاتل عمه حمزة غضباً شديداً، فقد كان هذا الرجل قاتل حمزة، وكان حمزة ركناً قوياً من أركان الإسلام، كما كان علي وجعفر عليهم السلام.

هؤلاء كانوا أركان رسول الله صلي الله عليه و اله والمساعدين له في حروبه وغزواته وغيرها، وكانوا موضع فخر واعتزاز للمسلمين، ولذا قالت هند زوجة أبي سفيان لوحشي: (إنك إن قتلت محمداً، أو علياً، أو حمزة أعطيتك كذا وكذا، وأعتقت رقبتك).

فأجاب وحشي: (أما محمد فلا أقدر عليه، لأن أصحابه يحتفون به، وأما علي فلا أتمكن منه، لأنه إذا دخل الميدان يلتفت إلى نفسه، ولا تغيب عنه الجهات: لا أمامه ولايمينه ولا يساره ولا خلفه، نعم إني أتمكن من قتل حمزة، حيث إن حمزة إذا دخل الميدان ذهل عن نفسه ودخل غمار الحرب، فأنتهز منه فرصة وأحمل عليه بقذف الجراب)(184). وهكذا قتل حمزة تلك القتلة البشعة، ثم مثلت

هند بحمزة تلك المثلة الفضيعة.

وقد غضب رسول الله صلي الله عليه و اله على وحشي غضباً بالغاً، فجاء أحد الصحابة إلى رسول الله بعد مدة وقال: يا رسول الله هل تعفو عن وحشي إنه يريد الإسلام؟

فقال رسول الله: قد عفوت عنه.

وبالفعل عفا رسول الله صلي الله عليه و اله عن وحشي فأسلم، وكان بعد ذلك يقول: إني يجب علي أن أنصر الإسلام، كما كنت أنصر الكفر على الإسلام.

واشترك وحشي في عدة حروب وكان له دور فيها، وفي قصة اليمامة اشترك وحشي، وهكذا خدم الإسلام بعد إسلامه بمثل ما كان يخدم الكفر قبل إسلامه. فنشاهد هنا أن العاقبة المحمودة كانت في عفو رسول الله صلي الله عليه و اله وإغماضه وقبول إسلام وحشي.

ومن قبيل ذلك، عفو رسول الله صلي الله عليه و اله عن (هبار) وهذا الرجل من أجلاف أهل مكة ومثيري الفتن والمشاكل للمسلمين، وقد تسبب في قتل بنت رسول الله: زينب (عليها الصلاة والسلام)، وكانت امرأة عفيفة زاهدة تشبه رسول الله صلي الله عليه و اله في خلقها وخلقها، وتشبه أمها خديجة الكبرى (عليها الصلاة والسلام) وكانت حاملاً، فسبب هبار سقوطها من المحمل، فأسقطت جنينها بسبب ذلك، ثم لم تزل مريضة حتى ماتت لهذا السبب.

واغتم رسول الله صلي الله عليه و اله لذلك وأهدر دم هبار، ولما فتح الرسول صلي الله عليه و اله مكة فر هبار من مكة المكرمة إلى بعض الجبال، لأن النبي صلي الله عليه و اله كان قد قال من قبل: (اقتلوا هباراً) باعتبار كونه رجلاً فظاً غليظاً مثيراً للفتن كما سبق.

ثم جاء رجل إلى رسول الله صلي الله عليه و اله وقال: يا رسول الله إنك عفوت عن الجميع

فاعف عن هبار أيضاً فإنك عفو كريم.

فقال النبي صلي الله عليه و اله: قد عفوت عنه(185).

والتاريخ يذكر كيف كان حلم رسول الله صلي الله عليه و اله وصبره وعقله وحزمه، وهذه المكرمات يجب أن تسجل كمعاجز نفسية، وكم يجب أن تكون عظمة الإنسان حتى يصل إلى هذا الحد، ويعفو عن قاتل عمه حمزة، ويعفو عن قاتل ابنته وحفيده: زينب وجنينها.

ولذا نرى أن الإسلام أخذ بالانتشار، لأن أخلاقيات الإسلام بهرت الناس... وحبذا أن يؤمن الإنسان بهذا الإسلام الذي يتمكن أن ينضوي تحت لوائه وينعم بكل خير وسلام.

الحركة الإسلامية العالمية يجب أن تصطبغ بصبغة العفو والسلم والسلام والمسالمة، لا مع الأصدقاء والأقرباء فحسب، بل مع الغرباء والبعداء والأعداء أيضاً، وهذا ما نشاهده في قصص المصلحين العظام.

وقد سيطر أحد أمراء المسلمين على منطقة بعد أن وقعت فيها حرب أهلية وقبض على جماعة من الضباط الذين كانوا يعدون من مجرمي الحرب، وحكمت المحكمة عليهم بالقتل، ولما كان من الضروري توقيع الرئيس الأعلى للدولة قدمت الورقة إليه لكي يوقع بالإعدام على هؤلاء، ولما أخذ الرئيس الأعلى الصبور، الوفي، الحليم، العاقل الورقة قذف بها إلى الأرض وقال: إن وجود هؤلاء الشباب الضباط فوق الأرض أحياءً خير من وجودهم تحت الأرض أمواتاً، قد عفوت عنهم، فأطلقوا سراحهم.

فتعجب الذين قدموا الورقة إليه، لكنهم كانوا مضطرين لتطبيق أوامره وهكذا ذهبوا وأطلقوا سراح هؤلاء الضباط، وبالفعل صار أولئك الضباط من أخلص الذين خدموا الإسلام، وخدموا وطنهم في حرب أخرى بعد ذلك تكفيراً لسيئاتهم السابقة.

فقال الرئيس: أرأيتم كيف كان الحلم والصبر والعفو والسلام؟ لو كنا أمرنا بقتل هؤلاء، فمن كان يقود هذا الجيش؟ ومن كان يهزم أعداءنا حين اصطدموا بنا؟

فالواجب أن يكون شعار

الحركة السلام: السلام قولاً، السلام فعلاً، السلام كتابة، والسلام في كل موقع ومع كل الناس…

4 السلام سنة الأنبياء والأئمة عليهم السلام

لما كان مبدأ (السلام) استراتيجياً وحساساً كان لابد لنا من أن نتحدث حوله بشكل أكثر تفصيلاً، وفي هذه الحلقة من الحديث نواصل البحث عن السلام الذي هو من أهم أسس النضال لإقامة حكومة الألف مليون مسلم في الأرض.

فمن الضروري مراعاة السلم بالنسبة إلى القائمين بالحركة الإسلامية العالمية، لأن السلام يوجب أولاً التفاف الناس، وثانياً يوجب كبح جماح الأعداء، ولذا قال أمير المؤمنين لأصحابه: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين)(186).

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: *وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ*(187).

فالسباب والاعتداء يوجب تقزز الأصدقاء وقوة الأعداء، ولا داعي إلى ذلك، فإن السب لا ينتهي إلى شيء، وإنما الذي يجب أن يراعيه الإنسان أمام عدوه هو أن يدفع بالتي هي أحسن، كما في القرآن الحكيم: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ*(188).

فالقائمون بالحركة يجب أن يتحلوا بالسلام في فكرهم وفي قولهم وفي كتابتهم وفي مواجهاتهم، وحتى إذا نظموا مظاهرات أو إضرابات أو ما أشبه، يجب أن تكون الإضرابات والمظاهرات متصفة باللين، فالمهم أن يصلوا إلى الهدف، وليس المهم إفراغ الحقد والبغضاء وما أشبه.

فإن الحقد لا يولد إلا الحقد، والبغضاء لا تولد إلا البغضاء، وفي المثل المشهور: (لا يجتني الجاني من الشوك العنب)، فإن كل شيء يثمر مثله. الأخلاق الحسنة من الإنسان تثمر حسن الأخلاق في الجانب الآخر. أما الأخلاق السيئة فإنها تولد رد فعل سيئ، وهكذا بالنسبة إلى السلام، وما يقابل السلام، فكل واحد منهما يولد مثله.

وهذا الأمر يحتاج

إلى ضبط الأعصاب وإلى سعة الصدر، وكما قال علي عليه السلام: *آلة الرئاسة سعة الصدر*(189) يعني أن يسع صدرك، لا في بعد واحد فقط، وإنما لكل الأبعاد: أخلاقياً، اجتماعياً، فكراً، نضالاً... فآلة الرئاسة سعة الصدر، وكلما كانت سعة الصدر شاملة لكل الأبعاد أكثر كانت أقدر على استقطاب الناس وعلى الوصول بهم إلى الهدف المنشود.

ولذا نشاهد في أنبياء الله تعالى والأئمة الطاهرين عليهم السلام والمصلحين العظام هذه الظاهرة: ظاهرة حسن الخلق، العفو، السلام، سعة الصدر، الحلم، التواضع، الصبر، عدم رد الاعتداء بالمثل، وإنما رد الاعتداء بالتي هي أحسن.

وهكذا نشاهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في حرب البصرة، وهي أول حرب أقيمت ضده، فلما انتهت الحرب عزّز جانب السلام: فأرسل إلى عائشة من قال لها أن ترجع إلى بيتها بالمدينة بسلام.

وبالفعل فقد ألبس الإمام أربعين من النساء لباس الرجال، وجعلهن مع عائشة لإرجاعها إلى المدينة، وأكرمها واحترمها، وإنما ألبسهن لباس الرجال حتى يظن الظان من القوافل وغيرهم أنهم رجال، فلا يعتدوا عليهن، ومن جانب آخر حيث إن عائشة زوجة الرسول صلي الله عليه و اله فقد كره الإمام أن يرسلها مع الرجال، وإنما أرسلها مع النساء. وبالفعل ذهبت عائشة من البصرة إلى المدينة المنورة بصحبتهن(190). فأية أخلاق سامية هذه؟

وكذلك نشاهد أنه عليه السلام عفا عن الذين أثاروا الحرب، وفيهم الذين يصطلح عليهم في العصر الحديث بمجرمي الحرب، أمثال مروان وابن الزبير ومن أشبه فعفا عنهم، وكذلك عفا عن الجيش المناوئ فقال عليه السلام: (مننت على أهل البصرة كما منّ رسول الله صلي الله عليه و اله على أهل مكة)(191). فأطلق سراحهم ولم ينتقم منهم ولم يقابل سيئهم بالسوء، بل قابله بالصفح والإحسان، وأمر كل من كان قد

نهب من أموال الجيش المهزوم برد ما نهبه. فرد إليهم كل ما أخذ منهم حتى أن أحدهم كان قد أخذ قدراً من جيش الأعداء المنهزمين، وجعل فيه طعامه، وجعله على النار، فلما أمر الإمام عليه السلام برد الغنائم وعرف صاحب القدر ذلك أفرغ قدره من الطعام وأعطاه لصاحبه.

ومرة ذهب الإمام عليه السلام في جولة تفتيشية إلى بيت واسع كبير قيل للإمام عليه السلام إن النساء قد اجتمعن فيه يبكين على قتلاهن من الجيش المهزوم وهن يشتمن الإمام وأصحابه، فدخل عليهن الإمام عليه السلام والبيت كبير جداً وممتلئ بنساء الجيش المهزوم، فقال الإمام عليه السلام لأصحابه: لا تتعرضوا لهن وإن شتمن أمراءكم وأعراضكم، وهكذا كف عنهن وقابل سبابهن بإحسان، فصحن لما رأين الإمام عليه السلام: وقلن هذا قاتل الأحبة

يردن الإمام عليه السلام فأشار الإمام وقال: (لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الغرف) وإذا بالنساء يسكتن فجأة وكأن على رؤوسهن الطير، ولم يتكلمن بكلمة! فتعجب الناس من ذلك: ماذا قال الإمام؟ وما الذي دعا هذه النسوة إلى الهدوء؟

وبعد ذلك انكشف الأمر لأصحاب علي عليه السلام، حيث عرفوا أن رؤساء الجيش المنهزم كانوا قد اختفوا هناك في تلك الغرف، وإن النساء قد اجتمعن هناك للتعمية والتجهيل والتضليل، ولما أشار الإمام عليه السلام بقوله: (لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في الغرف) خفن وسكتن(192).

على أي حال، إن سيرة رسول الله صلي الله عليه و اله وسيرة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وسيرة الأئمة الطاهرين عليهم السلام وسيرة الأنبياء العظام عليهم السلام وسيرة المصلحين وسيرة العقلاء هي السلام.

فالواجب أن تراعي الحركة الإسلامية العالمية العامة السلام مراعاة دقيقة في كل شؤونها: قبل الحركة، ومع الحركة، وبعد

الحركة، وحين النصر وإقامة الدولة الإسلامية العامة بإذن الله تعالى.

وهكذا يجب أن يربي القادة كوادر وأفراد الحركة على السلام لساناً، فكراً، تأليفاً، عملاً، مهما كلف ذلك، والله ولي التوفيق.

5 السلام ضمانة بقاء المبدأ

يقول الله تعالى: *يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً*(193) فالسلام هو القاعدة العامة، وإنما يكون العنف ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها.

وقد ذكرنا في حلقات سابقة سِلْم رسول الله صلي الله عليه و اله مع الأعداء، ومع الأصدقاء، ومع الأقرباء، ومع الغرباء، كما ذكرنا سلم علي عليه السلام كذلك. والرسول وعلي * أسوة لنا كسائر الأنبياء والمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فاللازم أن نقتدي بهم في ذلك، سواء كنا في مقدمات الحكم أو وصلنا إلى الحكم بإذن الله تعالى.

وهنا سؤال يقول: إن رسول الله صلي الله عليه و اله وإن كان معصوماً ولا يُسأل عما يفعل، لكن تكليفنا غير تكليفه، لأننا نرى أن رسول الله صلي الله عليه و اله أبقى على جملة من المنافقين مما سبب لرسول الله صلي الله عليه و اله مشاكل كثيرة، فلو كان الرسول صلي الله عليه و اله قتل أبا سفيان ومعاوية يوم الفتح لم تقم الدولة الأموية التي أطاحت بالإسلام جملةً وتفصيلاً، ولم تسبب مشاكل للمسلمين بما لا يعد ولا يحصى. وهكذا لو كان علي عليه السلام قد قتل يوم البصرة مروان لما بقي حتى يصل إليه الحكم، ويسبب هو وبنوه المشاكل للأمة، فلابد أن يكون لنا تكليف آخر، وأما هم عليهم السلام فأعلم بتكاليفهم.

هذا الكلام يردّ أولاً: بأن النبي صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام أسوة، والأسوة يجب أن يتبع، سواء عرفنا المصلحة في عمله أم لم نعرف المصلحة في عمله *وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ أِلاّ

لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ*(194)، *وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ*(195)، *فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً*(196).

هذا من الناحية الاعتقادية الشرعية، أما إذا جئنا إلى الناحية العقلية فنرى أن رسول الله صلي الله عليه و اله لو قتل أبا سفيان أو أضر به، وهكذا غيره من المنافقين والأعداء، لم يقم للإسلام عمود، ولا يخضر له عود، لأن المشركين كانوا يقبرون الإسلام في مهده، لأن أبا سفيان لم يكن وحده، وإنما كان في الجزيرة العربية ألف أبي سفيان، وكل واحد منهم له أقرباء وأصدقاء وعشيرة وقبيلة، وما إلى ذلك.

هؤلاء كانوا سيعملون ضد الإسلام ويقبرون الإسلام في مهده، ولم يكن لنا أن نسمع اليوم حتى باسم رسول الله صلي الله عليه و اله كما لم نسمع باسم كثير من الأنبياء الذين قتلوا *فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ*(197) كما في القرآن الحكيم، مما يدل على أن جملة من الأنبياء عليهم السلام قد قتلوا.

فالرسول صلي الله عليه و اله رأى الأمر دائراً بين الأهم والمهم: فهل الأفضل أن يدع المنافقين فإنهم وإن سببوا بعض المشاكل، لكن الزمان كفيل بتصفية المشاكل كما رأينا ذلك، حيث إن الزمان قد أنهى حكم بني أمية وجعلهم في خبايا التاريخ، هل هذا أفضل؟ أو أن الأفضل أن يشهر الرسول صلي الله عليه و اله سيفه، ويقتل ويقتل، حتى تقوم العشائر ضده فيقتلوه وأصحابه المخلصين ولا يبقى من الإسلام اسم؟

وكذلك الأمر بالنسبة لعلي أمير المؤمنين عليه السلام، فأيهما أفضل: أن يجرد الإمام عليه السلام سيفه ويقتلهم، مما كان يترتب عليه أنهم يحركون عشائرهم وأقرباءهم وأصدقاءهم ضد الإمام،

وتساعدهم الروم على ذلك، وبذلك تجتث جذور علي عليه السلام وباجتثاث جذوره تستأصل جذور الإسلام الحقيقي، ويتحول إلى دين منحرف كالمسيحية واليهودية: *يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ*(198) كما في القرآن الحكيم، أو الأفضل الإبقاء على هؤلاء وإن أساءوا إلى الإسلام.

وهكذا كانت خطة الرسول وخطة علي (عليهما الصلاة والسلام) خطة حكيمة إلى أبعد حد، ولهذا نجد أن أحد أصحاب علي عليه السلام يصف علياً عليه السلام في كلام له يقول: (كان والله بعيد المدى، شديد القوى)(199) يعني أنه عليه السلام ينظر بعيداً، أي إلى عاقبة هذا الأمر أو ذاك وما يترتب عليه إن فعله أو تركه، فنرى علياً عليه السلام الآن وبعد مرور ألف وأربعمائة سنة تقريباً على استشهاده يعتقد به أكثر من ألف مليون إنسان، منهم المسلم ومنهم غير المسلم، بينما هلك الأمويون والعباسيون ورمي بهم في خبايا التاريخ حيث لا يذكرون إلا بذم. وكذلك بقي رسول الله صلي الله عليه و اله واندثر الذين عادوه كأبي جهل وأبي سفيان وأبي لهب.

إن من فوائد السلم خلود المسالم وبقاء ذكره وموازينه وقوانينه وضوابطه ومناهجه، بينما غير المسالم لا يبقى حتى إذا فرض أن الحق معه تماماً. ولذا قال الرسول صلي الله عليه و اله: (كلما نزل جبرئيل أمرني بمداراة الرجال)(200).

وفي التاريخ القريب نشاهد أن ستالين وهتلر وموسيليني ومن أشبه هؤلاء جنحوا إلى العنف، وكذلك ياسين الهاشمي في العراق، والبهلوي في إيران، وأتاتورك في تركيا.. وأضرابهم كثيرون، وكلهم قد ذهبوا.

أما ستالين فقد أخرج من قبره وأحرق، ودمرت بعده المبادئ الستالينية.

وأما هتلر فقسمت بلاده إلى اليوم، قسم بيد الأمريكيين وقسم بيد الروسيين.

أما موسيليني فقد عمت بلاده الفوضى والاضطرابات وانتشرت فيها منظمة الألوية الحمراء، والقتل والاغتيال والسرقة وما أشبه

ذلك مستمر منذ ما يقارب من أربعين سنة إلى هذا اليوم.

والبهلوي الأول اُبعد وقتل في جزيرة موريس. وياسين الهاشمي أُبعد عن العراق وقتل. وأتاتورك قتل...

بالإضافة إلى أن هؤلاء صاروا لعنة التاريخ.. لقد ذهبوا وذهبت مبادؤهم، ولم يحفظهم التاريخ إلا للعبرة، كما حفظ فرعون وشداد ونمرود للعبرة، وكما حفظ معاوية ويزيد والحجاج وابن زياد وهارون للعبرة، ولكي يتبصر من يأتي بعدهم فلا يجنح إلى الديكتاتورية والعنف، بل يجنح إلى العقل والحزم والسلام وإعطاء الحريات والنظر إلى الناس بعين المودة والأخوة حتى لو كانوا كافرين، حيث يقول الإمام علي عليه السلام: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)(201).

وهكذا الله سبحانه وتعالى يعبر في القرآن الحكيم عن المؤمنين والكافرين بأنهم أخوة حيث يقول: *وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً*(202) فهود عليه السلام نبي مرسل، وعاد قبيلة كافرة، ومع ذلك يسميه الله سبحانه وتعالى أخاً.

المهم أن يعي القائمون بالحركة الإسلامية هذه الحقيقة، وأن يبصروا وأن يلاحظوا الأمم *قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ*(203)، *فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ*(204)، فاللازم على الإنسان أن ينظر ويفكر في أحوال الأمم الغابرة وأحوال الأمم المعاصرة.

إن الجانحين إلى السلام بقوا أعلاماً في بلادهم، وفي غير بلادهم بينما الجانحون إلى العنف والخشونة والشدة والغلظة ذهبوا ولم يبق لهم أثر إلا آثار النفرة والابتعاد عنهم.

ومن هنا يقول الله سبحانه وتعالى بالنسبة لنبيه صلي الله عليه و اله: *فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ*(205).

فإذا اعتمدنا السلم قاعدة عملية دائمة نتمكن بإذن الله تعالى من إيجاد تيار عام لحركة إسلامية صحيحة تكون مقدمة لإنقاذ البلاد الإسلامية من المستعمرين والديكتاتوريين ولإقامة حكم الله تعالى لألف مليون مسلم، وما ذلك

على الله بعزيز.

6 السلام بين أعضاء الحركة

تحدثنا عن مبدأ (السلام) على أصعدة مختلفة.. منها السلام في التعامل الاجتماعي، ومنها في التعامل الإنساني مع الأعداء. وهنا سنتحدث عن نفس المبدأ ولكن على صعيد آخر.. وهو: التعامل السلمي مع أعضاء الحركة الإسلامية.. وذلك يعني أن الأعضاء يجب أن يكونوا على وفاق تام لا أن تكون بينهم خلافات أو منازعات أو ما أشبه، لأنه كثيراً ما يقع بين الأعضاء التنافس غير السليم، والتناحر والاختلاف، وازدراء الكبار بالصغار، واشمئزاز الصغار من الكبار. والمشكلة لها سببان:

السبب الأول: إن بعضهم يريد استغلال بعض.

السبب الثاني: هو أن الكبار ينظرون إلى الصغار بازدراء، والصغار ينظرون إلى الكبار على أنهم مستغلون ووصوليون وانتهازيون.

والإسلام حل المشكلتين كلتيهما:

أما المشكلة الأولى: فالواجب أن يكون الأمر شورى، فلكل فرد رأي يؤخذ به، وبهذا لا يكون هناك استغلال ينتهي إلى تفتت الحركة وتبددها، أما أن يقول الإنسان: إني أكثر فهماً فلي حق القرار، أو إني أعمق في الرؤية المستقبلية فلي حق أخذ القرار في الموضوع، فهذا هو الاستغلال بعينه. هذا بالنسبة إلى حل المشكلة الأولى.

أما المشكلة الثانية: فاللازم أن لا يزدري إنسان إنساناً، وأن لا ينظر إنسان إلى آخر بعين الاحتقار: *يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ*(206).

فالإنسان يجب أن لا يظن بأخيه سوءً، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: *ضع أمر أخيك على أحسنه*(207)، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: *فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولاً وقال لم أقله فصدقه وكذبهم*(208). يعني لا ترتب الأثر على كلام أولئك الوشاة إذا لم يكن فيهم ميزان الشهادة الشرعية، وإنما اقبل قوله، وذلك لكي تصفو النفوس بعضها مع بعض، ولا تكون النفوس بعضها ضد

بعض، وبهذا يتمكنون من القيام بالحركة خير قيام.

وقد اُدخل أحد الأئمة الطاهرين عليهم السلام على أحد الخلفاء الحكام في حالة اضطرارية فقال له الحاكم: يا بن رسول الله عظني، فقال الإمام عليه السلام: المسلمون إما أكبر منك سناً فاجعلهم بمنزلة أبيك، وإما أصغر منك فاجعلهم بمنزلة ابنك، وإما مساوون لك في العمر فاجعلهم بمنزلة أخيك، فبر أباك وآس أخاك وارحم ابنك.

هكذا يجب أن ينظر الإنسان إلى الجميع بنظرة رأفة ورحمة، وبنظرة العطف والإشفاق، وبنظرة جمع الكلمة وتوحيدها، وإلا فإنه لا يتمكن من أن يتقدم مهما كان قوياً، وهذه هي الأسس التي بنى عليها رسول الله صلي الله عليه و اله الدولة الإسلامية وبنى الأئمة الطاهرون عليهم السلام على مثل ذلك نفوس المؤمنين.

وفي مضمون حديث: إن الإمام الصادق عليه السلام جاء إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين عليه السلام فقال لبعض أصحابه: اذهب إلى الأطراف وادع من رأيت إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام فذهب الرجل ثم رجع بدون أن يستصحب أحداً.

قال له الإمام: لماذا رجعت وحدك؟.

قال: يا بن رسول الله لأني رأيتهم دون هذا المستوى.

قال له الإمام: إنا نراكم بمثل ما ترى أنت هؤلاء.

أي: إذا كان فرق في المراتب بينك وبينهم، فكذلك يوجد فرق بيني وبينك. فكما أنه لا يحق للأكبر أن يطرد الأوسط، كذلك لا يحق للأوسط أن يطرد الأصغر.

وهكذا القائمون بالحركة يجب أن يكون بينهم وئام وسلام، لا استغلال وازدراء واحتقار.

إن الحركة لا تتمكن أن تهدي الناس إلى صراط مستقيم ما لم تسر هي في الصراط المستقيم، وفي الحكمة قاعدة معروفة تقول: (فاقد الشيء لا يعطيه)، أي إنك إذا لم تملك علماً فلا يمكنك أن تعطي العلم، وإذا لم تملك ديناراً فلا تتمكن أن

تعطي الدينار، وكذلك إذا لم تملك مقومات الحركة من الإنصاف والعدالة وحب الناس والتواضع والنظر إلى الناس بالعطف والشفقة والإنسانية وما أشبه ذلك فلا تتمكن من غرسها في الآخرين، إنه أمر غير ممكن.

ولذا فمن الضروري على القائمين بالحركة أن ينظروا إلى أنفسهم بنظر المساواة والأخوة والعدالة مع الآخرين، حتى يتمكنوا من التقدم بإذن الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن الناس يقولون: لو كانوا على حق، لكانوا قد التزموا أنفسهم بما يدعون إليه!

ولقد فشلت قبل هذا اليوم كثير من الحركات الإسلامية في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي بسبب عدم التزامها بأخلاقيات العمل والسلام. إن هذه الحركات يجب أن تكون عبرة لنا حتى نعمل بما يقوّم الحركة ونحقق بإذن الله سبحانه وتعالى الدولة الإسلامية العالمية ذات ألف مليون مسلم، وما ذلك على الله بعزيز.

7 معطيات السلام

إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء، وحتى إذا عثر بهم الزمان وسقطوا فإن السقوط يكون وقتياً، فالقائمون بالحركة إذا أحاطوا أنفسهم بجو من السلام أمنوا أعداءهم أولاً فلا يتمكنون من القضاء عليهم، وثانياً إذا تمكن الأعداء منهم فسيكون تمكنهم وقتياً وينتهي الأمر بتقدم المسالمين.

ولذا نرى أن الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كانوا يجنحون دائماً إلى السلام. وهذا رسول الله صلي الله عليه و اله كان يسالم أعداءه حتى عندما كان في أعلى درجات قدرته، وحروب رسول الله صلي الله عليه و اله كانت دفاعية كما ثبت في التاريخ، ولم يبتدئ الرسول صلي الله عليه و اله بالحرب أبداً، وكان إذا حارب اتصفت حربه بالسلام في أغلب شؤونها إلا القدر المضطر إليه، ولذا تقدم رسول الله صلي الله عليه و اله ذلك التقدم

الهائل، وإلى اليوم لا زال صلي الله عليه و اله في تقدم مطرد، وما من يوم إلا ويزداد فيه عدد المسلمين بالرغم مما واجهته الدولة الإسلامية من اليوم الأول الذي أقامها رسول الله صلي الله عليه و اله والى هذا اليوم، من الكيد والمكر وما أشبه.

وكذلك علي عليه السلام فإنه قد جنح إلى أكبر قدر من السلام، وهو لم يحارب أهل الجمل وإنما هم الذين حاربوه، وبمجرد أن انتهت الحرب عامل الإمام عليه السلام البقية معاملة الأصدقاء والأخوة وكأن شيئاً لم يكن، وهكذا حرب النهروان، فالخوارج هم الذين حاربوا الإمام، وأشاعوا الدعايات، وواجهوه بالسب، حتى أن الإمام عليه السلام قال كلمة جميلة بالمناسبة وردت في نهج البلاغة، وكان حول الإمام أصحابه وهنالك خارجي يسمع كلام الإمام، فعلق على كلام الإمام بقوله: (قاتله الله من كافر ما أفقهه) يعني: علي كافر لكنه كثير الفقه! فأراد أصحاب الإمام تأديب ذلك الخارجي، فقال الإمام: (دعوه، فإنما هو سبّ بسبّ أو عفو من ذنب وأنا أولى بالعفو)(209)، يعني أنه سبني فجاز أن أسبه أو أعفو عنه لكني أولى بالثاني، وعفا عنه. وقد تمكن الإمام عليه السلام أن يسيطر على حركة الخوارج التي كانت حركة منحرفة بلينه ومرونته.

وقد ورد في التاريخ أن الإمام عليه السلام حين انتهت حرب الخوارج عفا عن بقيتهم فلم يسجنهم ولم يجازهم بأي جزاء آخر، إنما كانوا في الكوفة وغيرها ينتقصون من الإمام والإمام ساكت عنهم، فقد كان يعلم أن المسالم هو الذي يتقدم، وفي قضايا متعددة كانوا يضغطون على الإمام بمختلف أنواع الضغوط، مثلاً يحضرون المسجد ولا يصلون معه الجماعة، وقد قرأ خارجي هذه الآية أمام الإمام عليه السلام معرّضاً به والإمام في

صلاته: *وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ*(210) يريد بذلك أن الإمام مشرك وقد حبط عمله، ولكن الإمام عليه السلام عفا عنه. وهكذا كان الإمام عليه السلام يصبر على النقد حتى النقد الظالم، وكان يصبر على الضغط، حتى إذا كان الضغط من أناس منحرفين، لأنه كان يعرف أن السلام أحمد عاقبة، وأن المسالم هو الذي يبقى، كما نرى ذلك بالفعل، حيث بقي الإمام عليه السلام منذ ألف وأربعمائة سنة، وسيبقى على طول التاريخ علماً هادياً مهما تغيرت الظروف.

وفي حرب صفين وهي أشد الحروب ضد الإمام عليه السلام ورد في التاريخ أنه عليه السلام كان إذا ظفر بجندي من جنود معاوية استحلفه أن لا يساعد معاوية، ثم يتركه وشأنه!

فهل يوجد مثل هذا الشيء في التاريخ، إلا في تاريخ الأئمة والأنبياء عليهم السلام والمصلحين العظام الذين اتبعوا آثارهم؟

ولكل ذلك نرى أن الإمام عليه السلام ظل كالطود الشامخ، رغم أن بني أمية ضغطوا عليه ولعنوه على سبعين ألف منبر ما يقارب مائة سنة، ورغم أن بني العباس وجهوا إليه ضغوطاً ظالمة، من جملتها قصة المتوكل الذي كان يحارب الإمام ويسبه ويقتل أولاده ويسجنهم، وقد حرث المتوكل قبر الحسين عليه السلام وهدم كربلاء مرتين كما في التاريخ، وكان يأتي برجل يسمى (عبادة المخنث) فكان يدخل الوسادة بين ثوبه وبطنه ثم كان يمشي في المجلس ويشبّه نفسه بعلي عليه السلام ويقول: (أنا الأنزع البطين، أنا أمير المؤمنين) ساخراً من الإمام عليه السلام والحاضرون في المجلس يضحكون.

ولكن ماذا كانت العاقبة؟ إن هؤلاء أساءوا إلى أنفسهم ولم يسيئوا إلى الإمام إلا في الظاهر وقد قال الإمام عليه السلام ذات مرة: (ما أحسنت إلى

أحد ولم يسئ إلي أحد)(211)!

قيل يا أمير المؤمنين: قد أحسنت كثيراً، وأساءوا إليك كثيراً.

قال عليه السلام: ألم تسمع قول الله تعالى: *إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا*(212). فإني أحسنت إلى نفسي بإحساني إلى غيري، والناس أساؤوا إلى أنفسهم بإساءتهم إلي. وعلى أي حال فإن هؤلاء الذين ضغطوا على الإمام عليه السلام من بني أمية ومن بني العباس وأضرابهم إنما أساؤوا إلى أنفسهم، فقد قُتل وقطّع المتوكل ووزيره (الفتح ابن خاقان) إرباً إرباً من جراء أمثال هذه الأعمال، وكذلك بالنسبة إلى من سبقه ومن لحقه، والإمام عليه السلام باق كالجبل الراسخ، وكالشمس المضيئة، يستنير بنوره أكثر من ألف مليون إنسان في العالم.

إن كل ذلك كان بسبب طبيعة حركة الإمام عليه السلام وسلمه الذي اتخذه شعاراً في حياته الشخصية وحياته العائلية وحياته الاجتماعية وحياته السياسية و...

وفي الحديث أن ابن ملجم لما ضرب الإمام عليه السلام قال له الإمام عليه السلام: ألم أحسن إليك، ألم أزد في عطائك؟ فهو عليه السلام مع علمه بأن ابن ملجم يقتله لإخبار رسول الله صلي الله عليه و اله إياه بذلك كان قد زاد في عطائه وأحسن إليه.

وبعد أن ضربه ابن ملجم كان الإمام عليه السلام يأمر بمداراته، وكان إذا شرب اللبن أبقى شيئاً منه وقال: (أطعموا أسيركم) وقد قال الإمام عليه السلام لأولاده: (إن شفيت من ضربته هذه فأنا أعفو عنه، وإن لم أشف فلكم حق القصاص، ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله يقول: لا تمثلوا ولو بالكلب العقور)(213) لكنه عليه السلام حبذ إليهم العفو عنه.

وهكذا ذهب معاوية.. واندثر الخوارج.. وانتهى أصحاب الجمل.. وسقط هارون والمتوكل والمأمون وأمثالهم الذين كانوا يعادون الإمام

عليه السلام ذهبوا كلهم وبقي الإمام عليه السلام منارة مشعة للسائرين. إذن، الحركة الإسلامية التي تريد النهوض لأجل إقامة حكومة ألف مليون مسلم، عليها أن تتخذ السلام شعاراً عملياً حتى تتمكن من استقطاب الناس ومن دفع الأعداء، ولو فرض أن الحركة سقطت أو تعثرت فلابد أن تقوم بعد عثرتها، ولأن من طبيعة الناس الانتصار للمسالمين، والانتقام من المحاربين، فإذا جعلت الحركة الإسلامية السلام شعاراً واقعياً لا دعائياً فقط في القول والعمل والفكر والتأليف والخطابة والاجتماع، فإنها تتمكن من التوسع حتى تشمل كافة بلاد الإسلام، وتكون مقدمة لإقامة حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى وما ذلك على الله بعزيز.

8 الاتزان ينتهي إلى السلام

لا يكون السلام، ولا يتحقق في الواقع الخارجي، إلا إذا كان تفكير الإنسان تفكيراً متزناً، وعمله عملاً متزناً بعيداً عن المراهنات والاعتباطات والإفراطات والتفريطات.

أما أن يرى الإنسان كل خير وفضيلة في نفسه ومجموعته، ويرى الآخرين مجردين عن الفضيلة، بل ويراهم منغمسين في الرذيلة. فهذا الفكر لابد أن ينتهي إلى غير السلام.. إلى العداوة، البغضاء، الشنآن، الهمز، اللمز... ومن المعروف أن ثلاثة أشياء قليلها كثير وحقيرها كبير: النار والعداوة والمرض، فعود ثقاب صغير يحرق مخزناً من الخشب فيه عشرات الأطنان، وربما ينتهي مرض صغير بصاحبه إلى الموت، وربما أدت عداوة صغيرة ناشئة من كلمة نابية أو شبهها إلى سفك الدماء.

وقد ذكر المؤرخون أن حرباً كان ابتداؤها أن رجلاً من قبيلة رمى سهماً إلى ضرع ناقة من قبيلة أخرى، فقتل صاحب الناقة ذلك الرامي، ثم قتلت عشيرة الرامي صاحب الناقة ثأراً لصاحبهم، وهكذا دواليك.. والشاعر يقول: (ومعظم النار من مستصغر الشرر).

ولذا فعلى الإنسان أن يفكر تفكيراً موزوناً حتى ينتهي إلى العمل الموزون، أما أن يفكر تفكيراً

إفراطياً أو تفريطياً، فإن ذلك لا ينتهي إلا إلى العمل المنحرف، ثم العداوة والبغضاء. وهكذا يجب على الإنسان إذا أراد أن يقوم بحركة إسلامية عالمية تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم أن يتخذ من السلام شعاراً ودثاراً في القول والعمل والتأليف والحركة وغير ذلك، وقد ألمع النبي عيسى عليه السلام إلى هذا الموضوع حيث قال ما معناه: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.

إن عيسى عليه السلام لا يريد أن يقول للمظلومين: اخنعوا للظالمين، وإنما يريد معنى آخر ألمع إليه القرآن الحكيم أيضاً حيث قال: *وَأَن تَعْفُوَاْ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ*(214)، فعيسى عليه السلام أراد لأتباعه النجاح، واستقطاب الجماهير، ولذا علمهم السلام إلى هذا الحد، وقد نجح عيسى عليه السلام فنرى اليوم أكثر من ألفي مليون إنسان يحترمون عيسى عليه السلام، ألف مليون هم المسيحيون وألف مليون هم المسلمون، وكذلك جماعات أخرى من عقلاء البشرية.

وفي حكمة أخرى مروية عن المسيح عليه السلام أنه مر مع جماعة من تلاميذه على بعض اليهود. فقالوا فيه شراً، فقال عيسى عليه السلام فيهم خيراً، وبطبيعة الحال قال فيهم الخير الصادق، فإن أغلب الأفراد لهم خير من جهة ما.

فقيل له: يا روح الله! يقولون فيك شراً وتقول فيهم خيراً؟

فقال: كل ينفق مما عنده. يعني: من ينطوي على السوء يتلفظ بالسوء، ومن ينطوي على الخير ينفق منه، فكما أن الإنسان الفاقد للدينار لا يتمكن أن يعطي ديناراً، والواجد للدينار يتمكن أن يعطي ديناراً، والذي لا يملك غير عقرب مسموم لا يتمكن أن يعطي إلا عقرباً.. كذلك المنطوي على الخير أو الشر.

فالنظر، السماع، اللفظ، الكتابة وما أشبه، إذا كانت منبعثة من قلب مليء بالخير والرحمة كان فيها الخير والرحمة، وبالعكس

إذا كان القلب مليئاً بالشر والكذب وما أشبه، فإن اللسان وسائر الجوارح لا تعطي إلا من ذلك القلب. وهكذا علمنا عيسى عليه السلام أنه إن لم يكن الطرف الآخر من أهل الخير، فكن أنت من أهل الخير.

وقد جاء في دعاء شهر رجب: (يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه، تحنناً منه ورحمة...)(215).

إن الله يعطي المؤمنين، ويعطي الذين لا يعرفونه، ويعطي حتى الذين يعادونه.

وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك حيث يقول الله تعالى: *كُلاّ نّمِدّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً*(216)، الله يعطي المؤمن ويعطي المستضعف الذي لا يعرفه ولا يعاديه، ويعطي الكافر المناوئ له. فإذا أردنا أن نتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى يجب أن نكون متزنين في التفكير ومتزنين في العمل، لا أن نرفع أصدقاءنا إلى أعلى عليين، ونسكت ونغمض العين عن الحياديين، فكيف بالأعداء؟

كل شيء يجب أن يكون موزوناً، ومن فوائد الإنسان المتزن في تفكيره وفي عمله أن الناس يرضون به حكماً ويلتفون حوله.

إن هذا الأمر يحتاج إلى ضغط على الأعصاب وتحمل للنقد وكلاهما صعب، لكن الأمر الصعب يأتي بالنتيجة الطيبة. وقد جاء في حديث عن رسول الله صلي الله عليه و اله حيث رأى فاطمة عليها السلام تكدح وتتعب، أنه قال لها: (يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة)(217).

إن المرارات لا تعطي إلا النتيجة الحلوة. إن أي مهندس أو طبيب أو محام أو رياضي أو فقيه أو خطيب بارع أو مؤلف قدير لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بالتعب والنصب، وكذلك إذا أردنا أن

نصل إلى حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى، فإن ذلك يحتاج إلى ضبط الأعصاب والاتزان في الفكر وتحمل النقد وحسن الإقناع للناس بعيداً عن كل أنواع الاستبداد والديكتاتورية وما أشبه.

فإن الاستبداد والديكتاتورية والإفراط في التفكير وفي العمل وفي القول وفي الأجهزة الإدارية لا تنتهي إلا إلى نتائج سيئة، إذ السيئ لا ينتهي إلا إلى السيئ.

وفي الحديث أن عيسى عليه السلام مر على قتيل، فقال: من قتلك؟ ويأتي يوم يقتلون قاتلك، وطبعاً هذا الأمر على نحو القضية الطبيعية، فإن الإنسان الذي يقتل شخصاً بغير ذنب يأتي يوم يقتل فيه هو. وفي حديث: (بشر القاتل بالقتل والزاني بالفقر).

فمن شروط الحركة الإسلامية العامة: اتخاذ السلام من هذه الجهة أيضاً، أي من جهة الاتزان في الفكر والعمل وإعطاء كل شيء حقه، وفي القرآن الحكيم: *وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءهُمْ*(218)، يعني إنك إن ألفت كتاباً واحداً فمدحت نفسك، وألف غيرك عشرة كتب جيدة، ولم تمدحه بقدر كتابك، فإن جزاءك الطبيعي أن تتأخر في الحياة، بالإضافة إلى أن الناس ينفضون من حولك ويعرفونك بالإفراط والتفريط.

ولذا اشتهر عند علمائنا أن مرجع التقليد وإمام الجماعة والقاضي يجب أن يكونوا بعيدين عن (الحب) و(البغض): يريدون بذلك حباً اعتباطياً وبغضاً اعتباطياً.

وقد ذكرنا سابقاً: أن رجلاً قال للشيخ المرتضى الأنصاري رحمة الله عليه معرّضاً به: (إن من السهل أن يصبح الإنسان عالماً، ولكن من المحال أن يصبح إنساناً) ! يريد أن يقول: أنت أيها الشيخ عالم وهذا سهل، ولست بإنسان وأن تكون إنسانا محال، فقال الشيخ: (بل أن يصبح الإنسان عالماً صعب، وأن يصبح إنساناً أصعب). وهذه حقيقة، لأن الفرد يحب أن يجاهد خمسين سنة أو ستين سنة، ليله ونهاره، ليصبح عالماً. أما إذا أراد

أن يصبح إنساناً فيحتاج إلى جهاد أعمق، لكي يحقق هدفه. نسأل الله أن يوفقنا لمراضيه، وأن يمكننا من تأسيس الحكومة الإسلامية العالمية، كما يحب ويرضى.

9 مقومات السلام داخل الحركة

السلام في داخل الحركة يتطلب وجود أمرين إذا لم يوجدا لا تنتهي الحركة إلى مفعول جيد، وإنما تبقى الحركة ضحلة ضعيفة، ككثير من الحركات التي سادت ثم بادت، لأنها لم تكن لها مقومات الحركة الواقعية، سواء في عالمنا الإسلامي أو في غيره، ولذا فالواجب على الحركة أن تراعي هذين الأمرين من بدء تكوينها لكي تنتهي إلى الهدف المنشود، وهذان الأمران هما:

أولاً: الانتخابات الحرة في داخل الحركة.

ثانياً: تكافؤ القوى في الحركة.

إن الحركة تنقسم بشكل طبيعي إلى خطوط وهذا أمر طبيعي وهذه الخطوط يجب أن يكون بينها التكافؤ والتوازي والتساوي، حتى لا تتمكن فئة من الفئات أن تسيطر على الحركة وتحرفها من الواقعية إلى الديكتاتورية، فإن الحركة بمجرد أن تتسلط عليها فئة تنتقل من الواقعية إلى الديكتاتورية، وذلك يعني موت الحركة، وحتى إذا كانت باقية في الحياة فبقاؤها صوري. لقد كانت في العراق قبل الانقلابات العسكرية الغربية، وفي أيام الملكيين أحزاب، سواء منها ما يسمى بالأحزاب الوطنية والتقدمية، وما يسمى بالأحزاب الإسلامية، وكلها سقطت، لأنها من أول أمرها كانت تتسلط عليها فئة استعمارية أو مستبدة تأخذ زمام الحركة، فلا انتخابات حرة ولا كفاءات ولا توزيع قدرة، وإن كان الاستعمار البريطاني مسيطراً في ذلك اليوم أيضاً، لكن الاستعمار لم يكن بهذه الشدة وبهذه الحدة التي جاء بها من أسموا أنفسهم بالجمهوريين، ولم يكونوا جمهوريين، لا عبد الكريم، ولا عبد السلام، ولا أخوه، ولا البكر، ولا من بعده، وإنما هم عملاء لبريطانيا وإسرائيل وأمريكا. وهذا الأمر فيه عبرة لنا، فالحركة الإسلامية يجب

أن تكون فيها قدرات وقوى متكافئة ومتقابلة ومتنافسة، لكن تتنافس على الخير لا على الشر، على الهمة في العمل، على استقطاب الجماهير، على رفع المستويات، وكما قال الله سبحانه وتعالى في ثلاث آيات من القرآن الحكيم حيث يذكر التنافس بين المؤمنين، آية تقول: *وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*(219)، وفي آية أخرى: *وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ*(220)، وفي آية ثالثة: *فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ*(221).

وعلى كل حال، فاللازم في الحركة الإسلامية مراعاة السلام بين فئات الحركة، فإذا كانت هناك ديكتاتورية مسيطرة على الحركة لم يكن هناك سلام، فإن السلام من ولائد القدرات المتكافئة، أما إذا كانت فئة ديكتاتورية متسلطة على الحركة لا تتبدل ولا تتغير ولاتتمكن الحركة من تغييرها، فإن هذه الفئة تستبد بالمال، بالسمعة، بالإرادة، بالفكر.. وما أسهل أن يأتي الاستعمار ويأخذ بزمام الديكتاتوريين، لأن الجماهير ليست في الساحة، وإنما أربعة أو خمسة أو عشرة فقط هم الموجودون. أما إذا كانت الحركة جماهيرية فالاستعمار لا يتمكن من القبض على زمام الجماهير.

إذن فاللازم في الحركة مراعاة أمرين:

الأمر الأول: الأجنحة الحرة والقوى المتكافئة والجماعات المختلفة ذات الاتجاهات المتعددة، وإن كان الإطار واحداً، وهو الحركة الجماهيرية الإسلامية، لكن الأذواق مختلفة بطبيعة الحال، فكل له الحق في أن يعرض رأيه في كمال الحرية، في الخطابة، في الكتابة، في الاجتماعات، في الأسفار، وفي غير ذلك، هذه قوة، وتلك قوة في قبالها قوة ثالثة ورابعة وهكذا، حتى تكون القوى المتكافئة باعثة لظهور الكفاءات، وأن يعمل كل إنسان حسب اجتهاده، كما نرى ذلك حتى في الفقهاء المجتهدين، فإن الإطار هو الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ومع ذلك يختلفون في جزئيات المسائل من كتاب الطهارة إلى كتاب الديات. وكذلك نرى ذلك في الأطباء والمهندسين، في الفلكيين، وفي مجالس

الأمة الحرة أو شبه الحرة.

الأمر الثاني: الانتخابات الحرة في داخل الحركة: كل سنة أو سنتين أو ما أشبه حسب قرار الأكثرية وعلامة حرية الانتخابات التغيير الشامل من القمة إلى القاعدة، لا أن تكون الانتخابات مزيفة كما اعتادته بعض الدول وبعض الأحزاب وبعض المنظمات، حيث لا تغير الرؤوس وإنما تغير بعض الأشياء الصورية.

هذه علامة، وعلامة ثانية هي أن الأصوات تكون بين قليلة وكثيرة، كواحد وخمسين في المائة، وخمس وخمسين في المائة، وستين في المائة أو ما أشبه. أما الانتخابات المزيفة التي نجدها في أمثال البعثيين والقوميين ومن إليهم فنرى تسعة وتسعين صوتاً يعطى للرئيس السابق وصوت واحد أو أقل يكون نصيب منافسه، فإن هذا الانتخاب مزيف وكذب ودجل، ومثل هذه الانتخابات ليست إلا تكريساً للديكتاتورية، وقد ذكر أحد علماء السياسة: أنك إذا أردت أن ترى هل أن البلد حر أو ليس بحر فلك ميزانان:

الميزان الأول: أن ترى القيادة تتبدل كل أربعة أعوام مثلاً مرة، والميزان الثاني: إنك ترى الناس يتمكنون من التكلم بما يريدون في الشارع، وتأليف ما يريدون وإصدار المجلات والجرائد كما يريدون...

هاتان علامتان للحرية يجب أن نراعيهما في داخل إطار الحركة حتى تكون الحركة حرة بجميع معنى الكلمة، بشرط أن تكون الحرية ضمن الإطار الإسلامي. وبذلك تأخذ الحركة في التوسع الدائم والتقدم المستمر وتكون هذه الحركة ملازمة للسلام، والسلام ملازماً لمثل هذه الحركة. وهكذا تنتهي مثل هذه الحركة إلى حكومة ألف مليون بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.

10 تلقين السلام

إن للتلقين أثراً كبيراً في داخل النفس، فالإنسان بطبيعته يغضب ويثور ويذكر معايب الآخرين، ويدخل مع الناس في صراع ونزاع وحقد وبغضاء وعداء ومقاطعة وما أشبه. فاللازم اجتثاث جذور هذه

الأمور من قلب الإنسان ومن ثم من جوارحه، وذلك بالتلقين الدائم بأنه إنسان مسالم، حازم، عاقل، مفكر، مدبر، مدير، فإذا لقن نفسه بهذا التلقين في ليله ونهاره وشهره وسنته، فإنه يتطبع بطابع السلم، ويتمكن من التقديم بالحركة إلى الأمام ولو كان في جو مليء بالمناوآت والحروب والثورات والانقلابات وما أشبه.

وقد ورد في حديث: إن (أحق الأشياء بطول السجن اللسان)(222). فعلى الإنسان أن يتعود على حفظ لسانه وحفظ قلبه.

وفي حديث آخر: (إذا رأيتم المؤمن صموتاً فاقتربوا منه فإنه يُلقّن الحكمة)(223).

وكذلك يجب على الإنسان أن يكون حافظاً ليده، لقلمه، لحركته، لسكونه، ولكل شيء، حتى يتمكن من أن يقدم الأمة إلى الأمام. والذين يقولون: نحن عصبيون! لا نتحمل! أو إن فلاناً استخف برأينا! أو إننا رأيناه على الباطل فكيف نسكت عليه؟ وما أشبه، إن هؤلاء لا يتمكنون من تقديم الحركة إلى الإمام.

ولذا نرى في تاريخ رسول الله صلي الله عليه و اله وتاريخ الحركات الناجحة الكثير من هذا القبيل، فقد ورد في الحديث: إن رجلاً كافراً سيئ الخلق والعمل.. جاء إلى رسول الله صلي الله عليه و اله وشتم الرسول صلي الله عليه و اله، والرسول في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فسكت عنه الرسول صلي الله عليه و اله ولم يقل له شيئاً، وقد كان يريد التحرش بالرسول صلي الله عليه و اله حتى يدخل معه في منازعة، ولكن الرسول صلي الله عليه و اله تحلّم، ثم شتمه الرجل وشتمه، والرسول ساكت، وأخيراً أساء الأدب أكثر فبصق في وجه رسول الله صلي الله عليه و اله.. ينقل الرجل نفسه يقول: إن محمداً صلي الله عليه و اله لم يزد على أن مسح البصاق عن وجهه الشريف ولم يقل

شيئاً.

ما الذي دفع الرسول صلي الله عليه و اله إلى هذا الفعل مع أنه كان متمكناً من مواجهته*فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ*(224)، إنه رأى أن الدخول مع هذا الكافر في نزاع هو أمر جانبي لا يخدم الهدف، ولذا رجع إلى السلام وأخذ يسير في طريقه الذي رسمه له الله سبحانه وتعالى، وهكذا نجحت الحركة الإسلامية بفضل حلم رسول الله صلي الله عليه و اله وصبره وسلامه. يقول الشاعر: (ولن تستطيع الحلم حتى تحلما). يعني إنك وإن كان في نفسك ثورة فإنك لا تظهر هذه الثورة وإنما تتحلم وتصبر وتضغط على أعصابك حتى تتمكن من أن تكون مسالماً حتى في أشد حالات الهيجان والخصام.

وفي قصة أخرى: إن رسول الله صلي الله عليه و اله مر على آل ياسر ياسر وسمية وعمار والمشركون يعذبونهم تعذيباً شديداً، فنظر صلي الله عليه و اله إليهم بلطف وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)(225) ولم يزد على هذا، لماذا؟ لأن الرسول صلي الله عليه و اله عرف لو أنه أراد أن يدخل مع أولئك الكفار في قضية جانبية تفوته حركته الأساسية، ولا يصل إلى هدفه الذي كان يرمي إليه من إقامة عمود الإسلام.

وهكذا كان يتصف رسول الله صلي الله عليه و اله وأصحابه الأبرار وآله الأطهار عليهم السلام بأكبر قدر من السلم والسلام، وضبط النفس، وضبط اللسان، وضبط اليد، وضبط الحركة، فتمكنوا بهذا السلام من التقدم. وكذلك نرى بعض المصلحين الذين تمكنوا من إنقاذ بلادهم من الاستعمار أنهم كانوا قادرين على ضبط النفس، وقد كان أحدهم غير قادر على ذلك، وكان يتهيج لأقل استفزاز، ثم إنه أخذ يلقن نفسه كل يوم: إني رجل

مسالم أحب الخير لكل الناس. وهو يقول: كل يوم حين كنت أستيقظ في أول الصباح كنت ألقن نفسي هذه الكلمة، وحين كنت أريد المنام ألقن نفسي هذه الكلمة أيضاً، وهكذا حتى استطاعت أعصابي أن تتحمل الضغط والإهانة وما أشبه.

ونحن نرى أن المسلم أيضاً يلقن نفسه في كل يوم (السلام) صباحاً، ظهراً، عصراً، مغرباً، عشاءً، وذلك في الصلوات الواجبة، حيث يكرر ذلك في كل صلاة فيقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

فسلام للقائد وهو رسول الله صلي الله عليه و اله، وسلام لنفس المصلي، وسلام للجميع، وهذه رموز عن سلم القائد، وسلم الشخص، وسلم المجتمع الإسلامي، بل وأكبر من المجتمع الإسلامي لأنه يقول (السلام عليكم) يعني كلكم كونوا في سلام.

وهكذا يلقن المسلم نفسه (السلام) كل يوم ما لا يقل عن خمس عشرة مرة، فإذا تلقن الإنسان السلم فيستطيع من السلام الذي يتمكن بسببه من: القيادة والتقدم، وجمع الكلمة، وتحمل المصائب، وعدم استفزاز الآخرين بالكلمة النابية، والهمز، واللمز، والطعن، واللعن، والسباب، والمهاترة، وفي حديث أن رسول الله صلي الله عليه و اله رأى نفرين يتسابان فقال: (شيطانان يتهاتران)(226). وعلى أي حال فاللازم على الحركة الإسلامية التي تريد أن تنتهي إلى حكومة إسلامية عالمية أن تأخذ الشعار والدثار: السلام.

ولا يتسنى للحركة ذلك إلا بالتلقين الدائم، المداوم؛ بأننا أناس نحب السلام، ونسعى للسلام، لا سلام الشيوعيين بطبيعة الحال، فإن هذا السلام سلام كفر وقتل، وإنما نحن نريد سلاماً في ظل *السلام*، ونقصد بكلمة في ظل السلام: في ظل الله سبحانه وتعالى، لأن من أسمائه السلام *هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ

الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبّرُ*(227).

نحن نريد السلام في ظل السلام، أي في ظل الله وفي ظل الإسلام.

فالواجب علينا أن نلقن أنفسنا السلام الدائم والعطف حتى نحو الأعداء، حتى نسحبهم إلى الصراط المستقيم، وقد روي عن رسول الله صلي الله عليه و اله أنه كان إذا اشتد به أذى قومه كان يقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)(228)، ولم يكن يدعو الله عليهم، وإنما كان يدعو الله لهدايتهم، وبالنتيجة نجح رسول الله صلي الله عليه و اله ذلك النجاح المنقطع النظير في كل العالم. نسأل الله أن يوفقنا لذلك، إنه خير موفق ومعين.

الأساس الخامس: الاكتفاء الذاتي

1 نحو الاكتفاء الذاتي

كان الكلام حول كيفية إقامة حكومة ألف مليون مسلم.. وقلنا إن ذلك يتوقف على أسس هي: (التوعية، التنظيم، أصول الحركة العامة، والسلام) هذه أسس أربعة ذكرناها في حلقات سابقة.

أما الأساس الخامس لمثل هذه الحكومة فهو: الاكتفاء الذاتي، يعني أن يهتم المسلمون بأن تكون حوائجهم من عند أنفسهم، فلا يطلبون من الشرق والغرب حاجة، سواء كانت صغيرة أم كبيرة. وذلك ممكن، فالبلد الإسلامي إذا صار يداً واحدة من غير فرق بين السودان وليبيا والمغرب ومصر والأردن وسوريا والعراق وإيران والخليج والباكستان وإندونيسيا وبنغلادش وأفغانستان وغيرها من الأجزاء المقطعة من الجسم الإسلامي الواحد.. إذا عدت هذه البلاد بلداً واحداً أمكن أن يعطي كل بلد حوائج البلاد الأخرى.. وهكذا يقوم المسلمون الألف مليون بحوائج أنفسهم، فلا يستوردون من الشرق أو الغرب أي جهاز من الأجهزة، وهذا الشيء يبتدئ من الصفر، بأن تقوم الحركة بنفسها بتطبيق هذا المبدأ على نفسها وأعضائها أولاً، ثم تقوم بالدعايات الكافية وتوفير الشروط اللازمة لأجل الاستغناء، فقد قال علي أمير المؤمنين عليه السلام: *احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره،

وأحسن إلى من شئت تكن أميره*(229)، فما دام المسلمون محتاجين في لباسهم وفي أدواتهم الكمالية وفي المأكل والمشرب والمركب وغير ذلك إلى أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين واليابان وإلى غيرها، فهم أسراء في أيديهم، وبالفعل نحن أسراء، ولذا لا استقلال لنا ولا حرية، ولا تسمع آراؤنا، وليس لنا كلمة يصغى إليها، نحن أسراؤهم، وفي حال الأسر لا يمكن أن تقام الدولة الإسلامية الواحدة، كما لا يمكن أن تقوم حركة حقيقية تتقدم حتى تصل بالمسلمين إلى حكومة ألف مليون مسلم.

فالأساس الخامس الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن الأجانب، في الدواء، في الغذاء، في الكساء، في السيارة، في الباخرة، وفي كل شيء.

فكل شيء يصنع في بلادهم نتخذه آلة ووسيلة، وكل شيء يصنع في بلادنا من الأدوات والآلات لا نستخدمه، وإذا صمّمنا على ذلك، فإن الأمر يسهل علينا.

وقد ورد أن رسول الله صلي الله عليه و اله لما هاجر إلى المدينة المنورة رأى اليهود قد نشبت مخالبهم في أهل المدينة، لأن اليهود كانوا محيطين بالمدينة من بني قينقاع وبني النضير وخيبر وفدك وتيماء والعوالي وبني المصطلق وغيرهم ورأى رسول الله صلي الله عليه و اله أن هؤلاء هم المثقفون الذين سيطروا على أهل المدينة بثقافتهم وأنهم هم التجار الذين بيدهم الأسواق، وذلك يعني أن البضائع لم يكن يصدرها أو يستوردها غيرهم. وأنهم هم تجار السلاح، فالسلاح وإن كان في ذلك اليوم لا يعدو السيف والسهم والرمح وما أشبه، إلا أنها كانت بأيدي اليهود. ورأى صلي الله عليه و اله أن اليهود أفسدوا أهل المدينة بالخمر والبغاء والشذوذ الجنسي ونحو ذلك.

عزم رسول الله صلي الله عليه و اله بأمر الله تعالى أن ينقذ أهل المدينة من اليهود...

ولما أسر جماعة من أهل بدر جعل الفدية أن يعلم كل إنسان يعرف القراءة والكتابة من الكفار عشرة من المسلمين، فالتعليم فدية ذلك الإنسان المعلِّم، بدل أن يفدي نفسه بالمال، وهكذا أخذ جماعة من الكفار الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة يعلّمون عشرة من أولاد المسلمين، فإذا استوعب هؤلاء العشرة القراءة والكتابة كان ذلك فكاكاً لأسر ذلك الكافر، فينطلق إلى داره، والمسلمون الذين تعلموا من أولئك الكفار صاروا هم يعلّمون غيرهم، فلم ينحصر العلم في اليهود، وإنما أخذ المسلمون يعلّمون بعضهم بعضاً، حتى قام بهم العلم، قراءة وكتابة، إلى جانب العلوم الشفهية التي كان يلقيها عليهم رسول الله صلي الله عليه و اله، إذ كان الرسول صلي الله عليه و اله يعلمهم ليلاً ونهاراً: *هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ*(230).

وهكذا تخلص أهل المدينة المنورة من شر اليهود من هذه الجهة.

ثم قال لهم الرسول صلي الله عليه و اله: اتجروا أنتم.

قالوا: يا رسول الله ليست لنا دكاكين أو محلات للبيع.

فقال لهم كما في التاريخ : اجعلوا بسطاً في الشوارع والأزقة.

فأخذ المسلمون يشترون بعض الأشياء ويجعلونها على البسط في الشوارع والأزقة، وبهذا استغنوا عن الشراء من اليهود، فانقطعت الصلة التجارية إلى جانب انقطاع الصلة الثقافية بين أهل المدينة وبين اليهود.

وبعد ذلك أمر رسول الله صلي الله عليه و اله المسلمين أن يذهبوا ويتعلّموا صنع السلاح، وذهب بعضهم إلى اليمن وتعلم صنع السلاح، وحتى صنع الدبابة على الطراز القديم. فتعلموا صناعة السيف، الرمح، السهم، الخوذة، الدرع، الدبابة ونحوها، تعلموها وصنعوها فاستغنوا في سلاحهم عن اليهود. وبذلك انقطعت صلة اليهود العسكرية عن المسلمين،

وكان هذا أيضاً نوعاً من الاستقلال.

وكذلك حرّم رسول الله صلي الله عليه و اله بأمر من الله سبحانه وتعالى الزنا واللواط والخمر والقمار وما إلى ذلك من الأسباب المفسدة الملهية التي روجها اليهود بين أهل المدينة قبل الإسلام، حتى يجعلوهم لقمة سائغة في أفواههم، لأن الفساد يحطم الأمم كما هو معروف.

ولما فعل رسول الله صلي الله عليه و اله هذه الأمور الأربعة: الاستقلال الاقتصادي، والاستقلال الثقافي، والاستقلال التسليحي، والاستقلال الأخلاقي، أي الاستقلال عن الشهوات ومحاربة النفس الأمارة بالسوء، وإذا بمسلمي المدينة يقومون على أقدامهم ولم يعودوا يحتاجون لا إلى المشركين ولا إلى اليهود، ولم يعودوا منغمسين باللذات والملهيات والمفاسد والمغريات، وبذلك قاموا على أرجلهم وقابلوا اليهود وغير اليهود من المشركين حتى قامت قائمتهم ووصل الإسلام إلى ما وصل إليه في زمن رسول الله صلي الله عليه و اله، حيث دخلت تحت لواء الإسلام في حياة الرسول خمس من الدول (حسب الاصطلاح الحديث) وهي: الكويت وكانت تسكنها قبائل عربية كما في بعض التواريخ والبحرين، واليمن الشمالي، واليمن الجنوبي، والحجاز.

فنحن المسلمين إذا أردنا الاستقلال عن الغرب والشرق والرجوع إلى الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية العالمية ذات الألف مليون مسلم نحتاج إلى الاكتفاء الذاتي، نكتفي ببضائعنا، نكتفي بمنتجاتنا، نكتفي بصنائعنا، نكتفي بعلومنا، نكتفي بخيراتنا التي تظهر من الأرض من المعادن أو الثمار أو غير ذلك. فإذا استغنينا عن الغرب والشرق نكون نظير الغرب والشرق تلقائياً، أما إذا احتجنا في كل شيء إلى الغرب والشرق فلابد وأن يسود بلادنا الغرب مرة، والشرق مرة، ووليدتهما الصهيونية مرة ثالثة.

وإلى متى؟ لقد جربنا البعثية، وجربنا الشيوعية، وجربنا الديمقراطية الغربية، وجربنا سائر الأنظمة الغربية والشرقية، فلم تزدنا إلا خسارة، وها نحن

وقد بقي أمامنا الإسلام، الإسلام الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة المطهرة. وأمامنا سيرة رسول الله صلي الله عليه و اله وأصحابه الكرام وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين)، فلنتخذ منها درساً في الاكتفاء الذاتي، إلى جنب أخذنا منهم الصلاة والصيام والحج والصدق والأمانة والحرية وغير ذلك، فإذا فعلنا ذلك نكون قد اقتربنا من الحركة الإسلامية العالمية الواحدة التي تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.

2 مقاطعة البضائع الأجنبية

الاكتفاء الذاتي يتركز على أمرين:

1: إيجابي، وسوف نتكلم عنه في الأبحاث القادمة بإذن الله تعالى.

2: وسلبي، يدور كلامنا الآن حوله، وهو عبارة عن تجنب الإنسان البضائع والأفكار الأجنبية مطلقاً، وإنما يجب أن تكون الأفكار نابعة من نفس الإسلام وبلاد الإسلام، فالأفكار الدخيلة يجب أن تنبذ كما تحدثنا عن ذلك سابقاً، ويجب أن تقاطع كل البضائع الأجنبية.

ومقاطعة البضائع الأجنبية التي ليست من بلاد الإسلام تتضمن مشكلات:

الأولى: مشكلة الحرمان.

الثانية: مشكلة الصعوبة في تبديل البضائع بشيء آخر.

الثالثة: مشكلة الضغط النفسي على المقاطعين.

أما المشكلة الأولى: فإن جملة من البضائع دخلت في حياتنا نحن المسلمين، فإذا تركناها وفقدناها ولم نجد بديلها في بلاد الإسلام سبّب لنا ذلك بعض الحرمان، مثلاً: الثلاجة إنما تصنع في الشرق والغرب، فإذا قاطعنا البضائع الأجنبية فمعنى ذلك أن لا ثلاجة في بيوتنا، وهذا شيء صعب بالنسبة إلى من اعتاد على وجود ثلاجة في منزله.

ولكن هذه صعوبة يجب تحملها، لأن تحمل الصعوبة يرفع الإنسان إلى مدارج الكمال، وفي الحديث: (أفضل الأعمال أحمزها)(231).

المشكلة الثانية: تبديل الشيء السهل إلى الشيء الصعب، مثلاً: فقد اعتادت الكثير من نسائنا على الغسل بالغسالات الكهربائية، وإذا تركنا الغسالات الكهربائية يجب الغسل باليد، وفي الغسل باليد

صعوبة كبيرة، ولكن هذه الصعوبة يجب أن تتحمل جسدياً، لأجل فائدة أكبر وهي إنقاذ المسلمين من براثن المستعمرين، حتى نفس هذا الإنسان الذي يلاقي صعوبة سيلاقي سهولة في المستقبل. بالإضافة إلى ما يجده من عزة في الحاضر والمستقبل، فإن قيام الدولة الإسلامية أحسن وأهنأ من الراحة مع الذلّة التي يعيشها المسلمون الآن.

المشكلة الثالثة: مشكلة الضغوط النفسية، حيث يقال: هؤلاء رجعيون، هؤلاء يسيرون إلى الوراء، هؤلاء متوحشون، هؤلاء لا يفهمون الحياة.. لكن لنتساءل ما معنى الرجعي والمتخلف؟ أليس كل صاحب مبدأ ينظرون إليه على أنه رجعي؟ وأليس الاستعمار ينسب كل من لم يطعه إلى التخلف والرجعية والجمود؟

إن الشيوعيين يجعلون المعيار الشيوعية، فكل من ليس شيوعياً فهو متخلف في نظرهم، والرأسماليون يجعلون المعيار رأس المال والأنظمة الغربية، فكل من لا يسير في ركابهم فهو متخلف ورجعي. وكذلك البعثيون والقوميون والديمقراطيون الغربيون، والوجوديون، بل إن الصهاينة يعدون اليهود الذين لا يمشون في ركابهم في الاستعمار والاستغلال رجعيين، وأهل الفساد يعدون من لا يمشي في ركابهم في تعاطي الآثام والموبقات متخلفاً ورجعياً.. فهل نخاف نحن المسلمين من أن يرمينا أحد هؤلاء بالرجعية؟

فيجب علينا أن نعرف الميزان والمعيار الذي نريد أن نزن به التخلف والتقدم والرجعية والجمود، الميزان هو الفضائل الإنسانية، هو الطهارة والنزاهة، هو إعطاء حاجات الروح وحاجات الجسد، هو إنقاذ المستضعفين من براثن المستغلين والمستعمرين.

وهل أن التقدمي هو الذي يقتل آلاف الناس، كالشيوعيين. وهل التقدمي هو الذي يسجن آلاف الناس، كالأمريكيين والأوربيين؟ وهل أن التقدمي يقاتل وينهب ويهتك الأعراض كالبعثيين وغيرهم؟ هل هذه هي التقدمية، وهل يجب أن نخاف من هذه الوصمة؟ إنك إذا لم توصم على ألسنة هؤلاء بالرجعية والتأخر والتخلف فلابدّ وإنك مع الظالمين،

إن صفحتك إذا كانت بيضاء في سجل المباحث البعثية والقومية والشيوعية فلابدّ وأنك مُداهن، وأنك ساكت على الظالم وأنك راض بفعله. أما إذا كانت صفحتك سوداء على اصطلاحهم فإنك مجاهد حقيقي، وإنك ممن يحبه الله، إذا كنت تحاربهم في سبيل الله. فلا خوف لنا إذن من أن نتهم بسبب مقاطعة البضائع الأجنبية بالرجعية والجمود والتخلف وعدم المسايرة مع الركب الاستعماري الاستغلالي العالمي الشرقي والغربي.

من الأمثال المشهورة: (حشر مع الناس عيد)، ولكن العكس هو الصحيح، *إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً*(232)، لم يقل إبراهيم عليه السلام ذلك المثل، ولم يقله موسى ولا عيسى ولا محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولو أراد موسى بن جعفر عليه السلام أن يقول: (حشر مع الناس عيد) لم يُسجن، ولو أراد الإمام الصادق عليه السلام أن يقول ذلك لما سمّوه، وهكذا سائر الأئمة عليهم السلام وسائر المصلحين، إنما طردوا وهوجموا وسجنوا وعذّبوا وقتلوا لأنهم رفضوا مقولة (حشر مع الناس عيد).

ويجب علينا أن نعرف أن تركنا للبضائع الأجنبية الغربية والشرقية وإقبالنا على البضائع التي تصنع في بلاد الإسلام، كمصر وإيران والعراق وغيرها، هذا الشيء يسبب لنا راحة في المستقبل، وراحة لكل المسلمين، وللمستضعفين من غير المسلمين أيضاً..

يوجد الآن أكثر من ألف مليون جائع في العالم، من الذي ينقذ هؤلاء؟ فقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله: (ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع)(233).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام وهو الأسوة والقدوة بعد الرسول صلي الله عليه و اله: (ءأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين، ولا أشاركهم مكاره الدهر؟ أو أبيت مبطاناً وحولي أكباد حرى، وبطون غرثى، أم أكون كما قال الشاعر:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك

أكباد تحنّ إلى القد

ولعل هناك باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له في القرص)(234).

وقد ورد: أن قصاباً قال لأمير المؤمنين عليه السلام وهو رئيس أكبر دولة في ذلك اليوم : يا أمير المؤمنين نعم اللحم، فقال الإمام: إني لا أملك الثمن. وكان ثمن اللحم أقل من درهم، الإمام لا يملكه، لماذا؟ وحقاً لا يملك الإمام، لا من بيت المال، ولا من أملاكه الشخصية ومزارعه الكثيرة التي زرعها وحرثها؟

نعم إنه لا يملك أن يكون في وقت واحد عادلاً وأن يأكل اللحم وهو خليفة المسلمين ولعلّ بعض المسلمين لا يجدون اللحم، ولعل بعض غير المسلمين في بلاده لا يجدون اللحم. إن الإمام عليه السلام لا يحن على المسلم فقط، وإنما حتى على الكافر، كما في القصة التي هجم فيها جيش العدو على الأنبار وآذوا النساء المسيحيات فتأثر الإمام تأثراً بالغاً وقال في كلامه: (والأخرى المعاهدة) يعني التي في عهد المسلمين، ولعلها لم تكن أيضاً مسيحية بل كانت وثنية، لأن الوثنيين بقوا في عهد الإمام عليه السلام، حيث لم يكن ضغط عليهم إذا استسلموا للدولة الإسلامية وعملوا بالشرائط.

وقال في كلام لمالك الأشتر: (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)(235)، والنظير في الخلق يشمل الكافر والمشرك، والذي لا يؤمن بالله إطلاقاً، وعلى أي حال، فهذه مسألة فقهية ذكرناها في كتاب (الفقه الجهاد) (236).

الإمام عليه السلام يريد بحرمان نفسه أن يوسّع على المسلمين وغيرهم، وبالفعل تمكّن من ترفيههم حتى جاء في بعض التواريخ: أن الإمام عليه السلام قال ما مضمونه: أنه في عهده صار لكل عائلة دار ورزق وماء.

لكن أكبر الدول ثروة اليوم كأميركا لم تستطع ذلك، أما في

روسيا فأكثر الناس جائعون، وإن كانت دعاياتهم تقول بأنها: (حكومة العمال والفلاحين) !!

وهكذا، إذا تمكنا من حرمان أنفسنا نتمكن من إنقاذ المحرومين.

وقد جاء في التاريخ أنه: إبان الحرب الإسلامية الفارسية في أول الإسلام، حيث تعدّى الفرس في قصة مشهورة على المسلمين فاضطر المسلمون إلى محاربتهم، تعجب الفرس كيف يتقدم المسلمون وهم حكومة جديدة وبدائية إلى أبعد حدّ؟ فاجتمع قائدهم رستم مع ضباطه وقواد أركانه، واستشارهم في ذلك… عجباً هل هؤلاء معهم الملائكة؟ إنهم ما كانوا يصدّقون أن المسلمين أصحاب دين حقيقي، ثم الملائكة لا تحارب إلا في معجزة خارقة للعادة، لأن الله أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها.. هل معهم الجن يحارب معهم ضد أعدائهم؟ لا هذا ولا ذاك.. فهل معهم السحر؟ عجيب، السحر يهزم الدول ويصنع الدول؟ لا يمكن هذا أيضاً..!

قال رستم: إن العدد والعدة لنا، إضافة إلى أكثر من ألف سنة من الممارسة، وهؤلاء لا عدة لهم ولا عدد ولا نظم وهم بدائيون، وحكومتهم حكومة جديدة لم يمر عليها حتى عشرين سنة، فكيف يحاربوننا ويتفوقون علينا وعلى غيرنا؟ وأخيراً، استقر رأي رستم وأصحابه على أن يستقدموا واحداً من المسلمين ويستفسروا منه عن السبب؟

فاستقدموا مسلماً، وفي بعض التواريخ: اختطفوا مسلماً من هؤلاء المسلمين المنتشرين في الصحراء، وجاؤوا به إلى خيمة الحرب ذات الأبهة، الأبهة الفارسية المشهورة ذلك اليوم، وإذا به يرى فرشاً من أجمل الفرش، فجمع قسماً منه وجلس على الأرض!!

تعجب هؤلاء من فعل هذا المسلم، وقال له رستم: كان لنا سؤال واحد.. والآن لنا سؤالان.. نقدم الثاني منهما: لماذا جمعت الفرش وجلست على التراب؟

قال الرجل المسلم ومحل الشاهد في هذه الكلمة : إنما فعلت ذلك لأن لي أخوة في

الصحراء يجلسون على التراب، فما أحببت أن أكون أعلى منهم مجلساً، وكيف أجلس على الفرش وهم يجلسون على التراب؟... ولما ذهب ذلك المسلم نظر بعضهم إلى بعض وقالوا هذا هو الذي نخاف منه ونخشى. إن مثل هؤلاء يتقدمون علينا ولا يمر زمان إلا ويتسلطون على بلادنا! وهكذا كان.

المسلم في ذلك اليوم ما كان يلاحظ شخصه فقط، ولا يقول: داري ودابتي وأثاثي وبستاني وأملاكي ورصيدي وأسهمي و...، بل كان يلاحظ الكل ويقول: نحن الأخوة، نحن الجماعة، نحن الأمة يجب أن نكون متساوين في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، ولهذا تقدموا: فإذا حرمنا أنفسنا نحن المسلمين عن البضائع الأجنبية المرفهة سواء حرمناها إطلاقاً أو بدلناها بالشيء الأصعب كنا من الذين يوفقهم الله سبحانه وتعالى للوصول إلى الهدف، وما ذلك على الله بعزيز.

3 المقاطعة الشاملة

ذكرنا في الموضوع السابق: الركن السلبي في الاكتفاء الذاتي.. وسنتحدث الآن حول الركن الإيجابي منه.

الاكتفاء الذاتي لا يبدأ ضخماً واسعاً عميقاً، وإنما هو كالنبات ينمو رويداً رويداً، فإذا قررت الحركة الإسلامية العامة التي تريد النهوض بالمسلمين لإقامة دولة الألف مليون مسلم، أن يكتفي المسلمون ذاتياً حتى لا يحتاجوا إلى الشرق والغرب، فعليها أن تدعو المسلمين إلى أن يتخلوا عن البضائع الأجنبية واحدة تلو الأخرى، وشيئاً فشيئاً، وأن يحولوا البضائع المستوردة إلى البضائع المصنوعة في بلاد الإسلام، كما ويلزم أن يقطعوا حاجاتهم عن المواد الغذائية المستوردة من الخارج وينقلوا ذلك إلى المواد المنتجة في داخل بلاد الإسلام من لحوم وحنطة وأرز وحليب ومربيات وحلويات وغير ذلك تدريجاً.

فتنمو السلع الداخلية وتنقطع السلع الخارجية حتى يصل الأمر إلى الاكتفاء الذاتي، وحتى يكون المسلم سيد نفسه لا يمدّ يده إلى شرق أو غرب أو شمال

أو جنوب، وإنما يستعمل في مسكنه وملبسه ومأكله ومشربه وحاجاته ما يصنع في نفس بلاد الإسلام، فبلاد الإسلام وحدة واحدة، والحدود الجغرافية التي جعلوها حدوداً قانونية كلها تتهاوى أمام هذه العزيمة، وبذلك يأخذ المسلمون في الارتفاع.

ويجب على الإنسان أن لا يستهين بالسلعة الصغيرة فلا يقول: إنها لا تضر البلاد أو لا تنفع الغربيين، حتى ولو كانت بيضة واحدة، ففي حديث أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان ذات يوم جالساً إذ جاء مسلم بدينار، وقال: يا رسول الله إنها صدقة عن عشرة دنانير، وجاءه مسلم بعشرة دنانير وقال: يا رسول الله إنها صدقة عن مائة دينار، وجاء مسلم ثالث بمائة دينار وقال: يا رسول الله إنها صدقة عن ألف دينار، فلما ذهبوا توجه رسول الله صلي الله عليه و اله إلى أصحابه وقال: كلهم في الأجر سواء، لأن كل واحد بذل عُشر ما عنده.

يعني: أن كل واحد سخت نفسه بأن يبذل عُشر ما يملك، فالأول بذل العشر والثاني بذل العشر والثالث بذل العشر.

وهذا الحديث تنفتح منه أبواب، فالحاجة الصغيرة كالحاجة الكبيرة كلتاهما تقويّان سلطة الشرق والغرب، وكلتاهما إذا كانت من بلادنا تُسقطان سلطة الشرق والغرب، فلا فرق بين أن يستورد إنسان بيضة واحدة من الغرب أو الشرق أو أن يستورد سيارة كبيرة قيمتها عشرون ألف دينار. أي فرق بين الأمرين؟ هذه حاجة وهذه حاجة، لا نقول لا فرق في الحجم وإنما نقول لا فرق في الواقع. إن من يشرب قطرة من الخمر حاله في الحرمة كمن يشرب كأساً منها، وإنّ من يطيع الله في إعطاء درهم للفقير وذلك حسب إمكانه كمن يطيع الله في إعطاء دينار للفقير بحسب إمكاناته أيضاً.

الأعمال لا

تقاس بالحجم والكمّ فقط، وإنما تقاس بالكيف أيضاً، وأحياناً يكون (الكيف) أهم من (الكم). وفي حديث مشهور: أن علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام) وخادمتهم فضة قدّموا في سبيل الله في ثلاثة أيام خمسة عشر قرصاً من الخبز، فنزلت فيهم سورة *هل أتى*(237)، قال تعالى: *وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنّا نَخَافُ مِن رّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً*(238).

إن الله لا يمدح خمسة عشر رغيفاً من الخبز، لأن بالإمكان أن ينفق الإنسان خمسة آلاف من رغيف الخبز، أو خمسين ألفاً أو خمسمائة ألف منها، لكن الله ينظر إلى تلك القلوب الطاهرة التي بذلت كل ما عندها من الأقراص في تلك الليالي، ولذا نرى أن نفوس هؤلاء الأطهار عليهم السلام لما ملكوا (فدك) أو لما ملكوا الحوائط السبعة في قصة طويلة أو لما ملك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام البلاد الإسلامية كافة، وهي أكبر بلاد الدنيا في ذلك اليوم... كانت لهم نفس تلك النفسية حين بذلوا الأقراص.

إنه لا فرق بين الصغير والكبير في الأمور من هذه الحيثية، سواء في المعصية أو في الطاعة، فلا يقل من يريد مقاطعة البضائع الأجنبية الاستعمارية: أية أهمية للبيض، أو أية أهمية لأمتار القماش، أو أية أهمية لسلعة صغيرة قيمتها درهم أو ربع دينار؟ لا.. إن الواجب المقاطعة الكاملة لكل السلع الصغيرة منها والكبيرة.

إن الصغائر تتجمع حتى تكون كبيرة، والشاعر يقول: (ومعظم النار من مستصغر الشر) فالشرارة الصغيرة قد تحرق مخزناً كبيراً من الخشب، أو الورق، أو النفط، أو الفراش، أو ما أشبه ذلك.

إننا نرى أن نفس المستعمرين يعملون بهذه الخطة، فإنهم لا ينظرون إلى (الكم) فقط، وإنما

ينظرون إلى (الكيف) أيضاً.. ففي كلام لأحد السياسيين من إحدى البلاد الإسلامية يقول: إن حكومة ذلك البلد عزلت رئيس البنوك، ولم يُعلم السبب؟ يقول: ذهبت أنا إلى رئيس الجمهورية وكان صديقاً لي وكان عميلاً للاستعمار البريطاني وسألته عن السبب؟

فقال رئيس الجمهورية: إن الأمر سر ولكنني سأبوح لك به، وهو أن سفير بريطانيا جاء إليّ وأبلغني بامتعاض حكومته من أن يكون هذا الدكتور في الاقتصاد رئيساً للبنك المركزي. قلت للسفير: لماذا هذا الامتعاض؟

قال: لأنه ألّف كتاباً حول البنوك غير الربوية، وأنه كيف يمكن أن تُبنى البنوك بدون ربا، قال: فقلت للسفير البريطاني حينها: إن الأمر سهل، فإني الآن أصدر الأمر إلى وزير الاقتصاد لتبديله بغيره.

لاحظوا هذا الشيء: إن سفير بريطانيا يبلّغ رئيس جمهورية بلد إسلامي والرئيس عميل لهم بطبيعة الحال امتعاض حكومته لأجل تأليف كتاب حول البنوك اللاربوية.. فالاستعمار يلاحظ حتى الصغائر في شؤونه، والصغائر تتجمع حتى تكون القطرات عيناً، والعيون نهراً، والأنهر نهراً كبيراً، والأنهر الكبار بحراً.

يجب علينا أن نتعلم من الله عز وجل حيث إنه كوّن البحار من قطرات الأمطار الصغيرة، وكذلك جرت عادة الحياة على ذلك، فالجيش الكبير الذي يفتح البلاد إنما يتكون من فرد وثان وثالث، وهكذا، وكذلك الإنسان يتكوّن من خلايا حية كل خلية حية لا تُرى بالعين المجردة. إننا يجب علينا في مقاطعتنا للبضائع الأجنبية والاكتفاء الذاتي في بلادنا أن نلاحظ صغائر الأمور أيضاً لا كبائرها فحسب.

أي أننا يجب علينا أن نقاطع الأجنبي في الألبان، ونقاطع الأجنبي في اللحوم، ونقاطع الأجنبي في البيض، وفي المواد الكمالية، وسائر الأمور الصغيرة تدريجياً، حتى نصل إلى مقاطعته في الطائرة، وفي السيارة، وفي الماكنات الزراعية، وفي المطابع، وفي المعامل، وفي

القطارات، وفي غير ذلك.

فإذا فعلنا ذلك فإنه يعني أننا أسسنا أساساً آخر من أسس الحركة الإسلامية العامة التي تنتهي إلى دولة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى.

4 تشجيع الاقتصاد الوطني

هنالك عدة مقوّمات للاكتفاء الذاتي، لابدّ للحركة الإسلامية من أن توفرها، سواء في مرحلة النضال السلبي أو الإيجابي..ومقومات الاكتفاء الذاتي عبارة عن الأمور التالية:

الأول: تشجيع البضائع الداخلية في البلاد الإسلامية، فعلى الحركة أن تهيأ تشجيعاً

بمختلف أقسامه للمنتجين الداخليين سواء أكان إنتاجاً زراعياً، أو صناعياً، أو فكرياً، أو عمرانياً، أو غير ذلك، فإن التشجيع له أثر بالغ في الكمية والكيفية للمنتجات الداخلية.

الثاني: التشجيع لمستهلك البضائع الداخلية في مقابل تركه للبضائع الأجنبية، فإن هذا المستهلك يجب أن يُشجع بمختلف الوسائل والسبل.

الثالث: جعل التعاونيات لمختلف البضائع الداخلية. مثلاً: نحتاج لتمويل ألف مليون مسلم إلى مائة ألف جمعية تعاونية على أقل تقدير في مختلف القرى والأرياف والمدن، وهذه التعاونيات تستورد البضاعة من نفس البلاد الإسلامية وتبيعها لنفس البلاد الإسلامية بسعر مناسب يوجب جلب المستهلكين إليها.

الرابع: صناديق الإقراض والاقتراض،لأجل تشجيع البضائع الداخلية وترك البضائع الأجنبية، فكثير من الزرّاع، والصناعيين، والمثقفين، والمخترعين وغيرهم يحتاجون إلى قروض وأموال ليتمكنوا من القيام بإنتاج البضائع الداخلية، فإذا كانت هنالك صناديق إقراض، وصناديق إعطاء رأس المال للذين ينتجون البضائع إذا كانوا فقراء، وتتكون هذه الصناديق من الزكاة وما أشبه نشطت البضائع الوطنية، وسارت إلى الأمام.

الخامس: التنسيق، يعني أن تكون مكاتب للتنسيق بين المنتج والمستهلك وصناديق الاقتراض والتعاونيات،فإن التنسيق يوجب أن تسير الأمور بسرعة مطلوبة وبنوعية حسنة.

السادس: الدعاية الكافية لأجل هذا الشيء في الكتب والمجلات والجرائد والإذاعة والتلفزيون والملصقات واللافتات وغير ذلك، فإن للدعاية وبيان أن الاستعمار إنما يدخل بلادنا بأسباب

من جملتها الاقتصاد أثراً فعالاً في التفاف الناس حول هذه الحركة مما يجعل الأمور تسير على حسب ما يرام. وعبر تطبيق هذه الأمور قد خطونا خطوة في طريق الاكتفاء الذاتي.

إننا إذا راجعنا تاريخ الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام نرى أنهما كانا يهتمان بكل الأمور صغيرها وكبيرها في سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي، حتى أننا نرى أن الرسول وعلياً (عليهما وآلهما الصلاة والسلام) كانا يعملان حتى الأعمال التي نعدّها أحياناً حقيرة.. فالرسول صلي الله عليه و اله بنفسه نحر مائة ناقة في حجه وشرك علياً عليه السلام فيها، وكان الرسول صلي الله عليه و اله في ذلك اليوم رئيس خمس دول حسب الحدود الجغرافية الحالية وهي: الحجاز، والبحرين، والكويت، واليمن الجنوبي، واليمن الشمالي.

لماذا يفعل الرسول صلي الله عليه و اله هذا الشيء، ومعه على بعض التواريخ مائة وثمانون ألف إنسان حجّوا معه؟ إن الرسول صلي الله عليه و اله كان يريد تعليم المسلمين الاكتفاء الذاتي بأن يقوم المسلم بكل شؤونه.

ويذكر أبو الفتوح الرازي في تفسيره المعروف حول زواج فاطمة الزهراء عليها السلام من علي عليه السلام أنه لما تقرر الزواج أهدى بعض الصحابة إلى الرسول صلي الله عليه و اله: إبلاً، وأهدى بعضهم للرسول صلي الله عليه و اله بقراً، وأهدى بعضهم للرسول صلي الله عليه و اله شاة، حتى اجتمع منها الشيء الكثير. فلما جن الليل وكان ذلك قبل العرس قال الرسول صلي الله عليه و اله لعلي عليه السلام: يا علي لنشترك في تهيئة هذه اللحوم لإطعام المسلمين غداً، فتحمّل الرسول صلي الله عليه و اله مسؤولية تقطيع اللحوم، وتحمّل علي عليه السلام مسؤولية

ذبح ونحر تلك الأنعام، فكان علي عليه السلام يذبح الأبقار والشياه وينحر الإبل ويسلخ تلك الحيوانات، والرسول صلي الله عليه و اله يقطع اللحم قطعة قطعة، واشتغلا بذلك من أول الليل إلى الصباح، مما يدل على أن الإبل والشياه والأبقار كانت كثيرة، ثم أطعماها الناس.

على ماذا يدل هذا الحديث، مع العلم أن الرسول صلي الله عليه و اله كانت له جمهرة كبيرة من المسلمين، مستعدّون لمساعدته في كل شيء؟ وفي بعض التواريخ: إن الذين كانوا في الصُفَّة كانوا زهاء أربعمائة إنسان، وكان هؤلاء بمنزلة الجيش الاحتياطي للرسول صلي الله عليه و اله في الشؤون: شؤون الدولة التي كان الرسول صلي الله عليه و اله مكلّفاً بها، وشؤون الدين الذي أنزل على الرسول صلي الله عليه و اله وأمر بتبليغه.

ومع كل ذلك يقوم الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام مع كثرة مشاغلهما بالذبح والسلخ وتقطيع اللحم من أول الليل إلى الصباح!

إن الرسول صلي الله عليه و اله يريد أن يعلّمنا كيف يجب أن نكتفي بما عندنا وأن نهيئ أنفسنا صناعياً، زراعياً، تجارياً، عمرانياً.. لكي نقوم بكل شؤوننا.

ومن المشهور لدى الخاصة والعامة، وتتناقله الكتب والمنابر: أن الرسول صلي الله عليه و اله هو وأصحابه قاموا ببناء المسجد وببناء الدور حول المسجد في قصة طويلة معروفة، وفي كتب الحديث: أن علياً عليه السلام غرس مائة ألف نخلة! ولنفرض أن بين كل نخلة ونخلة لابد من مسافة مترين، فمعنى ذلك أن علياً عليه السلام زرع مائتي كيلومتر من الأرض، وتعلمون أن مائتي كيلومتر مربع من الأرض كم يكون مساعداً لتقوية الاقتصاد، ورفع المستوى الزراعي، ثم لنفرض أن علياً عليه السلام كان يزرع كل يوم

خمسين نخلة، فمعنى ذلك أن العمل يستغرق ست سنوات على أقل تقدير في أيام إبعاد علي عليه السلام عن الخلافة.

إن معنى كل ذلك أن الرسول صلي الله عليه و اله وكذلك سائر الأئمة الطاهرين عليهم السلام أرادوا أن يعلّمونا الاكتفاء الذاتي حتى لا نكون محتاجين إلى الأجانب، إلى الشرق والغرب، وإلى المستعمرين. فالمهم إذن أن نحقق الاكتفاء الذاتي، بالطرق السلبية: بالمقاطعة للبضائع الأجنبية، وبالطرق الإيجابية: بأن نسلح أنفسنا بالسلاح الذي يوجب نموّ زراعتنا وصناعتنا وتجارتنا وصيدنا وحيازتنا للمباحات وعمراننا، وغير ذلك.

واللازم أن تشكل الحركة الجماهيرية التي تريد الوصول إلى حكومة ألف مليون مسلم حركة في داخلها لأجل تشجيع المنتج والمستهلك وصناديق القرضة الحسنة وما أشبه، ولأجل تثقيف الجماهير بهذه الأمور، ولأجل التنسيق أيضاً.. مما ينتهي إلى استغنائنا عن الغرب وعن الشرق. وإذا استغنينا عنهم بنينا بناءً شامخاً يصل إن شاء الله مع سائر الأمور التي ذكرناها، وسنذكرها إلى دولة ألف مليون مسلم، وما ذلك على الله بعزيز.

5 كل شيء من أجل الاكتفاء الذاتي

لابد من استغلال كل شيء، حتى أقل الأشياء وأحقرها، وحتى الزمان الترفيهي له الأثر في التقدم إذا تمكنا من استغلاله، وإن الأمور الصغيرة تتجمع حتى تكون أموراً كبيرة.. وهذه سنة الحياة في كل شؤونها المادية والمعنوية، وهناك حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: (صبّ فضل الماء من الإسراف) (239) فإذا كان صب فضل الماء من الإسراف كان معناه أن الفضل يجب أن يُحتفظ به.

وفي حديث آخر: أن الإمام الرضا عليه السلام رأى أحد خدمه يأكل بعض الفاكهة ويقذف ببعضها الآخر الملتصق بالنواة فقال: (سبحان الله إن استغنيتم أنتم ففي الناس فقراء) يعني أن هذا المقدار يسمى إسرافاً. حراماً أو مكروهاً..

فعلى الإنسان أن لا يلاحظ أنه يملك مالاً كثيراً، وإنما يلاحظ أن في الناس معوزين مادياً واقتصادياً، وهكذا في سائر الشؤون.

في الحرب العالمية الثانية خطب هتلر ذلك الرجل الدكتاتور المعروف الذي أفسد بلاده وأفسد العالم كما هو شأن كل دكتاتور في أعضاء بلاده خطاباً حاراً، وألقى باللائمة على النواب وأعضاء الحزب وقال: لماذا تستورد بلادنا بعض البضائع مثل موسى الحلاقة من بلد آخر؟ ولماذا لا تكون بلادنا تنتج حتى الموسى؟ ودام الخطاب كما ذكرت الصحف ساعة ونصفاً، وكل الخطاب تهجّم على المجلس وعلى أعضاء حزبه حول هذا الشيء الذي ربما يعتبر تافهاً، ولم يكن تافهاً في الحقيقة. لاشك أن هتلر كان دكتاتوراً وكان بعيداً عن الموازين العقلائية ولكن كلمته هذه كانت صحيحة، وفي الأحاديث: (خذ الحكمة ولو من غير أهلها)(240) و(الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أين وجدها).

وقد قيل: إن أحد كبار الشخصيات سُئل: ممن تعلمت الأدب؟ قال: (ممن لا أدب له) يعني: أنه لا يمنع الإنسان أن يأخذ الحكمة ممن لا أدب له، فإذا كان هتلر يهاجم بلاده وأعضاء حزبه ومجلسه لأنهم يستوردون الموسى، فماذا يقال: في بلاد الإسلام وهي تستورد كل شيء من الإبرة إلى الطائرة؟!

نحن نرى أن البلاد الصناعية أنزلت البشر على القمر، ونحن نستورد حتى البيض، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على البون الشاسع بيننا وبينهم، ويدل على أننا مستعمرون اقتصادياً، ومن المعروف أن الاستعمار الاقتصادي يلازم الاستعمار الثقافي والاستعمار السياسي، وأحياناً الاستعمار العسكري، لأن الاستعمار وحدة لا تتجزأ.

وعلى أي حال، فالواجب أن نستغلّ لأجل الاكتفاء الذاتي جميع مواردنا حتى الصغيرة وحتى أوقات الترفيه والفراغ، وقد جاء قبل سنوات في تقرير: أن الإسرائيليين يخرجون

في أيام عيد الشجرة في أول الربيع إلى خارج بلدهم الذي اغتصبوه، وكل إنسان من رئيس الوزراء إلى الطفل المميز الذي يتمكن من العمل يزرع شجرة، لأن الحكومة ووزارة الزراعة تهيئ قبل ذلك الأراضي وتهيئ الفسائل والأشجار الصغيرة على عدد الذين يخرجون، وقد جاء في تقرير: أنه قد زرعت في يوم عيد الشجرة في إحدى السنين مليون شجرة.. إنهم حتى في أيام أعيادهم وترفيههم لا يتركون الأمر بلا منفعة.

إن على الإنسان الذي يريد التقدم في الحياة تقدماً صناعياً وزراعياً وإيمانياً وخُلقياً و.. أن يستغل أيام عطله، لا أن يشغل نفسه بالعبث والاعتباط.

وقد جاء أيضاً في مجلة قبل سنوات: إن إحدى الكنائس في البلاد الغربية التي أعلنت إفلاسها فكرت في خطة تستردّ معها اقتصادياتها، فتوصلت إلى أن تستأجر جماعة من العمال ليجمعوا لها النفايات، فجمعوا النفايات خلال سنة، وبدّلوها إلى مال ونقد، فكان الربح أكثر من ثلاثة ملايين دولار!، فإذا كانت النفايات تعطي هذه النتيجة، فكيف بغير النفايات؟.

فإذا تمكنا أن نستغل نحن فرصتنا الزمنية وفرصتنا المادية وطاقاتنا البشرية وغير البشرية الكبيرة والصغيرة والترفيهية وغير الترفيهية، نتمكن عندها من التقدم والاكتفاء الذاتي.

إني أذكر أنه قبل أربعين سنة حين كنا في العراق ولم تكن دولة إسرائيل الغاصبة قد قامت بعد وكان بعض اليهود حينئذٍ يسكنون في العراق كان بعضهم يأتي أيام الخميس إلى أزقتنا وشوارعنا ويشترون بالمال الزهيد طبعاً كل شيء رخيص وكل شيء تالف، وكل شيء خلق حتى الحصير الخلق والقنينة المكسّرة.. فسألناهم في ذلك اليوم: ماذا تصنعون بهذه الأمور؟ قالوا: إنهم يفرغونها في المعامل، ويصنعون منها أدوات جديدة وأشياءً حسنة، وحتى العظام كانت تشترى لأنها تستعمل لأجل السكر والقند

وما أشبه.

وعلى كل حال، فالواجب علينا أن نستعمل كل فرصنا، كل طاقاتنا، كل إمكانياتنا، كل صغيرة وكبيرة من أعمالنا لأجل التقدم والاكتفاء الذاتي.

وقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان في ذات يوم يأكل التمر بيمينه، وكان إذا أكل التمر وضع النواة في كفه اليسرى والناس ينظرون ويتعجبون: لماذا يحتفظ بالنواة؟ وإذا به صلي الله عليه و اله يرى عنزة تسير من بعيد، فأشار إليها الرسول صلي الله عليه و اله أن هلمّي! فجاءت العنزة وأخذ رسول الله صلي الله عليه و اله يفتح كفه اليسرى أمامها، فأخذت تأكل النوى من يد رسول الله صلي الله عليه و اله.. كان بإمكان الرسول صلي الله عليه و اله قذف النواة، لكن الرسول صلي الله عليه و اله راعى النظافة من ناحية، وراعى أيضاً عدم الإسراف حتى في نواة التمر.

فيجب علينا إذا أردنا التقدم أن نستغلّ أوقاتنا وفرصنا وحتى عطلنا وأيام ترفيهنا، وأن نستغل حتى صغائر أمورنا لأجل أن نتقدم اقتصادياً ونكتفي ذاتياً، في كل الشؤون. والله المسؤول أن يوفقنا لذلك، إنه هو الموفق المعين.

6 الاكتفاء الذاتي في مختلف الأبعاد

لا نستطيع أن نحقق الاكتفاء الذاتي لو اقتصرنا على أبعاد محدودة وضيقة.. بل لابد أن يكون جهاد (الاكتفاء الذاتي) شاملاً لكل الأبعاد، فعلى القائمين بالحركة الإسلامية العامة التي تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم (إن شاء الله) أن يعمموا الاكتفاء في مختلف أبعاد حياة الإنسان، من المأكل، المشرب، الملبس، المسكن، المركب، الزواج، الدواء، الثقافة، الزراعة، الصناعة، وغير ذلك، فاللازم على الحركة مراعاة كون المسلمين مكتفين في كل الأبعاد، مثلاً: بالنسبة إلى الزواج يجب أن يعمل الرجل وأن تعمل المرأة كلاهما، لأن المرأة تتصور أنها ربة بيت وخلقت

للاستهلاك وإنجاب الولد وتربيته فقط.

والزواج يجب أن يكون أولاً بسيطاً غاية البساطة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله في حديث شريف (خير نساء أمتي أقلهنّ مهراً)(241)، فالمهر كلما كان أقل كان الزواج أفضل، وقد ذكرنا أنه يظهر من بعض الأحاديث أن مهر أزواج رسول الله صلي الله عليه و اله كلهن، ومهر بنت رسول الله فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كان معادلاً لثمانية عشر مثقالاً من الفضة.

وكذلك بالنسبة إلى بساطة حاجيات الزواج فلا ضرورة للتجمّل وشراء البضائع الأجنبية وتكديسها في الدور، كما لا ضرورة للبيت المستقل للزوجين، بل يستطيعان العيش في بيت والد الزوج مثلاً، وكذلك نعمل كما كان يعمل آباؤنا السابقون حيث إن الزواج كان بسيطاً، والزواج البسيط سهل بطبيعة الحال، وينبغي أن يكون جهاز الزواج من صنع الوطن الإسلامي الكبير.

أما الثلاجة والغسالة والتلفزيون والأجهزة الأجنبية الخارجية فإنها كلها تجملات كمالية لا لزوم لها، والذين يجنحون إلى هذه التجملات هم الذين لا يتمكنون من التقدم إلى الأمام، فهم أسراء التقاليد، وأسراء الأعراف المنحرفة، وأسراء العادات الأجنبية.. وهؤلاء لا يتمكنون من التقدم والنهوض بالإسلام إلى الأمام وإقامة حكومة ألف مليون مسلم.

إذن فالزواج يجب أن يكون ذا اكتفاء ذاتي بسيط إلى أبعد حد ممكن. ينقل والدي رحمة الله عليه أن السيد عبد الهادي الشيرازي رحمة الله عليه الذي أصبح فيما بعد المرجع الأعلى للمسلمين لما تزوج كان الفرق بين ما قبل ليلة الزواج وما بعد ليلة الزواج أن الزوجة هُيأ لها ثوب جديد واحد وفراش جديد، وانتقلت الزوجة من بيتها إلى بيت السيد عبد الهادي الشيرازي (رضوان الله عليه)، وعاشا سعيدين وارتفعا في مدارج الكمال (وهي كانت أخت والدي). فالبساطة توجب نوعاً

من الاكتفاء الذاتي، وهذا بعد من أبعاد الاكتفاء.

وبعد آخر هو الاكتفاء في الدواء، ففي بلادنا الإسلامية أكداس من الأدوية المختلفة من النباتات والأعشاب والمواد المعدنية والحيوانية ونحو ذلك. فلماذا إذن نحتاج إلى استيراد مختلف الأدوية من هذا البلد الأجنبي، أو من ذلك البلد، فاللازم علينا أن نكتفي بعقاقير تصنع في بلادنا، مثل الأدوية السابقة والتي جربناها من أول الإسلام إلى قبل قرن تقريباً، ورأينا من تلك الأدوية الشفاء الكامل بإذن الله سبحانه وتعالى.

مثلاً: في إيران وحدها أكثر من ثلاثة آلاف قسم من النباتات الدوائية، وفي مصر والباكستان وأفغانستان وسوريا والعراق وغيرها أدوية كثيرة، ونحن نتمكن أن نستفيد منها. والطب الإسلامي الذي هو مزيج من الطب اليوناني والفارسي والهندي والصيني بإضافة المعلومات الإسلامية التي أضيفت إليها طب غني إلى أبعد الحدود، وليس معنى ذلك أن نترك تقدم العلم في الطب، بل معنى ذلك أنا ما دمنا نعمل لإعادة استقلال بلادنا وإنقاذ ألف مليون مسلم يجب أن نكتفي بأقل قدر من كل شيء. فإذا اضطررنا إلى دواء أجنبي فذلك الاضطرار بقدره، كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر، وإلا فالواجب علينا أن نكتفي ونجعل الأصل الاكتفاء بالأدوية التي توجد في بلادنا، تحت نظر الأطباء المسلمين.

هذا أيضاً بعد من أبعاد الحياة، وبهذا البعد نكتفي ونستغني عن كثير من الاستيرادات من الشرق ومن الغرب، ونتخلص من أسر الشرق والغرب، وكذلك في سائر أبعاد الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، التربوية، العمرانية، وغيرها... يجب علينا أن نجعل الأصل هو الاكتفاء بما في بلادنا، ونجعل احتياجنا إلى غيرنا مثل الضرورة وأشد من الضرورة، وبذلك نتحول تدريجياً من أمة مستهلكة إلى أمة منتجة.

إن هذه الأمور تتجمع وتتجمع حتى تعطي الاكتفاء الذاتي، وقد رأيت

في حديث: أن أحد أمراء بني العباس (ولا اُسمهم خلفاء لأنهم لم يكونوا خلفاء الرسول صلي الله عليه و اله ولم يأتوا إلى الحكم باستشارة المسلمين حتى نقول إنهم خلفاء على المسلمين) في سامراء أراد أن يرهب الإمام الهادي عليه السلام فأمر جيشه أن يلقي كل واحد منهم عليقاً من التراب في مكان خاص والعليق كيس صغير يجعل على فم الفرس أو الحمار أو ما أشبه فألقى كل واحد منهم ذلك العليق في المكان المقرر. فصارت تلك الأتربة تلاً كبيراً جداً وهذا التل باق إلى الآن وهو قرب (الملوية) منذ أكثر من ألف ومائتي سنة تقريباً. إن العليق الواحد وإن لم يكن يصنع ذلك لكن تجمع العليق إلى العليق صنع ذلك، وإلى اليوم يسمي أهل سامراء ذلك التل ب (تل العليج). هذا معنى تجميع الأشياء الصغيرة التي تتحول مع مرور الزمن إلى أشياء كبيرة، حتى أنها إذا مرّ عليها ألف سنة لا تتأثر بذلك.

وفي التاريخ أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان ذات مرة في صحراء لا حطب فيها ولا أعشاب ولا أشواك، فأمر أصحابه أن يجمعوا الحطب، فقالوا: يا رسول الله لا حطب في هذه الصحراء؟ قال لهم الرسول صلي الله عليه و اله: اذهبوا واجمعوا ما تمكنتم عليه من ذلك، فذهبوا وجمعوا شيئاً كثيراً من ذلك الحطب. فقال لهم رسول الله صلي الله عليه و اله: إنما أمرتكم بذلك لتعلموا أنه هكذا تتجمع الذنوب، يعني: لا تنظروا إلى الذنب الصغير بنظر الازدراء والاحتقار، لأن الذنوب الصغيرة تتجمع وتتجمع حتى تكون جبلاً من الذنوب، وقد أمرهم بذلك ليكون لهم مثلاً محسوساً.

هكذا تتجمع الأمور الكبيرة، من العليق، أو من الحطب، أو

من قطرات المطر التي تصبح أنهاراً وبحاراً، أو من غير ذلك، فعلينا في مسألة الاكتفاء الذاتي أن نعمم الاكتفاء الذاتي بكل الأبعاد في مرافق حياتنا، لا في بعد واحد، بل من قبل الولادة حتى بعد الموت، ويجب أن نستغني عن الكماليات الموسعة في الزواج، وفي علاج المريض، وفي الزراعة فإذا لم نتمكن من استخدام الآلات الزراعية المصنعة في بلادنا الإسلامية، لابد لنا من أن نرجع إلى الأساليب البدائية في الزراعة وبذلك نستغني عن غيرنا، وهكذا لا حاجة إلى الكماليات في بيوتنا، وفي ملابسنا، وفي فراشنا، وفي سائر أجهزة حياتنا.

مثلاً: لا نحتاج إلى أن نستورد السيارات من البلاد الأجنبية للسفر وللنقل وما أشبه، وإنما يجب علينا أن نعمل حسب الاكتفاء الذاتي(242). نساؤنا يلزم أن يغزلن في البيوت وينسجن بأنفسهن، ومن الممكن صنع السجاد في البيوت وحتى بمساعدة الأطفال إذا لم يكن ذلك شاقاً عليهم، وكذلك يمكن أن نربي الدواجن في بيوتنا، فمثلاً القرية التي تحتوي على ألف دار إذا كان في كل بيت منها شاة فهذه الشياه تتوالد، تعطي الصوف، تعطي اللبن، تعطي مشتقات اللبن، من الزبد والدهن وغير ذلك، وعندها فكم سيكون الاكتفاء في هذه القرية الصغيرة بالنسبة إلى اللحوم والشحوم، والجلود والملابس التي تصنع من الصوف وغير ذلك.

إذن نحن إذا صممنا على الاكتفاء الذاتي يجب أن يكون ذلك شاملاً لمختلف جوانب الحياة. فإذا فعلنا ذلك، وأخذ الله بأيدينا وعلم منا الصدق، وعملنا وسهرنا وتوكلنا على الله، واتحدنا ورصصنا الصفوف واجتمعت كلمتنا، فذلك اليوم يأتي الفرج من الله سبحانه وتعالى في منحنا حكومة ألف مليون مسلم، وما ذلك على الله بعزيز.

7 صب كل الطاقات في روافد الاقتصاد الإسلامي

صب كل الطاقات السلبية والإيجابية المرتبطة بالشؤون الاقتصادية في قنوات الوطن. ومرادنا

بالوطن: الوطن الإسلامي، أي كل الأرض الإسلامية، فإنها وطن واحد، والحدود والقيود والحواجز كلها باطلة، ويجب أن تزال، ومعنى أن نصب كل الطاقات الاقتصادية في الوطن الإسلامي هو أن لا نصرف هذه الطاقات في غيره.

مثلاً: الاصطياف يجب أن يكون في البلاد الإسلامية، فإذا أراد الإنسان الاصطياف لا يذهب إلى بلاد الشرق أو الغرب، وإنما يذهب مثلاً إلى شمال العراق أو إلى شمال إيران، أو إلى الأماكن الجميلة من سائر البلاد الإسلامية،لا أن يذهب إلى البلاد الأجنبية، فإن هذا يسبب تشجيع الاقتصاد الأجنبي، وتحطيم الاقتصاد الإسلامي.

وكذلك إذا أراد أن يضع نقوده في البنك فيلزم أن يضعها في بنك إسلامي مرتبط بالاقتصاد الإسلامي، لا بالاقتصاد الأجنبي، ولا في البنوك الربوية التي تجري عليها القوانين الغربية، فإن البنوك الربوية كلها تصب في مجرى الاقتصاد الغربي والشرقي العالميين. أما البنوك الوطنية الإسلامية المستقلة فإنها تصب طبيعياً في كيس المسلمين أنفسهم، وكذلك إذا أردنا العلاج فلنذهب إلى البلاد الإسلامية، فلا حاجة للذهاب إلى لندن، أو نيويورك، أو إسبانيا، أو يوغسلافيا أو نحوها، فإن الطب عندنا لا بأس به، حتى إذا قلنا إنه لا يصل إلى مستوى تطور الطب في سائر البلاد، فهل معنى ذلك أن نترك اقتصادنا وطبنا ونقاطع أنفسنا ونذهب إلى بلاد الأجانب ونعطي لهم اعتباراً ومالاً ونستورد لبلادنا الاستعمار والاستغلال، وما أشبه؟!

ويلزم أيضاً التشجيع للاقتصاد الوطني، للعمال الوطنيين، للشركات الوطنية الإسلامية، فإذا كان عندنا مثلاً مشروع لبناء مطار، أو بناء محطات قطار، أو بناء كراجات، أو نصب معامل، أو ما أشبه، واحتجنا إلى خبراء فلنستورد الخبراء من البلاد الإسلامية، لا أن نستورد المستشارين والخبراء من البلاد الأجنبية، أو نأتي بالشركات الاستعمارية لتبني في بلادنا، فإن كل ذلك استعمار

واستغلال وتحطيم للاقتصاد الوطني وتقوية للاقتصاد الأجنبي، وهكذا بالنسبة إلى مشاريع أخرى وهي كثيرة وكثيرة جداً.

أما ما قد يقال من أن بعض تلك الأمور الأجنبية أفضل مما في بلادنا، فإنا على تقدير التسليم نقول: هل إذا كان ولدك غير جميل الشكل وولد الجار جميل الشكل تبدل ولدك بولده؟ كلا، فأنت تعيش مع ولدك وتحب ولدك، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يجب مراعاة كل الأمور، فهل ذهابنا إلى تلك البلاد وصبّ اقتصادنا ودعايتنا وطاقاتنا الأخرى فيها أفضل؟ أو شفاء مريض أو بناء مطار أو بناء محطة قطار أو ما أشبه على غير المستوى المطلوب؟ إننا يجب أن ننظر إلى المجموع لا إلى بعض الأمور فقط، فهل من الأفضل أن تبقى إسرائيل في بلادنا وتقتل أبناءنا وتستحيي نساءنا وتهتك أعراضنا وتهان كرامة كل البلاد الإسلامية؟ أم أن نعيش أحراراً مستقلين مع تحمل بعض الصعوبات؟

فإذا لاحظنا هذا الشيء وقارناه بتلك الأمور الجزئية نقول: إنه يجب علينا أن نقاطع الغرب والشرق حتى لا يستغل الغرب فلسطين ولا يستغل الشرق أفغانستان و... في قبال الأمور الطفيفة الجزئية التي نتمسك بها، وقاعدة (الأهم والمهم) قاعدة عقلائية يجب اتباعها.

لقد ذكر بعض الكبار من مشايخنا أن الإمام الثائر الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله عليه) الذي انتزع استقلال العراق من البريطانيين، رغم قلة عُدته وعدده وكثرة عدة البريطانيين، كان قد حرّم ركوب السيارة. وكان يقول: إن ركوبكم السيارة يشجع استيراد السيارات الأجنبية إلى العراق من بريطانيا، فمعنى ذلك تشجيع البريطانيين اقتصادياً وتجارياً ومالياً في وقت هم يحاربوننا فيه ويقتلوننا ويسفكون دماءنا ويستحلون أعراضنا وبلادنا، ولهذا لم يكن المتدينون يركبون السيارة في أيام الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي إلا من سوّلت

له نفسه من عملاء الاستعمار أو الذين تأثروا بالدعايات الاستعمارية.

وقصة تحريم الإمام المجدد السيد محمد حسن الشيرازي رحمة الله عليه التنباك لأجل هذه الغاية مشهور، وكان يقول: إن استعملتم التنباك تقوّى الاستعمار في إيران، فقاطعوا التنباك حتى نطرد الاستعمار من إيران، وقد استجابت جماهير إيران لندائه فقاطعت التنباك مقاطعة غريبة، حتى نقل التاريخ أنهم أغلقوا المحلات التجارية في أصفهان وشيراز وتبريز وطهران وغيرها مدة ستة أشهر، يعني أن الناس مدة ستة أشهر كانوا في إضراب ومظاهرات وما أشبه، حتى تمكنوا من طرد الاستعمار البريطاني من بلاد إيران، وعادت إيران بذلك إلى استقلالها، حيث إن الإنجليز أرادوا عن طريق التجارة الاستيلاء على إيران، كما استولوا بواسطة التجارة أيضاً على الهند تحت عنوان (الشركة الشرقية الهندية البريطانية) وكذلك أرادوا استغلال العراق بواسطة (شركة البصرة البريطانية) حيث فتحوا شركة في البصرة، وكان ذلك منفذ استعمارهم إلى البلاد.

ومن قبيل ذلك قصص أخرى كثيرة من جملتها: أنه لما جاء المستعمرون ب(بهلوي الأول) إلى إيران وهو رجل أرمني من كرجستان روسيا ليس بمسلم ولا إيراني، وإنما أظهر الإسلام كذباً وخداعاً قاطعه العلماء وقاطعوا كل شيء مرتبط به، حتى أن أحد العلماء الكبار في تبريز وهو آية الله الشيخ صادق (رحمة الله تعالى عليه) صاحب كتاب (المشتق) وغيره، وكان مرجع تقليد في ذلك اليوم وزعيم الحوزة العلمية وزعيم المسلمين في نواحي أذربيجان حرّم الذهاب إلى الحج حتى للمستطيع، وعلله بأن الذهاب إلى الحج معناه أن بهلوي سيحكم سيطرته على الشعب بواسطة قوانين الجواز والتذكرة، ولا يجوز للمسلم أن يضع القيود على يديه ورجليه، فإن الله سبحانه وتعالى قد أنقذ المسلمين من الأغلال في قوله تعالى: *وَيَضَعُ عَنْهُمْ

إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ*(243).

وكان المستعمرون آنئذ قد خططوا لتحكيم سيطرة البهلوي على إيران من خلال التذكرة والجنسية والهوية وما أشبه. فحرم الشيخ الصادق آغا التبريزي (رضوان الله تعالى عليه) أن يرتبط المسلمون بالاستعمار البريطاني والسلطة البهلوية ولو بالذهاب إلى الحج، وقال: إن المسألة من باب (الأهم والمهم)، فالذهاب إلى الحج مهم وواجب، أما تقوية الاستعمار وتقوية عملائه في البلاد فهو من أعظم المحرمات، وهذا المحرم يوجب سقوط ذلك الواجب وهو الحج، كما هو معروف عند فقهاء الإسلام في قضايا الأهم والمهم. إلى هذا الحد كان هؤلاء العلماء الأحرار الأبرار الذين كانت لهم نظرة بعيدة يحرمون تقوية الاستعمار اقتصادياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو قانونياً، أو غير ذلك.

وقد نقل: أن في إحدى العواصم الإسلامية تعيش أقلية شاذة من الأرامنة وهم يشتغلون في مختلف الأشغال التجارية، لكنهم لا يشترون بضائعهم من غيرهم، فهؤلاء الأرامنة المبعثرون في تلك العاصمة ونسبتهم واحد بالمائة من السكان، إذا احتاجوا شيئاً يأتون إلى دكان صديقهم ولو قطعوا عشرين أو ثلاثين كيلو متراً ولا يشترون من المسلم الذي هو في جوارهم، ولما سئلوا عن ذلك؟ أجابوا، صحيح أن هذا العمل يوجب صرف المال لأجل الذهاب والرواح وهذه خسارة، ولكن تقوية أنفسنا وصب اقتصادنا في كيسنا أهم من كل ذلك. إن هذا المنطق وهذه الفلسفة القائمة على تقوية الاقتصاد الوطني للأمة هي من ضمانات تحقيق الاكتفاء الذاتي العام، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لمثل هذا العمل وهو الموفق المؤيد المستعان.

8 من الاكتفاء الذاتي جمع الحركة شمل نفسها

لكي تحقق الحركة الإسلامية العالمية أهدافها يلزم أن تقوي ذاتها داخلياً، وأن يلمّ بعضهم شمل بعض، والتعبير القرآني الحكيم يقول في هذا الصدد: *وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ*(244).

إن في الحركة: عاطلين، ومرضى، وعوانس، وأيتام،

وأرامل، ومسجونين، ومشردين، ومضطهدين، و... فاللازم أن تشكل لهذه الأمور نقابات وجمعيات وهيئات، مثلاً تشكل نقابة الأطباء لأجل علاج ذوي الشهداء والمسجونين والقائمين بالحركة مجاناً في سبيل الله ولأجل تسهيل أمورهم. وكذلك تشكل نقابة من المحامين لأجل الدفاع عن المظلومين والمضطهدين والمسجونين والمشردين مجاناً في سبيل الله.

وتشكل جمعية لأجل خدمة الأرامل والأيتام والعوانس وتزويج العزاب وتؤسس المدارس لأجل الأيتام من الذين مات أو استشهد أو سجن آباؤهم وإخوانهم وأزواجهم، فإن ذلك يشد من الحركة ويجعل القائمين بها مطمئنين بأن وراء ظهورهم من يقوم بشؤونهم في ساعة الشدة. ونقابة أخرى من أجل العاطلين، فإنه كثيراً ما يُطرد المجاهدون من الوظيفة أو من العمل أو من المهنة، وهناك من يستصعب العمل في الحركة خوفاً من ذلك، أو لا يريد جر مشكلة إلى نفسه، فإذا كان الأمر كذلك، رأى هذا الشخص نفسه بين أن ينقطع عن المعيشة ليخدم الحركة الإسلامية العامة، وبين أن يترك الحركة ويذهب إلى العمل أو إلى المدرسة أو ما أشبه. فإذا كان هنالك رصيد من جمعية أو نقابة لأجل تشغيل العاطلين، كان ذلك محفزاً له على السير إلى الأمام مهما كلف الأمر، فإنه يطمئن بأنه إذا فقد العمل فهناك من يعينه. ونقابة أيضاً للمحالين على التقاعد والذين لا يجدون عملاً والذين طالت أعمارهم ولا يتمكنون من العمل وليس لهم رصيد يمكن بسببه من إعاشة أنفسهم وذويهم. ولقد كانت النقابة في الأديان السابقة المنزلة من قبل الله تعالى، ونعم الشيء النقابة، ففي الآية الكريمة: *وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً*(245).

وفي الإسلام كانت (نقابة العلويين) و(الطالبيين) منذ ألف سنة وأكثر.. والشريف الناصر والسيد المرتضى (رضوان الله تعالى عليهما) كانا في زمانهما نقيبين للعلويين والطالبيين يجمعان شملهم

ويردان شاردهم ويقومان بحوائجهم ويؤدبان من شذّ منهم..

وبعد ذلك كان أولاد السيد ابن طاووس (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) يقومون بأمر النقابة كابراً عن كابر. حتى في أشد أزمات البلاد الإسلامية كغزو المغول، فالسيد ابن طاووس ذهب إلى بغداد وتحمل مسؤولية نقابة العلويين في زمن المغول سنوات عدّة، وقد لاقى من المشكلات الشيء الكثير، وأولها الغربة، لأنه كان يعيش في الحلة، فلاقى الصعوبة وواجه الحكام الذين كانوا ضد الإسلام ببغداد، ونحن نرى تاريخ رسول الله صلي الله عليه و اله وأحوال علي عليه السلام والأئمة الطاهرين عليهم السلام حيث كانوا يقومون بهذه المهمات.

فنحن إذا أردنا الاكتفاء الذاتي يجب أن تقوم حركة الإسلام بكل ذلك حتى نتمكن من التقدم. وقد ورد في حديث: أن رسول الله صلي الله عليه و اله جاءه إنسان عاطل فأعطاه درهمين فاشترى الرجل بالدرهمين حبلاً وفأساً وذهب إلى الصحراء واحتطب ورجع إلى المدينة المنورة وباع الحطب، وهكذا اشتغل بفضله صلي الله عليه و اله.. وهكذا عمل في الأيام التالية حتى أصبح كاسباً محترماً. بهذه الطريقة كان الرسول صلي الله عليه و اله يجمع الناس ويوجههم إلى مصالح دينهم ودنياهم. كما أن الرسول صلي الله عليه و اله كان يحث على تزويج النساء العوانس والأرامل، ويؤكد على ذلك تأكيداً مبرماً، حتى أن الصحابيات كلهن تزوجن كما تحدثنا التواريخ.

وقد ورد: أن امرأة قامت في مسجد رسول الله صلي الله عليه و اله والمسجد في وقت الصلاة كان يحتوي على الرجال والنساء، والنساء يقفن خلف الرجال، وبعد ذلك يجلس الجميع ويستمعون إلى مواعظ رسول الله صلي الله عليه و اله وقالت: يا رسول الله إني امرأة لا زوج

لي وأريد الزواج؟ فتوجه رسول الله صلي الله عليه و اله إلى أصحابه وقال: من يتزوج هذه المرأة؟ فقام رجل من المسلمين وقال: أنا يا رسول الله. فقال الرسول صلي الله عليه و اله له: وماذا عندك من المهر؟ قال الرجل: لا أملك شيئاً. قال له الرسول صلي الله عليه و اله: هل تعرف بعض سور القرآن؟ قال: نعم يا رسول الله. قال صلي الله عليه و اله: زوجت هذه المرأة وجعلت مهرها تعليمك سورة من القرآن لها، وقبل الزوجان وتم الزواج. هكذا كان رسول الله صلي الله عليه و اله يجمع شمل أصحابه ويقضي حوائجهم ويدير شؤونهم ويرشدهم إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، ولهذا التفّت الأمم حول رسول الله صلي الله عليه و اله وتحت راية الإسلام، ونرى الناس إلى اليوم يحنّون إلى الرسول صلي الله عليه و اله لتلك الأخلاق الفاضلة ولتلك الخدمات الجليلة.

وبالنسبة إلى اليتيم كان الرسول صلي الله عليه و اله يقول: (خير بيوتكم بيت فيه يتيم)(246) وكان دائماً في بيته يتيم كما يظهر من بعض الأحاديث، وحتى أنه لما مات ذات مرة يتيم كان في بيته صلي الله عليه و اله رأى المسلمون النبي كاسف البال، مكسور الخاطر، قالوا: يا رسول الله الأيتام كثيرون، وسنأتي إليك بيتيم آخر، قال الرسول صلي الله عليه و اله: نعم لكن كان في خدمة هذا اليتيم أجر كبير لأنه كان سيئ الخلق وكان يؤذيني (أي لا يعلم أن يكون هناك يتيم آخر مثل ذلك اليتيم!). وهكذا كان علي عليه السلام بالنسبة إلى مختلف الشؤون، وقد ورد: أنه عليه السلام دخل ذات مرة بيت يتيم فلما رأى اليتيم أخذ يبكي وأنشد هذين البيتين:

كما تأوهت للأيتام في

الصغر

ما إن تأوهت من شيء رزئت به

في النائبات وفي الأسفار والحضر(247)

قد مات والدهم من كان يكفلهم

إن الحركة إذا جمعت شمل نفسها وشمل من يخصها: شمل مريضها، شمل معوّقها، شمل شيخها وشيختها، شمل أرملتها وعانسها، شمل مظلومها ومطرودها ومسجونها، ستكون موضع الوفاء والأمل، ويلتف الناس حولها، وذلك يوجب نموها من جهة (الكم) ومن جهة (الكيف). وقد ورد في حديث: أن رجلين ذهبا إلى الحج، وفي المدينة المنورة تمرض أحدهما، وكان يؤنسه صاحبه فأراد صاحبه أن يذهب إلى زيارة قبر رسول الله صلي الله عليه و اله حيث كانت مدة بقائهم في المدينة قليلة، وقد شدوا رحالهم من أماكن بعيدة والرجل مشتاق إلى زيارة قبر رسول الله صلي الله عليه و اله، فقال له المريض: لا تذهب فإني أؤنس بك، فإذا ذهبت إلى الزيارة أبقى وحدي، لكن الرجل أبى وقال: إن أجر زيارة الرسول صلي الله عليه و اله أعظم فلا أترك الزيارة وسوف أرجع إليك عن قريب. ثم ذهب إلى الزيارة وبعد مدة ذهب إلى زيارة الإمام الصادق عليه السلام ونقل له القصة، فقال له الإمام الصادق عليه السلام ما مضمونه: بقاءك مع صديقك تُمرضه وتؤنسه أفضل عند الله سبحانه وتعالى من زيارتك لقبر رسول الله صلي الله عليه و اله مع أن ثواب زيارة الرسول صلي الله عليه و اله عظيم وكبير. وهكذا كان الأئمة الأطهار عليهم السلام يرون من واجبات الصداقة أن يلم بعضهم شمل بعض. حتى الصحيح لا يذهب إلى الزيارة وإنما يبقى مع المريض، لأن ثوابه عند الله أعظم.

الحركة إذا كانت مجموعة من العطف والود والمحبة المتبادلة تنمو وتنمو وتتقدم وتتقدم حتى تكون حركة إسلامية عالمية ذات فروع في كل البلاد الإسلامية،

وتكون مقدمة لإقامة حكومة ألف مليون مسلم، نسأل الله أن يوفقنا للعلم والعمل، ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاه، ويهيئ لنا من أمره رشداً.

الأساس السادس منهج الحكم الإسلامي

1 الاستيعاب الشمولي

كان الكلام في كيفية إقامة حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله.. وقلنا: إن ذلك يتوقف على وجود حركة عامة مبنية على أسس، هي:

الأساس الأول: التوعية.

والأساس الثاني: التنظيم.

والأساس الثالث: مراعاة أصول الحركة العامة.

والأساس الرابع: السلام.

والأساس الخامس: الاكتفاء الذاتي.

والكلام الآن في الأساس السادس: وهو منهج الحكم في أبعاده المختلفة.

وهذا المنهج يجب أن يراعى أيضاً في الحركة التي هي مقدمة الحكم بإذن الله تعالى، وحديث هذه الحلقة يدور حول أن الحكم يجب أن يكون قادراً على استيعاب الناس، السريع منهم والبطيء والمتوسط، البعيد والقريب، باتجاهاتهم المختلفة ومشاربهم المتنوعة، من في البلاد جميعاً من المسلم الكافر والكتابي.

يجب أن يجعل المنهج للحكم منهجاً استيعابياً، وأن يكون جذاباً إلى أبعد حد، حتى يفكر كل فرد في أنه يستطيع أن يعيش في ظل هذا الحكم في رفاه وسعة وحرية وكرامة واطمئنان، فإذا كان الحكم هكذا وطبقت الحركة التي هي مقدمة للحكم هذا المنهج على نفسها لابد وأن يلتف الناس حول الحكم التفافاً يمكن بواسطته إنقاذهم من براثن الجهل والاستغلال والاستبدادية والدكتاتورية والاستعمار وما أشبه.

أما إذا كان الحكم بخلاف ذلك، والحركة على غير هذا المنهج، فمثل هذه الحركة لا تنجح ولا تصل إلى الحكم، ولو فرض أنها وصلت إلى الحكم في بقعة صغيرة من الأرض، فلا يمر زمان على هذا الحكم إلا وينهدم، فإن أي حكم لا تحمله القلوب لابد وأن يتهاوى بسرعة.

والمنهج الذي نريد بإذن الله تعالى إقامته هوة منهج يتمكن أن يستوعب كل المسلمين في كل بلادهم، ثم يستهوي غير

المسلمين حتى يدخلوا تحت ظل هذا الحكم وهذا النظام.

وقد ذكرنا سابقاً أن أحد الكتّاب ذكر أن رسول الله صلي الله عليه و اله إنما تمكن من جمع أولئك المتنافرين المتخالفين والمتحاربين، الذين سادت فيهم الأنانيات والقوميات والتفرقات والعصبيات.. وبذلك الوقت القصير جداً، لأنهم عرفوا أن حكم رسول الله صلي الله عليه و اله حكم استشاري عطوف، ورؤوف رحيم، يتمكن أن يعيش حتى أعدى أعدائه تحت لوائه إذا ألقى السلاح بكل خير وسلام، بل ويعيشون في سيادة ورئاسة، لأن الرسول صلي الله عليه و اله قال لهم ما مضمونه: (اشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله تكونوا ملوكاً).

وهكذا تمكن الرسول صلي الله عليه و اله من جمع تلك القبائل العربية المتناحرة ومن جمع مختلف الشعوب والأمم المتباعدة. فليست المسألة مسألة أبيض وأحمر وأصفر وأسود، ولا مسألة عربي وأعجمي وغيرهما، ولا مسألة الحدود الجغرافية المصطنعة والعرقيات والقوميات وما أشبه، وإنما هي مسألة أُخوة إسلامية عامة، ليس هذا فحسب، بل الأمر أكثر من ذلك، فحتى لو لم يكن مسلماً كان الرسول صلي الله عليه و اله يأخذه في كنفه. مثلاً: لما فتح الرسول صلي الله عليه و اله مكة، لم يسلم أهلها إلا قليل منهم، والرسول صلي الله عليه و اله لم يكره حتى واحداً منهم على الإسلام، وإنما عفا عن مسيئهم، بل وجعله يشعر أن الإسلام خير له من الجاهلية.. خير لعرضه، خير لماله، خير لنفسه، خير لسيادته.

وقد ذكر المؤرخون: أن رسول الله صلي الله عليه و اله لما فتح مكة جعل عليها حاكماً شاباً يسمى ب (عتّاب) وقرر له راتباً متواضعاً في كل يوم أربعة دراهم أي مثقالين من الفضة

تقريباً وقال له الرسول صلي الله عليه و اله: (أحسن إلى محسنهم وتجاوز عن مسيئهم)، وكان ذلك من الأركان التي سببت أن تتحول تلك البلاد التي حاربت رسول الله صلي الله عليه و اله عشرين سنة وفيها الطغاة والمردة والكفار والقتلة والمجرمون وعلى يد (عتاب) إلى بلاد متواضعة إلى أبعد حد، لأنهم علموا أنهم إذا أساءوا تجاوز عنهم، وإذا أحسنوا أحسن إليهم، وبفضل هذا الدستور لم تقم مكة ضد رسول الله صلي الله عليه و اله أبداً، مع العلم أن الرسول صلي الله عليه و اله لم يجعل فيها جيشاً ولا رجال أمن ولا إرهاباً، وإنما أسر القلوب بعطفه ولطفه ومحبته وإحسانه.

إن الواجب أن نجعل هذا المنهج أمراً عملياً، لا شعاراً فحسب، فإن كثيراً من الجمعيات والحكومات والأحزاب ترفع شعارات، لكن وراء تلك الشعارات أشياء أخر، مناقضة لتلك الشعارات... فالواجب أن نجعل منهج الحكم ودستوره: (أحسن إلى محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).

وكذلك الحركة الإسلامية، قبل الوصول إلى الحكم وبعده يجب أن تتخذ هذا الأمر شعاراً ودثاراً، أي مخبراً ومظهراً وعملاً وقولاً، حتى يطمئن الناس إلى أنهم إذا فقدوا حكماً وجدوا أفضل منه.

ومما يذكر في التاريخ أن أحد العلماء كان وزيراً لأحد الملوك الكبار، وكان هذا العالم يصرف الأموال في سبيل الأمة الإسلامية التي تعيش في ظل ذلك الملك، فوشى به الوشاة: بأن هذا العالم يصرف الأموال بلا حساب، فأحضر الملك ذلك العالم وقال له: يا فلان ماذا تفعل بالأموال؟ فانتبه الوزير العالم إلى الوشاية وقال: أيها الملك أنت شاب جميل، إذا باعوك في سوق العبيد والنخاسة، تسوى قيمتك ستين درهماً، وأنا شيخ كبير ضعيف إذا باعوني في سوق النخاسة لا تصل قيمتي إلى

أكثر من عشرين درهماً.. هذا بالنسبة إلى قيمتك وقيمتي.. وأما جنودك فرمحهم لا يعدو ذراعين، وسهمهم لا يتجاوز أكثر من مائة ذراع، فهل بالإمكان أن نقبض على أطراف هذا الحكم الواسع بقيمتك أو قيمتي أو برماحنا وسهامنا، مع كثرة الأعداء؟.. وإني هيأت لك جيشاً في الليل وآخر في النهار.. جيش الليل يرفعون أيديهم إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتوسل، وجيش النهار يدافعون عنك وعن سياستك وحكومتك ويدافعون عن الإسلام والمسلمين، وإني أصرف المال في هذين الجيشين: جيش الليل والنهار، وذلك هو سبب رسوخ الحكم وبقائه في تلك المدة الطويلة.

فاقتنع الملك بكلامه، وقربه أكثر مما كان سابقاً.

نعم، الحكم لا ينضوي تحته الناس بالسيف والسهام والحراب والسجون والمعتقلات والمشانق والسباب والتهم ونفي الناس، وإنما يلزم أن تنضوي تحت لواء الحكم: القلوب، فإذا حملت القلوب الحكم بقي راسخاً، دائماً، ثابتاً، مستقراً، مستمراً، ولم يتمكن الأعداء من زحزحته.

إن المسلمين محاطون بأعداء ألداء من صليبيين وصهاينة وشيوعيين وعملاء لهم في الداخل وفي الخارج، فهل بالإمكان أن يقام الحكم بغير منهج رسول الله صلي الله عليه و اله؟

إن من الواجب أن يتخذ الحكم هذا المنهج الذي يجمع القلوب، ويجمع المختلفين، ويخفف من عداوة الأعداء. وبذلك تقوم حكومة ألف مليون مسلم إن شاء الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.

2 العفو عما سلف

من الضروري أن يتخذ الحكم سياسة (العفو عما سلف)(248) منهجاً للحكم، فيعفو عمن كانوا يوالون الحكومات السابقة إذا أصبحوا حياديين غير مرتبطين بالأعداء.. فإن ذلك مما يسبب التفاف الناس حول الحكم الجديد.. وتأييدهم له.. وهذا الأمر لا يقتصر على ما بعد الحكم فقط.. بل إنه يشمل ما قبل الوصول إليه..

فيجب على الحركة أن تكون رحبة الصدر بالنسبة إلى المناوئين وبالنسبة إلى

الحياديين، فإن هذا أولاً أسلوب عقلي، فإن الإنسان لا يصل إلى هدفه إذا فكر في مناوأة المناوئين، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (آلة الرئاسة سعة الصدر)(249)، وسعة الصدر كناية عن سعة النفس في العفو، في الإغماض، في البذل، في الكرم، في التحمل، في الحلم، في التحلم، في المكاره والمصائب وغير ذلك.

فإذا عرف الناس أن شعار الحركة هو *عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَف*(250) وأنها لو وصلت إلى الحكم لا تتخذ من أسلوب الانتقام والتشفي منهجاً لها، فإنهم يلتفون حول هذه الحركة من ناحية، ومن ناحية ثانية لا يخاف الذين كانوا في الحكم السابق على أنفسهم حتى يضعوا العصي في عجلة الحركة لكي لا تتقدم، وإنما يفكرون في أن الحركة إذا انتصرت لا تنهب أموالهم، ولا تصادر أراضيهم وثرواتهم، ولا تزجّهم في السجن والتعذيب، ولا تقابلهم بالإساءة، ولا تعدم من يستحق الإعدام منهم، ولذا فهم يتحولون تدريجياً إلى أنصار للحركة وأنصار للحكم الإسلامي.

هناك كثير من الناس يخافون من حكم الإسلام، لأنهم لا يعرفون من الإسلام إلا العنف والعقوبات الصارمة ويقولون: إذا قامت حركة إسلامية لابد أن تنتهي إلى حكومة إسلامية وإذا جاءت الحكومة الإسلامية انتقمت منهم، ونتيجة هذه المعادلة نراهم يميلون إلى جيش الأعداء، لا حباً بالأعداء وإنما خوفاً من الإسلام! أما إذا علموا أن الحركة والحكم يسيران حسب سيرة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وإنهم لا ينتقمون منهم، وشعارهم (عفا الله عما سلف) فقد كسبت الحركة عدداً كبيراً منهم إلى جانبها.

ثم إننا لنفرض أنه يوجد الآن في بلاد الإسلام ما يقارب عشرين مليون موظف، فهؤلاء إذا لم يخافوا من الحركة ولم يخافوا من الحكم الإسلامي كم سيستفيد منهم الذين يريدون إقامة الحكومة الإسلامية؟ بينما إذا

خاف هؤلاء من الحكم الإسلامي يكونون أولاً أعداءً للحكم الإسلامي، ويقاومون بكل ما أوتوا من قوة وإمكانيات، وبطبيعة وظائفهم الحكومية تكون لهم إمكانيات كثيرة.. وثانياً يرتبطون بأعداء الحركة وأعداء الحكم الإسلامي، ويستجلبون الأعداء ضد الحركة، وأساساً لو لم نفعل ذلك فمعناه أننا خسرنا الهدف لأجل شيء بسيط في الطريق، ولذا نرى أنبياء الله (صلوات الله عليهم أجمعين) كان برنامجهم الدائم: (عفا الله عما سلف).

وقد جاء في حديث عن عيسى عليه السلام أنه أبى أن يجري الحد على مومسة، فقد كان عيسى عليه السلام يلاحظ هذا الشيء ولم يرد تعطيل حكم الله، إنما لاحظ الأهم والمهم.

وكذلك لما وصل رسول الله صلي الله عليه و اله إلى الحكم قال: (الإسلام يجبّ ما قبله) (251) يعني: إن فعل قبل ذلك سيئة، من إراقة دم، أو نهب، أو محاربة، أو انضواء تحت لواء المشركين، هؤلاء إذا أسلموا يعفى عنهم.

ولما فتح الرسول صلي الله عليه و اله مكة قيل: يا رسول الله ألا تنزل في بيتك؟ لأن الرسول صلي الله عليه و اله كان له بيت في مكة المكرمة فقال الرسول صلي الله عليه و اله: وهل لنا بيت؟ يعني: أن الرسول صلي الله عليه و اله أعرض حتى عن بيته الذي صادره الكفار قبل وصوله إلى مكة. ماذا لاحظ الرسول صلي الله عليه و اله؟

إنه صلي الله عليه و اله لاحظ أن الكافر الذي صادر بيته صلي الله عليه و اله لابد من أنه أسكن أناساً في هذا البيت إيجاراً أو قرابة أو ما أشبه، فإذا استرجع الرسول صلي الله عليه و اله هذا البيت فمعناه أنه يخرج أولئك الذين سكنوا هذه الدار،

فلم يرد الرسول صلي الله عليه و اله وهو صاحب الحق ذلك حتى لا يقول البعض: إن الرسول صلي الله عليه و اله لما سيطر على مكة كنا ساكنين في هذا البيت، فأخرجنا من مسكننا ومأوانا.

هكذا كان يفكر صلي الله عليه و اله حسب ما يظهر من عمله الشريف. إن هذا من عقل الرسول صلي الله عليه و اله الكبير المتخذ منهاجه من الله سبحانه وتعالى.

وهكذا فعل علي عليه السلام لما بويع بالخلافة فإنه لم يسترجع حتى (فدك) التي كانت ملكاً شخصياً له ولأولاده بالإرث من فاطمة الزهراء عليها السلام مع أن فدكاً في ذلك اليوم كانت تحت قدرة الإمام (عليه الصلاة والسلام)، وقيل له في ذلك بأن يسترجع فدك، فأجاب بأنه لا حاجة له في فدك وغيرها، في قصة مذكورة في نهج البلاغة. إنني أرى بأن الإمام عليه السلام كان ينظر من هذا المنظار النبوي.

ثم إنه عليه السلام لم يكن من أهل الدنيا حتى يحتاج إلى أثاث ثمين ودور وقصور ودواب ومراكب وغير ذلك، أنه كان ينظر بعيداً، ينظر كيف يجمع المسلمين تحت لواء الإسلام، وكيف يأخذ بقلوب المسلمين، وأنه لو استرجع فدكاً فلابد وأن الذين كانوا ينتفعون بها في زمان عثمان هؤلاء سيحرمون من الانتفاع بها فيقولون: لو لم يكن علياً عليه السلام لكان أحسن لنا.

الحركة الإسلامية قبل الوصول إلى الحكم يجب أن تجعل منهجها *عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَف*(252) والإبقاء على ما سبق، وتسعى لتغيير المستقبل. وسنذكر في كلام قادم بعض الأحاديث الواردة في هذا الشأن، إن شاء الله تعالى.

وهنا يتبادر سؤال هل الذين قتلوا والذين نهبوا والذين أفسدوا في الأرض هؤلاء لا يأخذهم العقاب؟

الجواب:

نعم، لأن فعل الرسول صلي الله عليه و اله حجة، وفعل علي عليه السلام حجة، وفعل عيسى المسيح عليه السلام حجة، لأن فعل الأنبياء عليهم السلام حجة حتى بالنسبة إلى ما بعد مجيء الإسلام(253) كما ثبت في مسألة أصولية حول استصحاب الشرائع، وقد ذكرها الشيخ مرتضى الأنصاري (رضوان الله عليه) في الرسائل، وغير الشيخ من سائر العلماء في كتبهم الأصولية أيضاً.

إن الواجب علينا أن نسلك السبيل الأكثر يسراً لإنقاذ المسلمين من براثن المستعمرين والمستغلين، والسبيل الأسهل والأيسر والأقصر هو لمن جعل منهاج الحكم (العفو عما سلف)، وللفقيه الشرعي إذا كان قد انتخبته أكثرية الأمة، أو شورى الفقهاء الذين قلدتهم وانتخبتهم أكثرية الأمة، الحق في العفو عمن شاء، وإن رأى من الصلاح إرضاء أولياء المقتول أو المنهوب ماله أو المشرد أو المهتوك عرضه بإعطائهم شيئاً من بيت المال فهو المفروض. والله الموفق المستعان.

3 الأدلة على عفو الإسلام عما سبق

هنالك قاعدتان:

القاعدة الأولى: (إن الإسلام يجبّ ما قبله)(254).

فلو أن كافراً لم يقم الصلاة، ولم يعط الزكاة، واقترف الزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس المحترمة وما أشبه، ثم أسلم وتاب إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإسلام يجبّ عما قبله، وهذا حديث وارد عن الرسول صلي الله عليه و اله متواتر في كتب الفريقين السنة والشيعة ولهذا لم يأخذ الرسول صلي الله عليه و اله الكافر الذي أسلم بما اقترفه سابقاً، ولم يقل: له اقض الصلاة التي تركتها، أو اقض الصيام الذي تركتها، أو أنك كنت قد زنيت وارتكبت الفاحشة فيجب أن تحد، أو أنك قتلت فيجب أن تقتل أو أن تعطي الدية. ولهذا لما أسلم كفار مكة وكفار الطائف وغيرهم تركهم رسول الله صلي الله عليه و اله وشأنهم.

وهناك خلاف بين الفقهاء في

أنه هل يجب على الكافر الذي يسلم أن يغتسل، وأن يطهر ثيابه التي كانت نجسة قبل الإسلام أم لا؟ فالبعض يقول: لا، لا غسل عليه ولا جنابة ولا نجاسة، إلا إذا كانت عين النجاسة موجودة، مثل عين الدم، أو عين الغائط، أو عين البول. هذه قاعدة ويتمسك بها الفقهاء من أول الفقه إلى آخره.

أما القاعدة الثانية: فهي أن الدولة الإسلامية إذا قامت فرئيسها عليه أن يتجاوز عما سلف، وإن صدرت الجريمة من مسلم.

وفي حديث عن الإمام الرضا عليه السلام يذكره الشيخ رحمة الله عليه، ذكر عليه السلام أنه لو أفضى إليه الحكم لأقر الناس على ما في أيديهم إلا بما حدث في سلطانه، وذكر أن النبي صلي الله عليه و اله لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون، وإن من أسلم أقره على ما في يده.

فهذه القاعدة يستدل بها على أنه لو قامت الدولة الإسلامية، يقول الرئيس الأعلى: (عفا الله عما سلف) وإنما المستقبل يجب أن ينظر إليه.

والإمام أمير المؤمنين عليه السلام طبق القاعدة الثانية عند ما وصل إلى الحكم، فالكل يعلم أن المظالم قد كثرت في الزمان السابق على حكومة الإمام عليه السلام وفشا القتل والسرقة، والنهب ومصادرة الأموال، ومع ذلك لم يغير الإمام عليه السلام شيئاً كما هو معروف، وإنما ذكر كلمة بالنسبة إلى قطائع الخليفة السابق كما في (نهج البلاغة) وكان هذا الكلام للإعلام فقط، لا للتطبيق، بدليل أن الإمام عليه السلام لم يطبق كما يحدثنا التاريخ، وفرق بين بيان الحكم والعمل الخارجي، ولذا نجد في القرآن الحكيم العديد من هذا القبيل من الأحكام مما هو لبيان الحكم لا لبيان التطبيق، وفائدة بيان الحكم هو أن يرهب الذين سرقوا أو أساءوا

حتى لا يسرفوا ولا يسيئوا في المستقبل.

يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: *يَا أيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ*(255). والتاريخ لم يذكر حتى مرة واحدة جاهد فيها الرسول صلي الله عليه و اله ضد المنافقين، فجهاده صلي الله عليه و اله مع الكفار واضح، أما هل جاهد الرسول صلي الله عليه و اله المنافقين؟ كلا بالعكس: الرسول صلي الله عليه و اله كان يداري المنافقين مداراة كبيرة، حتى أن (عبد الله بن أبي) الذي كان من رؤساء المنافقين في زمن رسول الله صلي الله عليه و اله ونزلت في شأنه سورة المنافقين لم يتعرض له الرسول صلي الله عليه و اله. وحينما جاء ابنه إلى الرسول صلي الله عليه و اله قال: يا رسول الله إذا أردت أن تقتله فأمرني أن أقتله، منعه الرسول صلي الله عليه و اله من ذلك، ولما مات (عبد الله) جاء الرسول صلي الله عليه و اله وصلى عليه ظاهراً، وأعطى ثوبه ليكون كفناً للرجل، وقام على قبره، مع العلم أن الله سبحانه وتعالى قال عن المنافقين: *وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ* (256) حتى أن بعض الذين كانوا مع رسول الله صلي الله عليه و اله اعترضوا عليه وقالوا: إن الله نهاك عن ذلك، لكن الرسول صلي الله عليه و اله كان أعلم بالحكم وأعلم بقانون الأهم والمهم في تفصيل ليس هذا محله.

وعلى كل حال، ليس كلامنا هنا في المنافقين، وإنما أردنا أن نبين كلمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حول قطائع من كان قبله، فإن ذلك كان أشبه بالتهديد

لا بالتطبيق. كيف؟ لأن الإمام عليه السلام كما

سلف لم يسترجع حتى فدك وهي ملك فاطمة عليها السلام ومن بعد فاطمة لعلي وبني فاطمة: الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم عليهم السلام.

إننا نرى مستندين إلى الكتاب والسنة والعقل إن منهج الحكم الإسلامي هو العفو عما سلف.. والحكم الإسلامي إنما ينظر في القضايا الحالية والمستقبلية لا في القضايا السابقة، إلا إذا استمرت القضية السابقة إلى الحال، كما مثلناه في الكفار إذا أسلموا وكان على بدنهم نجاسة، أو في دارهم خمر، أو لحم خنزير، فهذا يؤخذ لأنه حكم المستقبل، أما حكم الماضي فعفا الله عما سلف.

والحقيقة أنه إذا علم المسلمون المنحرفون أن منهاج الحكم في الإسلام هكذا، فلابد وأن يأمنوا من عقاب الإسلام وينضووا تحت لوائه، وبذلك تتقدم الحركة الإسلامية وتتمكن من تجميع الناس حول نفسها حتى تصل إلى الحكم بإذن الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يصطلح عليه في فقه الإسلام بقانون (الأهم والمهم)، والفقهاء يمثلون لذلك في كتاب الجهاد، بما إذا تترس الكفار بالمسلمين، فكان الأمر دائراً بين أن نقتل المسلمين الذين تترس بهم الكفار حتى نستطيع ضرب الكفار المعتدين، أو أن نترك الكفار حذراً من قتل المسلمين فيعيث أولئك الكفار في الأرض فساداً، ففي هذه الحالة يقول الفقهاء: إن المسلمين المتترس بهم يقتلون لغرض الوصول إلى الكفار المحتمين خلفهم، وهنا يكون القاتل والمقتول كلاهما في الجنة، يعني المسلم القاتل والمسلم المقتول المتترس به كلاهما في الجنة، لأن هذا قُتل في سبيل الله، وذلك قُتل أيضاً في سبيل الله.

ويمثل الفقهاء لهذه القاعدة أيضاً بأن الظالم إذا خير الإنسان بأن يقطع الظالم يده، أو أن يقطع رأسه، فعليه عقلاً وشرعاً أن يقدم يده، لأنه ليس في قطع اليد ذهاب النفس، أما تقديم الرقبة ففيها

ذهاب النفس، فيقدم الأهم على المهم.. وهناك أمثلة أخرى كثيرة لذلك.

فاللازم أن نجعل منهج الحكم الإسلامي هو العفو عما سلف، كما قال الإمام الرضا عليه السلام وكما فعل الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وكما يقتضيه قانون الأهم والمهم الثابت عقلاً وشرعاً، فإذا فعلنا ذلك اطمأن الذين يعيشون في البلاد الإسلامية من الذين انزلقوا في انحرافات خلال العهود البائدة ولم يعيقوا طريق الحركة.. بل ربما ساعدوها للوصول إلى الهدف..

4 ملاحظة الكفاءات

لا تطهير في الحكومة الإسلامية بالمعنى المتعارف في الحكومات الشيوعية والحكومات الانقلابية، على الأغلب، حيث إنهم إذا أتوا إلى الحكم يخرجون جماعة من الموظفين تحت شعار التطهير، وأحيانا يكررون هذا العمل في كل عامين مرة، كما صنعته روسيا الشيوعية والصين الشيوعية أيضاً، التطهير بهذا المعنى ليس موجوداً في الحكومة الإسلامية المرتقبة لألف مليون مسلم.

فعلى القائمين بالحركة والحكومة أن يجعلوا من منهج الحكومة ومنهجهم عدم تطبيق هذا القسم من التطهير إطلاقاً، وأن يتحالفوا على ذلك قبل الوصول إلى الحكم، وأن يطبقوه عملياً أي أن لا يطهروا بهذا المعنى أحداً بعد الوصول إلى الحكم، وذلك لأن حكومة الإسلام ليس حكومة حقد وديكتاتورية وضغينة، والتطهير إنما هو من الحكومات الحاقدة أي الحكومات الديكتاتورية التي لا تتوفر فيها الأحزاب والحريات. أو الحكومات التي تريد بالتطهير أن تدخل أصدقاءها في الوظائف، وبذلك تخرج السابقين من الوظائف.

والإسلام ليس كذلك.. إنه دين عفو ورحمة وصفح واستقطاب وكفاءة، بالمعنى الإسلامي للكفاءة لا بالمعنى الذي اتبعته الحكومات. والإسلام يلاحظ الكفاءة أينما وجدت سواء في الموظف الذي كان في الحكم سابقاً، أو في الإنسان الذي يريد الحكم الجديد إدخاله في الوظيفة، هذه هي الملاحظة التي يلاحظها الإسلام، فإنه دين الكفاءات ولا فرق

بين السابق واللاحق، ولذا نرى رسول الله صلي الله عليه و اله أدخل في حكمه جماعة من المشركين السابقين الذين أسلموا، وجعلهم أمراء في قبائلهم، ونرى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أبقى أيضاً جماعة من الحكام السابقين والأمراء والقضاة في مراكزهم، وإنما أخرج جماعة معدودة كان الشعب ضدهم، أولئك كانوا قد أثبتوا عدم كفاءتهم فالإسلام يلاحظ الكفاءات.

وقد ورد في حديث: أن رسول الله صلي الله عليه و اله جيء إليه بكافر يستحق القتل فنزل جبرائيل وقال: يا رسول الله إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: اعف عن هذا، لأنه كريم. فقال النبي صلي الله عليه و اله للرجل: يا هذا أنت معفو عنك. فاذهب حيث شئت، قال الرجل: ولماذا يا محمد؟ قال الرسول صلي الله عليه و اله: لأن جبرائيل أخبرني أنك كريم والله يحب الكريم!.. وقد صار هذا الأمر سبب إسلام الرجل. فالرسول صلي الله عليه و اله لاحظ في هذا الرجل الكرم ولهذا عفا عنه وإن كان مشركاً وكان قد اقترف ذنباً يستحق به القتل في الشريعة الإسلامية.

وعلى هذا.. فإذا كانت هنالك في الموظفين السابقين كفاءات إيمانية تلتزم بالدين في المستقبل لأنه يعفو عما سلف وتستطيع القيام بالمهمة الموكلة إليها، فهؤلاء يقرون في مراكزهم.

أما إذا كان بعض الأفراد النادرين معدومي الكفاءة فهم أيضاً يقبلون، إنهم لا كفاءة لهم، ولا يتوقعون البقاء حتى في الحكومة غير الإسلامية، فكيف بالحكومة الإسلامية الجديدة؟

ثم إن الذي يخرج من الوظيفة يجب أن يشغله الحكم في شغل مناسب له، وإذا لم يتمكن من العمل فالدولة تساعده، ونشاهد هذا في عمل علي عليه السلام فإنه لما جيء إلى المدينة بأسارى فارس، أراد الخليفة استعبادهم، لكن الإمام عليه السلام

فوّت عليه ذلك ووهبهم حصته، فصاروا أحراراً بقدر حصة الإمام عليه السلام ولما رأى بنو هاشم ذلك من الإمام عليه السلام وهبوا أيضاً حصصهم إلى أولئك الأسارى الفرس.

ومن المعروف في الفقه الإسلامي أن الحرية إذا تشبثت بمكان تسري حيث لا يمكن أن يبقى نصف إنسان حراً ونصفه الآخر عبداً، ولذا تحرر هؤلاء الأسارى، ولما قال الخليفة للإمام عليه السلام: أفسدت علي رأيي في هؤلاء! قال له الإمام عليه السلام: نعم، لأن رسول الله صلي الله عليه و اله قال: (ارحموا عزيز قوم ذل)(257) وهؤلاء كانوا أعزاء في قومهم، فعملت فيهم بوصية رسول الله صلي الله عليه و اله. فهؤلاء الذين كانوا محاربين وكانوا كفاراً أطلق الإمام عليه السلام سراحهم، لأنهم أصحاب كفاءات وأعزة قوم.. وقد أثبت التاريخ في ما بعد أن كفاءات جماعة منهم بلغت شأناً كبيراً في قصص معروفة.

الإسلام يدور حول الكفاءات لا حول الديكتاتوريات والانتقامات والسوابق وإنما قاعدته (عفا الله عما سلف)، فمن له الكفاءة الإسلامية يبقى في الحكم، ومن ليست له الكفاءة فهو مقتنع بأنه لا ينبغي له أن يبقى في الحكم، كما يحال إلى التقاعد في الحكومات الحاضرة بعد عدم تمكنه من العمل في منصبه.

إن الإسلام جاء ليخرج عباد الله من عبادة الناس إلى عبادة الله، كما قال ذلك الرجل المسلم لذلك الأمير الفارسي في حرب اشتعلت بين المسلمين وبين فارس، حيث قال الأمير الفارسي للمسلم بعد قصة طويلة وحوار عريض: إذا آمنا نحن والتزمنا بأحكام الإسلام فهل ترجعون أنتم إلى بلادكم أيها المسلمون؟ قال الرجل المسلم: إي والله فنحن لم نأت إلى هذه البلاد لمال وجاه أو ما أشبه، وإنما جئنا لنخرج عباد الله من عبادة الناس إلى عبادة الله..

فالإسلام ليس ديناً استعمارياً، وليس دين أحقاد وضغائن ينظر إلى الوراء، إنما ينظر إلى الأمام ويغفر ما سبق ويعفو عما سلف، فلو كانت للإنسان كفاءة يبقى في منصبه.

وقد روي أنه جيء إلى الرسول صلي الله عليه و اله بأسارى في إحدى الحروب فتبسم الرسول صلي الله عليه و اله، فقال أحد الأسرى متجرئاً: يا محمد تأسرنا وتبتسم؟! قال له الرسول صلي الله عليه و اله ما مضمونه: إنما تبسمت لأني أريد أن أجركم إلى السعادة والجنة، وأنتم تريدون الهرب إلى الشقاء والنار.

إن الرسول صلي الله عليه و اله يريد سحب الناس إلى خير دنياهم وآخرتهم، ولا يريد الديكتاتورية والاستبداد والمال والجاه، أو أن يعظم شخصه في غير سبيل الإسلام مثلما يفعل الأكاسرة والقياصرة والحكام الآخرون من أجل الدنيا، فما دام الإسلام دين الكفاءات، فإنه إذا وصل إلى الحكم يجب أن يجعل من منهجه (العفو عما سلف)، وملاحظة الكفاءات في المستقبل، فليس في الإسلام عمليات تطهير للموظفين حسب الاصطلاح القمعي الحديث، والذي كثيراً ما يكون التطهير فيه سحقاً للكفاءات، وإتياناً بالمرتزقة والعملاء والمصفقين للحاكم الديكتاتور.. وليس هذا من خلق الإسلام.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتطبيق الإسلام، ويجعل عواقب أمورنا خيراً، حتى يكون منهجنا هو منهج الإسلام، والله ولي التوفيق.

5 منهج الحكم في أبعاده المختلفة

منهج الحكم يلزم أن يكون:

أولاً: استشارياً، فليس الحكم في الإسلام ديكتاتورياً واستبدادياً، وإنما يجب أن يستشير المسلمون بعضهم بعضاً ويدلوا بآرائهم حول مختلف شؤون هذا الحكم، وينتخبوا الحاكم الذي اجتمعت فيه الشرائط التي قررها الله تعالى.

ثانياً: أن تكون السلطة العليا في مثل هذا الحكم في يد (الفقهاء العدول) فالفقهاء العدول هم الذين عينهم رسول الله صلي الله عليه و اله وعينهم الأئمة الطاهرون عليهم السلام لأجل

الحكم.

وقد روي عن رسول الله صلي الله عليه و اله أنه قال: *اللهم ارحم خلفائي* قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: *الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي*(258)، فإذا كان مثلاً في الباكستان عالم، وفي إيران عالم، وفي العراق عالم، وفي مصر عالم، وهكذا.. فهؤلاء وبعد انتخاب الأمة لمن هو صالح منهم يشكلون المجلس الأعلى لإدارة البلاد الإسلامية بأكثرية الآراء بينهم.

وليس المقصود بالصلاحية فهم الأحكام الشرعية فقط، فإن الأحكام الشرعية واضحة، وإنما في تطبيق الأحكام الإسلامية على القضايا الخارجية الزمنية أيضاً، وتحت قيادة هؤلاء العلماء الاستشاريين تتكون الأحزاب الحرة الإسلامية، يعني هناك أحزاب إسلامية حرة تعمل في الإطار الإسلامي مائة في المائة وإن كانت مختلفة من حيث الاجتهادات في الأمور التطبيقية، مثلاً: يرى هذا الحزب أن الأفضل: الحرب، ويرى هذا الحزب أن الأفضل: السلم مع جار معتد، أو يرى هذا الحزب أن الأفضل أن نتقدم إلى تقوية الاقتصاد الزراعي، ويرى ذلك الحزب أن الأفضل أن نتقدم إلى تقوية الاقتصاد الصناعي، وهكذا الاختلاف في الاجتهادات المؤطرة بالإطار الإسلامي، كالاختلاف بين المراجع الفقهاء في الأحكام الفقهية حسب فهمهم من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهذا يجب أن يكون حسب الموازين التي يعترف بها الإسلام.

وهذه الأحزاب الحرة الإسلامية الموجودة في كل العالم الإسلامي تكون مدرسة للسياسة الإسلامية والرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.. إذن، فبعد الاستشارة في أصل الحكم وتشكيل المجلس الأعلى للفقهاء الذين هم السلطة العليا يأتي دور الأحزاب الحرة ودور الانتخابات لمجلس الأمة ومجلس الشيوخ، ونريد بالشيوخ: الفقهاء الكبار العارفين بالسياسة، أو السياسيين الكبار المتدينين، حيث يشكل لهؤلاء مجلس الشيوخ أيضاً ضمن موازين إسلامية. أما مجلس الشيوخ في الغرب، في بريطانيا أو في أمريكا مثلاً فليس إلا ألعوبة

بيد الدولة في قضايا معروفة.

وعلى أي حال، هذا هو المنهج بالنسبة إلى الحكم الاستشاري ومجلس الفقهاء، والأحزاب الحرة التي لها صحف ومجلات وجمعيات وبرامج إذاعية وتلفزيونية وغير ذلك، وتراقب تلك الأحزاب بعضها بعضاً في سبيل تقوية البلاد الإسلامية وعدم الإجحاف بالناس، وجلب رضاهم، واستقطاب الشباب وغير ذلك.. هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية: منهج الحكم الإسلامي المرتقب لألف مليون مسلم قوامه الحرية في العقيدة، وفي إبداء الرأي، وفي العمل، إذ الإسلام ليس ديكتاتورياً وقد قال سبحانه: *لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ*(259) وقال: *وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ*(260) وكلنا يعلم أن الكفار كانوا يأتون إلى رسول الله صلي الله عليه و اله ويناقشونه وهو يجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه: *ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ*(261) وكذلك كانوا يناقشون الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ويناقشون الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام)(262).

فالإسلام فيه حرية العقيدة وحرية إبداء الرأي، وحرية العمل والزراعة، والتجارة، والصناعة، وحيازة المباحات، وحيازة الأرض، والصيد، والسفر، والإقامة، وبناء المسكن والعمران، وصنع البساتين وإلى آخره... فهذه الحريات يجب أن يوفرها الحكم للناس.. نعم يجب مراعاة القوانين الإسلامية في أبواب الحريات مثل قوانين إحياء الموات وغيرها.

إن اللازم أن يكون منهاج الحكم الذي يُطبق عند قيام الدولة الإسلامية العالمية بإذن الله تعالى هو إطلاق حريات الناس كافة، حتى أن المشرك لا يجبر على ترك شركه، عبّاد البقر، عبّاد الوطن، عبّاد الصنم، عبّاد النار، لا يجبرون على ترك عقائدهم بالسيف والسجن، ولم يكن رسول الله صلي الله عليه و اله يجبر أحداً من هؤلاء، ولا علي عليه السلام، وقد ذكرنا بعض الحريات في (الفقه: كتاب

الجهاد) وكذلك ذكرنا بعضها في كتبنا: (الحكم في الإسلام) و(إلى حكم الإسلام) و(هكذا الإسلام) و(نريدها حكومة إسلامية) و(إلى حكومة ألف مليون مسلم) وغير هذه الكتب.

وعدم الحرية إنما هو قانون استثنائي كسائر القوانين الاضطرارية مثل الاضطرار لأكل الميتة وشرب الخمر. فالحرية هي الأصل، وعدم الحرية أمر شاذ واستثنائي، وبطبيعة الحال في ضمن الأطر الإسلامية المعروفة، أي أن الحريات مسؤولة، وليست كالحريات الموجودة في البلاد الغربية والتي يسيطر عليها رأس المال ويفقدها واقعها، ولا مثل الكبت الموجود في البلاد الشيوعية والتي تحكمها ديكتاتورية الحزب الواحد وديكتاتورية الحكم وديكتاتورية طبقة العمال! على ما يقولون.. وهذا هو الشيء الثاني في منهاج الحكم في الإسلام.

الشيء الثالث: عبارة عن أن الحكومة لها وظائف:

الوظيفة الأولى: حفظ العدالة الاجتماعية كي لا يتعدى أحد على أحد.

الوظيفة الثانية: حفظ البلاد من الأعداء.

الوظيفة الثالثة: التقدم بالأمة إلى الأمام في جميع مرافق الحياة من حيث النظام، والنظافة، والعمل، والصناعة، والزراعة، والثقافة، والاقتصاد، والنفوس الرفيعة، والفضيلة والتقوى والإيمان، وغير ذلك.

فالحاكم في البلاد الإسلامية ليس ديكتاتوراً، وكما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ليس سبعاً ضارياً، بأن يصادر أموال الناس وحرياتهم ويكبت أنفسهم ويحدد سلوكهم.. ففي المنهاج الإسلامي: أموال الناس، وأعراضهم وأنفسهم، وحرياتهم حتى الكفار الذين يعيشون في البلاد الإسلامية في أمن وسلام ورفاه ورخاء.

وفي حديث: أن رسول الله صلي الله عليه و اله أرسل خالد بن الوليد إلى جماعة من الكفار فأظهروا الإسلام ولكن خالد قتل جماعة منهم، فرفع الرسول صلي الله عليه و اله يده إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. ولما جاء خالد إلى رسول الله

صلي الله عليه و اله قال خالد: يا رسول الله إنهم أظهروا الإسلام كيداً ومكراً وكذباً، فقال له الرسول صلي الله عليه و اله: (هلا شققت قلوبهم) يعني أنت لم تشقق قلوبهم حتى تعرف هل الإسلام دخل قلوبهم كيداً وكذباً (263).

ثم أعطى الرسول صلي الله عليه و اله لعلي عليه السلام كمية كبيرة من المال وقال له: اذهب إليهم وأعطهم دية قتلاهم، فجاء علي عليه السلام وأرضاهم وأعطاهم الدية، حتى أنه أعطاهم دية الحيوانات التي قتلت منهم، وأعطى كمية من المال لخوف النساء، وأعطى كمية من المال لما ضاع منهم حتى عقال البعير(264).

هكذا هو قضاء الإسلام وحكمه، لا أنه يقضي بما تشتهي نفس الحاكم من مصادرة أموال وإرهاب وقتل وسفك، وليست الحريات الإسلامية كالحريات الغربية فإنها محكومة لرؤوس الأموال، وليست كحريات الشرق المكذوبة والتي لا يضطهد فيها أحد أكثر من العامل والفلاح..

نرجو من الله أن يوفقنا لإقامة حكومة الإسلام العالمية القائمة على الكتاب والسنة وتحرير الإنسان من كل أنواع الكبت والاستغلال، وما ذلك على الله بعزيز.

6 حل مشكلات الحكم

كتلة من الأزمات تواجه كل حكومة جديدة ولا شك أنها ستواجه حكومة الإسلام العالمية بعد قيامها.

فما هو الموقف الإسلامي من تلك الأزمات؟

الواقع أن الحركة الإسلامية الواعية لا تصل إلى الحكم إلا بعد أن تعرف الداء والدواء لكل مشكلة مستقبلية محتملة.. فإن كثيراً من الذين لا يعرفون مشاكل الحُكم سَلفاً، ولا يعرفون حلولها يسقطون في مطبّات ومعاكسات لا نهاية لها، وأخيراً فكثيراً ما يسقطون أيضاً ويسقط الحكم معهم؛ كما حدّثنا بذلك التاريخ؛ وشاهدنا من قريب أمثلة لذلك.

المشكلة الأولى: المناقضات والتناقضات التي تواجه الحكم من داخل أجهزته التي جمعت فيما بينهم خلافات كبيرة، وأحياناً تنتهي هذه الخلافات إلى إسقاط الثورات

والتي عاصرنا بعضها.

والمشكلة الثانية: مشكلة القائمين بالحكم مع المؤسسات التي كانت سابقاً في البلاد. كمؤسسة الجيش، الشرطة، الأمن، الوزارات ونحوها، فإن بينها وبين الحكم الجديد تناقضاً طبيعياً.

المشكلة الثالثة: مشكلة الحكم مع الراكدين والجامدين، الذين لا يوالون ولا يعادون، ولكن جمودهم يخلق مشكلة للحكم، حيث إن الإنسان الواقف والإنسان السائر يقعان في تناقض.

المشكلة الرابعة: مشكلة القائمين بالحكم وأعداء الحكم الداخليين، لأن هناك أعداءً طبيعيين لكل حكم، وإن لم يمدّهم العدو الخارجي لاختلاف الأفكار ولوجود الحسد والبغضاء وما أشبه، حتى إذا كان الحكم صحيحاً مائة في المائة، وفي الآية الكريمة: *أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ*(265) وهذه مسألة طبيعية لفقدان التقوى، والشاعر يقول مخاطباً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

إن يحسدوك على عُلاك فإنما متسافل الدرجات يحسد مَن علا

المشكلة الخامسة: مشكلة الحكم مع أعداء الحكم المهاجرين إلى البلاد التي لا يسيطر عليها الحكم.

المشكلة السادسة: مشكلة الحكم مع البلاد المجاورة، فإن هذه الدول لا تحتمل أن ترى الحكم المجاور لهم يتقدم إلى الأمام بينما هم متأخرون، والناس بطبيعتهم يلتفون حول الحكم الجديد ولو بقلوبهم. فكيف يتمكن أن يرى حاكم خارج بلاد الإسلام أن قلوب رعيته مع الحاكم الإسلامي الجديد؟

هذه مشاكل وكثيراً ما لا يحسب القائمون بالحركات لها حساباً أو يظنونها مشاكل وقتية أو صغيرة، أو يجب أن لا يُعتنى بها.. ولكن هذا غير صحيح ففي المثل: أن السيل يتكون من القطرات، والجيش يتكون من الأفراد، وفي حديث مشهور: *ثلاثة صغيرها كبير وقليلها كثير: العدو والمرض والنار*(266).

وعلى هذا فاللازم علينا ونحن في طريقنا إلى إقامة حكومة ألف مليون مسلم بإذن الله تعالى أن نفكر بهذه المشاكل تفكيراً جدياً واقعياً وأن نفكر في الحلول الصحيحة لها والتي يجب

أن تكون ضمن هذه البنود:

الأول: ثورة ثقافية عامة تقنع الناس وتجذبهم إلى جانب الحركة والحكومة الإسلامية، فإن الثورة الثقافية توجب إنارة الناس، وبالنور يذهب الظلام ويذهب الظلم.

الثاني: يجب أن يتخذ القائمون بالحكم سياسة الإسلام فيما قال القرآن الحكيم: *ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ*(267).

الثالث: المداراة مع الأعداء وتقليلهم مهما أمكن. وذلك بالمال وبإعطاء المنصب، وبالتخفيف من حدة التوتر وتلطيف الأجواء وما أشبه، حتى لا يتمكن المعادون والراكدون والمؤسسات السابقة أو ما أشبه من تقويض الحكم.

الرابع: هو التدرج في الصعود، فإن بطيء النمو بطيء الزوال أيضاً، بينما سريع النمو سريع الزوال كذلك، وهذا يعني: أن لا يفكر الحكم بأنه يتمكن بين عشية وضحاها أن يقلب الموازين ويضع كل شيء موضعه. ولنتّخذ رسول الله صلي الله عليه و اله نموذجاً وقدوةً لإقامة أحكام الإسلام فإنه قد أقام الأحكام تدريجياً، وبذلك تمكّن صلي الله عليه و اله أن يقيم حكماً مستقر الأركان.

إن اللازم على الحكم الإسلامي، أن يلاحظ قانون (الأهم والمهم) في تطبيق بنود الإسلام تدريجياً حسب برنامج مدروس ومعقول، فإذا صنعنا هذا الصنيع وتمكّنا من جعل الحلول المعقولة لابد وأن نتقدم إلى الأمام.

ثم من الضروري الالتفات إلى البند الخامس وهو جعل الحكم استشارياً واقعياً لا صورياً.. فصورة الأسد لا تفترس، وصورة الحلوى لا تعطي الحلاوة، وصورة الدواء لا تشفي المريض، وإنما الواقعيات هي التي تؤثر، فإذا جعلنا الحكم استشارياً وأشركنا كل القوى الموجودة في الداخل التي هي موالية للإسلام من الزعماء، والعلماء، والخطباء، والمثقفين، والمحامين، والمهندسين، والأطباء، وغيرهم، حينئذ لا تبقى إلا بعض المشكلات، وتلك المشكلات لا تستطيع تقويض الحكم ولا الذهاب بسمعته.

ونحن نرى رسول الله صلي الله عليه و اله واجه

مشكلات الحكم الإسلامي بهذه الصورة المعقولة الحازمة. ويروي أحد المؤرخين يقول: إن عدي بن حاتم لما رأى سيطرة الرسول صلي الله عليه و اله فرّ من الحجاز إلى الشام وهو يعادي الحكم الجديد القائم، لكن بعض أصدقائه كتب إليه وقال له: يا عدي إن محمداً نبي وليس بملك، والنبي يرحم ويعطف ويُحسن ويستشير وهو عاقل وحازم ومدبر فلا داعي إلى الفرار، فارجع إلى البلاد. فرجع عدي لأنه يثق بذلك الصديق. ولما رجع وقف خارج مسجد رسول الله صلي الله عليه و اله فلما خرج الرسول صلي الله عليه و اله رأى عدي أن امرأة عجوزاً واجهت الرسول صلي الله عليه و اله وسألته سؤالاً فوقف صلي الله عليه و اله لها بكل لطف وحنان وأجاب عن سؤالها وحلّ مشكلتها، فقال عدي في نفسه: ما هذا بملك وما هذه أخلاق السلاطين والملوك والأمراء، وإنما هذه أخلاق النبيين وسيرة المرتبطين بالسماء. ولذا دخل حب رسول الله صلي الله عليه و اله في قلبه، وتقدم إلى الرسول صلي الله عليه و اله وعرَّف نفسه، ولما عرف الرسول صلي الله عليه و اله أنه عدي أكرمه وأحسن إليه وتلقّاه بالبشر واللطف والكرامة واستصحبه الرسول صلي الله عليه و اله إلى داره، فدخل دار النبي صلي الله عليه و اله وأسلم على يده حيث رأى رحابة صدر الرسول صلي الله عليه و اله وحسن أخلاقه، ولما خرج قال له صديقه: كيف أسلمت؟ قال: أسلمت لأني رأيت فيه صلي الله عليه و اله أخلاق الأنبياء وصفات المرسلين عليهم السلام.

وهكذا نتمكن أن نأخذ من سيرة رسول الله صلي الله عليه و اله وسيرة عليّ عليه السلام وسيرة الأئمة الطاهرين عليهم السلام ومن

سيرة الأنبياء المرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين) درساً لكيفية حل مشكلات الحكم. والله ولي التوفيق.

7 ضرورة ملء الفراغ السياسي

من الضروري على القائمين بالحركة الذين يريدون الوصول إلى حكومة إسلامية عالمية ملاحظة أن الحكم هدم وبناء: هدم لما سلف، وبناء لحكومة إسلامية ذات الألف مليون مسلم، وإذا كان الهدم والبناء يتكونان من مائة عنصر، فواحد للهدم وتسعة وتسعون للبناء، فمن الضروري ملاحظة أن البناء يحتاج إلى أفراد يقومون بملء الفراغ الذي سببه ذهاب الأنظمة السابقة، فإن الأنظمة السابقة لابد أن تكون لها تشكلات وأسس وأفراد وكوادر ومؤسسات وما أشبه، فإذا فرغ البلد من تلك المؤسسات فلابد أن تقوم مقامها مؤسسات أخرى تملأ الفراغات التي حدثت بسبب سقوط الأنظمة البائدة، وليس هذا بالأمر السهل.. فعلى القائمين بالحركة أن يمهّدوا لذلك بأمرين:

الأمر الأول: أن يهتموا بتربية الأفراد كحكومة كاملة.. مجموعة للأمن، ومجموعة للشرطة، ومجموعة للوزارات، ومجموعة للسفارات، ومجموعة لقيادة الجيش، ومجموعة للنجدة، ومجموعة للإعلام، ومجموعة للتخطيط، وهكذا.. فيشكلون حكومة ظل تتمكن إذا ذهبت الحكومات السابقة من ملء الفراغ في المراكز والقيادات والجيش والشرطة والأمن والنجدة والإعلام والبنوك وغيرها.

الأمر الثاني: أن يستقطبوا العناصر الحميدة في الحكم السابق حتى يشغل الفراغ ولا يسبّب الفراغ سوء نظر الناس إلى الحكم الجديد فيقولون إن الحكم القديم خير من الحكم الجديد.

وهذا الأمر بكلا بنديه أي تربية الأفراد من ناحية واستقطاب أفراد آخرين يحتاج إلى تخطيط سليم وتفكير شمولي واسع وسعة صدر.. وإلا كان الحكم محفوفاً بخطرين:

الخطر الأول: عدم رضا الناس، حيث يرون أن الحكم لم يتمكن أن يقوم بمصالحهم حتى بمقدار الحكومات السابقة.

الثاني: تقوم الحكومات الاستعمارية الشرقية والغربية بملء الفراغ، فإن الحكم مثله مثل الإناء، فلا يمكن أن تخلو الآنية من هواء

أو سائل أو جامد أو ما أشبه، فإذا لم يتمكن الإنسان من ملء الإناء لابد وأن يملأه الهواء أو غير الهواء كما إذا كان في مصب المياه.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: هناك تناقض بين المثالية والواقعية، فإذا لم يطبق الحكم هذا الأمر كمنهاج بل طبّقه كأمر اعتباطي سبّب أيضاً الفساد وضجر الناس، إن المثالية يجب أن تكون في التفكير، أما الواقعية فهي في الخارج، فالإنسان يجب أن يكون جامعاً بين المثالية والواقعية، يعني أن لا يكون مثالياً فقط، لأن المثالية شيء لا يتوفر بسرعة.

وفي بعض الأحاديث إشارة إلى ذلك، حيث يقول صلي الله عليه و اله: *المؤمن أعز من الكبريت الأحمر*(268)، الكبريت الأحمر كناية عن المادة الكيمياوية التي يحول بها النحاس إلى الذهب كما هو عند الكيميائيين القدماء، فالمثالية لا تنزل دائماً إلى ميدان العمل، فإذا كان الإنسان مثالياً ولم يتمكّن من تطبيق مثاليته في ميدان العمل كان معناه الفشل، وينقلب الأمر بذلك أسوأ مما كان سابقاً.

ولذا نرى أن الرسول صلي الله عليه و اله استفاد في حكومته المباركة من علي عليه السلام، من حمزة، من أسامة، من زيد، من أبي ذر، من سلمان، من مقداد، من عمار، ومن غيرهم ممن ربّاهم نفس الرسول صلي الله عليه و اله، وإلى جنب ذلك استفاد من أمثال أبي سفيان وغيره، لأن الرسول صلي الله عليه و اله رأى الأمر دائراً بين أن يبقى الظرف فارغاً فيستغله الفرس والروم والأعداء، أو أن يملأ الفراغ موقتاً حتى يفرج الله، وحتى يتكون الأفراد المثاليون الذين يملؤون الفراغات، فرأى أن اللازم تقديم الأهم وترك المهم. وفي المثل المشهور عند الحكماء: (الوجود الناقص خير من العدم) بل العدم شر والوجود

خير، كما هو معروف.

وكذلك نرى الرسول صلي الله عليه و اله يستفيد من زيد بن حارثة ومن جعفر بن أبي طالب وإلى جانبهما يستفيد من عمرو بن العاص ومن معاوية.

وهكذا نرى أن علياً عليه السلام استفاد في حكومته وفي منهجه من قسم من المثاليين مثل الحسن والحسين (صلوات الله عليهما) ومن مالك الأشتر وأمثاله، كما استفاد في ذلك الوقت من أناس كان لابد له أن يملأ الفراغ بهم أمثال الأشعث في قيادة الجيش، وأبي موسى في الإمارة، وشريح في القضاء ومن أشبه.. كل ذلك لأن النبي صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام رأيا الأمر دائراً بين المثالية التي تسقط قبل توفّر الكوادر حتى تملأ كل الفراغات، والجمع بين المثالية والواقعية حسب قانون الأهم والمهم حتى يقيّض الله أناساً مثاليين يملؤون كل الفراغات، فاللازم الجمع بين المثالية والواقعية.

والجمع بين الكوادر التي تربت على أيديهم وبين الأشخاص الذين استقطبوهم من الخارج أفضل من العدم.. فإذا لم تجعل الدولة منهاجها الجمع بين المثالية والواقعية يبقى الفراغ الذي يستغله أعداء الإسلام لضرب الإسلام ودولته.

8 الحكم النموذجي

يجب على الحاكمين أن يتحلّوا بأكبر قدر من المثالية، فإن المثالية وبطبيعة الحال المثالية الممكنة التي لا تضر بالواقعية وإنما هي مزيج من الواقعية والمثالية، كما ألمعنا إلى ذلك سابقاً توجب اطمئنان الناس بالحكم والتفافهم حوله، إضافة إلى أن غير المسلمين يلتفون أيضاً حول الحكم الإسلامي، وهذا ربح لا للمسلمين فحسب، بل لغير المسلمين أيضاً، فإن الإنسان مفطور على اقتناء الشيء الحسن من فاكهة أو طعام أو شراب أو لباس أو دار أو مركب أو حكم.

فإذا رأى الناس نوعية الحكم الإسلامي وامتيازاته، وأنه مبعث الراحة والطمأنينة والرفاه والتقدم، فلابد أن يلتفوا

حوله ويدخلوا في دين الله أفواجاً، وحتى إذا لم يدخلوا في الإسلام حكموا قوانينه في بلادهم، وهذا ما يحدثنا به التاريخ،حيث إن الغرب والشرق حين رأوا بريق الإسلام وجماله وحسنه وعدالته أخذوا أشياء كثيرة منه، كالنظافة والنظام والجمال والعلم والثقافة والتربية والصناعة، مما كان المسلمون الأولون يتّصفون بها.

فمن الضروري على القائمين بالحركة أن يخططوا ليكون منهج الحكم منهجاً مثالياً، والمنهج المثالي يتحقق بأمور:

الأول: تقشف الحكام، يعني أن يكون الحكام زاهدين في الدنيا غير راغبين في بهارجها، وأن يقتنعوا من الدنيا بالقدر الضروري، لأن الحاكم إذا كان بسيطاً ولم يكن باذخاً ولا مترفاً ولا راغباً في الدنيا اطمئنَّ الناس إلى حكمه. لا أن الحاكم فحسب يفعل ذلك بل وكذلك الطبقة العليا من المسؤولين. أما القصور والرياش والأثاث وما إلى ذلك مما هو شأن الحكام الدنيويين المعرضين عن الله سبحانه وتعالى فإنها تزهِّد الناس عن الالتفاف حول مثل هذا الحكم.

الثاني: بالنسبة إلى مثالية الحكم، بأن يكون الحكم في قضائه لا عادلاً فحسب، بل وإنما محسناً أيضاً، فلا إعدامات في الإسلام، ولا مصادرات، ولا سجون، ولا تعذيب، وإنما كل ذلك بقدر الضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر بالشكل المفصل في الفقه الإسلامي فإذا رأى الناس أن الإسلام رحيم وأنه لا يعدم، ولا يصادر، ولا يعذب، ولا يسجن، ولا ينفي، لابد وأن يلتفوا حوله، ولذا نرى أن نبي الإسلام صلي الله عليه و اله وعلياً عليه السلام انتهجا هذا المنهج مع أنه كان لهما أن يأخذا بالشدة والعنف ولكنهما رجَّحا جانب اللين وجانب العفو والصفح حتى بالنسبة إلى المجرمين في قصص معروفة.

الثالث: يجب أن يكون الحكم مثالياً من جهة إعطاء الحريات العامة لمختلف الأحزاب الإسلامية، والتقدم بالمسلمين،

وعدم تدخل الحكومة في شؤون الناس.. في تجارتهم، في زراعتهم، في صناعتهم، في سفرهم، في إقامتهم، في إبداء رأيهم، في اجتماعاتهم، في تأليفهم وكتاباتهم، في تدريسهم ونحو ذلك، فإذا كان الحكم هكذا مثالياً لابد أن يلفت أنظار العالم إلى ما فيه من المزايا كما اٌلفت أنظار العالم شخصية الرسول صلي الله عليه و اله وشخصية علي عليه السلام مع كثرة المعارضين والمناوئين.

وهذا هو التاريخ يحدثنا: أن رسول الله صلي الله عليه و اله أمر بحفظ أسرى بدر، فحفظوا إلى الصباح فقال صلي الله عليه و اله لجماعة من الصحابة: إني ما نمت البارحة قالوا: ولماذا يا رسول الله؟ قال: لأن أحد الأسرى كان مشدوداً بحبل وكان يئن فاذهبوا وفكّوا حبل ذلك الأسير.

وكذلك نرى أن الرسول صلي الله عليه و اله كان مثالياً في الزهد، فلم يكن يرغب في الدنيا. وفي حديث أنه ذات مرة غسل ثوبه وبقي بلا ثوب، ومرة أعطى ثوبه لفقير وبقي بلا ثوب لأنه لم يكن يملك ثوباً ثانياً فلفَّ على جسمه المبارك حصيراً، حتى ورد في بعض التفاسير أن المراد من قوله تعالى: *طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ*(269) إنه ليس المطلوب منك أن تشدد على نفسك بمثل هذا التشديد حتى لا يكون لك ثوبان فإذا أعطيت ثوبك فقيراً أو غسلته تبقى بلا ثوب فتلف الحصير على جسمك، وكان هذا إلفاتاً من الله سبحانه وتعالى للنبي صلي الله عليه و اله بأنه يرضى عنه بأقل من هذه المثالية التي كان الرسول صلي الله عليه و اله يتوخاها.

وكذلك نشاهد أن علياً عليه السلام يوصي بالخوارج الذين حاربوه بالسيف واللسان خيراً، وقد قال كما في نهج البلاغة: (لا تقتلوا الخوارج

بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه)(270) يعني أنه يوصي بالذين جرّدوا السيف في وجهه وحاربوه وقتلوا جماعة من رجاله ونالوا من سمعته وعاثوا في بلاده الفساد. كما أننا نرى أن المتآمرين لاغتياله عليه السلام كانوا خمسة ولكنه عليه السلام عفا عن أربعة منهم، مع أن أحدهم جرّ السيف وأراد أن يضرب رأس الإمام لكن السيف تعلق بسقف المسجد ولم يصل إلى رأس الإمام عليه السلام.أما بالنسبة إلى الذي قتله وهو ابن ملجم فكان الإمام عليه السلام يوصي به خيراً، وكلما شرب شيئاً من اللبن قال الإمام عليه السلام لأولاده: اذهبوا ببقية هذا اللبن إلى أسيركم!.

ولهذه المثالية نرى العالم التف حول الرسول صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام هذا الالتفاف الغريب في زمانهما، وإلى اليوم يذكر الرسول صلي الله عليه و اله على لسان ألف مليون مسلم كل يوم صباحاً وظهراً ومساءً، وكذلك الإمام عليه السلام أيضاً عند نصف المسلمين في أذان الصباح والظهيرة والمغرب.. ومن أين ذلك؟ إنه من تلك المثالية التي توخوها في أيام حياتهم.

إن المثالية تجذب القلوب في حياة الإنسان وبعد حياته، فإذا كان الحكم الإسلامي ذو الألف مليون مسلم بهذه المثالية من زهد القائمين وعدالتهم وعفوهم وإعطائهم الحريات لكل الناس في كل الشؤون حسب ما منحها الله سبحانه وتعالى كان لابد وأن يتوجه العالم كله إليه، ويتخذ منه نموذجاً للاقتداء، وبذلك ستكون الأمة الإسلامية مرة أخرى خير أمة أخرجت للناس وأعظم قوة على وجه الأرض، وما ذلك على الله بعزيز.

9حرية العلم والحكم والمال

من الضروري أن يوفر النظام الإسلامي للجماهير: العلم والمال والحكم على حد سواء.. أي أن يكون الحكم الإسلامي بحيث يوفّر الأجواء الصالحة

لأن يتمكن كل إنسان من التعلم بقدر ما يشاء، ومن أن يصل إلى الحكم كسائر من يصلون إلى الحكم، وأن يتمكن من الاستفادة من المال حسب طاقاته، فتكون هذه الأمور الثلاثة: (الحكم، العلم، المال) مَثَلُها مَثَل الماء والهواء والنور، فكما يتمكن كل إنسان من الاستفادة من الماء كذلك يجب أن يوفّر الحكم الجو الذي يتمكن كل إنسان فيه من أن يصل إلى ما يريد من العلم (الابتدائية، الثانوية، الجامعة، ما بعد الجامعة، الدروس الإسلامية الحرة، الاجتهاد وما فوق الاجتهاد للتضلّع كثيراً بالفقه، أو في التفسير، أو في غيرها).

وكذلك يجب أن يوفّر الحكم الإسلامي لكل واحد القدرة للوصول إلى المال حسب الموازين الشرعية والعقلية، لا أن يتمكن إنسان، ولا يتمكن إنسان آخر من ذلك مع أن الكفاءة متساوية في كليهما، وذلك إنما يمكن في جو تكون فيه الحريات الكثيرة لجميع الناس، وتكون فيه الدوائر قليلة إلى أبعد حد، لأن الدوائر كما نعلم تكبت حركة الإنسان وحريته، كما يجب أن تكون القوانين بالقدر المضطر إليه، فإنه كلما كثر القانون حدَّ من نشاط الإنسان وتقدمه.. فاللازم أن تكون القوانين والدوائر بالقدر الضروري لحفظ العدالة والنظام والتقدم، وفي الدفاع إذا هاجم الأعداء الخارجيون أو الأعداء الداخليون.

وعلى أي حال، فإذا قلّت الدوائر إلى الحد الضروري، وقلّت القوانين إلى الحد الضروري، توفرت الحريات للناس، وإذا توفرت الحريات للناس تمكن كل إنسان من الصعود في قوسه حسب كفاءته سواء في العلم، أو في المال، أو في الحكم.

أما إذا لم يكن الأمر كذلك، لم تتقدم كل الكفاءات، مثلاً: لنأخذ العلم.. ولنفرض أمريكا التي تدّعي الحرية، فنقول: هل يتمكن هناك كل إنسان من أن يصل إلى الجامعة وإلى ما فوق الجامعة؟ كلا،

لأن الجامعة لها شروط ومن شروطها المال، والمال لا يتوفر لكثير من الناس. وقد جاء في كتاب أصدره الرئيس الذي يترأس مجلس الأمن القومي الأمريكي: أن خمسة وعشرين مليون فقير في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يتمكنون من الوصول إلى الجامعة، وكثيراً ما لا يتمكنون من الوصول حتى إلى الثانوية، حيث تحتاج الثانوية أيضاً إلى المال، إلى الكتاب، إلى القلم، إلى الدفتر، إلى المختبرات، وإلى غير ذلك، فهؤلاء لا يتمكنون من الوصول إلى العلم الذي يبتغونه.

ولنأت إلى المال.. فهنالك الأجواء المالية اللاعبة بالمقدرات، والتي توجب جواً إكراهياً، وإن لم يكن إكراهاً شخصياً في الموضوع، وبذلك لا يتمكن الإنسان من التقدم المالي حسب قدرته.. مثلاً: لنفرض أن في البلد شركة احتكارية استولت على ألف دكان بقالة، وهناك ألف بقال آخر يعيشون عن طريق دكاكين يملكونها، فهذه الشركة تتمكن من أن تتلاعب بالأسواق صعوداً ونزولاً، فإذا كان سعر البضاعة مثلاً ديناراً، فهذه الدكاكين الحرة تتمكن من بيعها بهذه القيمة وتستربح شيئاً لتتقوّت به، أما هذه الشركة الاحتكارية فإنها تنزل الأسعار من دينار إلى ثلاثة أرباع الدينار، وذلك يوجب خسارة هؤلاء البقالين وسلبهم لقمة العيش.. فهذه أجواء إكراهية لا موازين لها، وإنما القانون الرأسمالي هو الذي سبّب هذا الأمر. ونأتي إلى الحكم، فهناك لا يتمكن كل أحد من الوصول إليه حتى إذا كان المتنافسون متساوين، لأن الجماعات الضاغطة والرشوات والأجواء المصطنعة والدعايات المضللة تحول دون وصول الكفاءات إلى الحكم، وحتى إذا كان في البلد انتخابات حرة حسب الظاهر ولكن الانتخابات ليست بحرّة في الواقع، وإنما هي في الأجواء المسمومة. أما الإسلام فإنه يمنع كل ذلك، ويوفّر الأجواء الصالحة للنمو الممكن في كل أفراد المجتمع، علماً ومالاً وحكماً، كما ذكرناه

في بعض مباحثنا الفقهية، وبصورة خاصة في كتب: (الحكم في الإسلام)، (السياسة)، (الاقتصاد) وما أشبه.

فمن الضروري، أن يكون منهج الحكم منهجاً إسلامياً مطابقاً للزمن، لأن النصوص الإسلامية تنطبق في كل زمان على ذلك المصداق المتوفر هناك، مثلاً يقول الله تعالى: *وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً*(271) الاستطاعة كانت سابقاً بالقدرة على السفر على أظهر الدواب، واليوم توجد الطائرة والسيارة والباخرة، فالاستطاعة في ذلك اليوم كانت بذلك الشكل، وفي هذا اليوم بهذا الشكل. أو مثلاً قوله تعالى: *وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ*(272)، القوة كانت سابقاً عبارة عن السيف، ثم أصبحت البندقية، ثم الصاروخ، ثم الطائرات القاذفة للقنابل.. وهكذا في سائر المصاديق التي تتغير بتغير الزمن، وإن كان الكلي كما ذكره الإسلام لا يتغير ف (حلال محمد صلي الله عليه و اله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(273).

ولذا نجد الإسلام يرفع حكم الإكراه حتى إذا كان الإكراه عاماً لا إكراهاً فردياً، ففي الإكراه الفردي يرفع الإسلام الحكم، وفي الإكراه العام يرفع الإسلام الحكم أيضاً.

مثلا: جيء إلى علي عليه السلام بامرأة زنت، فاستفسر الإمام عن سبب زناها؟ فقالت: إنها كانت في الصحراء وأشرفت على الهلاك من العطش، فوجدت إنساناً معه الماء، فلم يستعد أن يعطيها الماء إلا في مقابل أن ينال من شرفها، قالت: فهربت منه ثم التجأت مرة ثانية، حيث بلغ بي العطش مبلغاً كبيراً فاشترط الرجل عليَّ نفس الشرط، فهربت منه، ثم لما كدت أن أموت تقدمت إليه فنال مني وأخذت منه الماء، فقال علي عليه السلام: الحد مرفوع عنك، ورفع عنها الحد لأنها كانت مضطرة.

وفي الحديث: (ما من شيء حرّمه الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه).

ومن أمثلة

الجو الإكراهي: إنه إذا كان القحط منتشراً ولم يوجد الرزق، فإذا سرق إنسان الطعام لا تقطع يده ولا يجري عليه الحد. لأن الحد إنما يجري إذا لم يكن الجو إكراهياً، ولم يكن الإنسان المرتكب للجرم مكرهاً، وإلا فإذا كان الجو إكراهياً، أو كان الإنسان مكرهاً كرهاً شخصياً، أي أكرهه الإنسان على عمل سيئ، فإن الإسلام يرفع عنه الحد والعقاب. وهكذا الإسلام توفر مناهجه وقوانينه الأجواء الحرة، لكي ينال كل إنسان القدر الممكن من العلم، ومن الحكم، ومن المال، وهذا من منهاج الحكم الإسلامي المرتقب لألف مليون مسلم، والله المسؤول أن يوفقنا للعمل والعمل والتطبيق، وأن يأخذ بأيدينا إلى حكومة ألف مليون مسلم، وما ذلك على الله بعزيز.

القسم الثاني شؤون الحكم الإسلامي وطريق الوصول إليه

الفصل الأول؛ أقسام الحكم وكيفيته

1 أقسام الحكم وكيفيته في الإسلام

الحكم إما أن يكون وراثياً يرثه الأقرباء عن أقربائهم، وإما أن يكون انقلابياً، حيث تقوم جماعة بالانقلاب على الحكام السابقين والحلول محلهم، وإما أن يكون انتخابياً ينتخبه الناس، وأسوأ أقسام الحكم هو الأول، إذ الوارث لا يهتم بالناس، لأنه لم يأت من طريقهم، بل محوره هو نفسه، وهو يعمل للناس بقدر ما يستفيده منهم، ولذا تجد في الحكومات الوراثية مختلف ألوان الظلم والاضطهاد والسلب والنهب وما أشبه ذلك.

نعم، قد يكون الحكم الوراثي مكبلاً بإرادة الأمة التي يقودها العلماء والمصلحون، فيكون الحكم وراثياً شكلاً، لا محتوى، وهذا القسم من الوراثي وإن وجد أحياناً، لكنه قليل، بالإضافة إلى أن مثل هذا الحكم ينتهي في النهاية إلى الدكتاتورية أيضاً، مما يسبّب زوال الحكم من الدكتاتور. والحكم الانقلابي أيضاً سيئ، وأحياناً يجمع بين سيئات الحكم الوراثي وسيئات الانقلاب، فإن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلّة.

أما وجه سيئات الانقلاب، فهو أنه يستند الحكام الجدد فيه إلى السلاح عوض استنادهم إلى

الأمة، والحكم المستند إلى السلاح لا يستند إلى رغبات الأمة وإرادتهم، فليست الأمة هي المحور، بل المحور السلاح، وهذا الحكم يسحق إرادة الأمة وكرامتها.

ولا نقصد بالانقلاب الانقلاب العسكري فحسب، بل قد يأتي الحاكم الانقلابي إلى الحكم بإرادة الأمة، ثم يستند إلى السلاح الذي حازه بسبب الأمة، كما هو الحال في حكم بني العباس، حيث جاؤوا إلى الحكم بسبب الانقلاب، ثم انقلبوا سبعاً ضارياً على الأمة.

وإنما اللازم أن يكون الحكم مستنداً إلى اختيار الأمة، وإرادتها بدءً وختاماً، وذلك بأن يأتي الحاكم الأول إلى الحكم بإرادة الأمة، ثم يتبدل الحكام كل حين بإرادة الأمة واختيارهم، من دون تصنّع ومن غير أجواء مكذوبة مصطنعة من قبل الحكام السابقين، وإلا دخل الحكم (الأجوائي) في قسم الحكم الدكتاتوري. فاللازم أن لا يدخل (التضليل، والترهيب، والترغيب) الميدان، وإلا كان الحكم دكتاتورياً.

أما ما هي سمة الحكم الاقتصادي؟ فهي في زماننا عبارة عن أحزاب حرة، وصحف حرة، وتكون الإذاعة والتلفزيون خاضعة لكل الفئات، والحاكم ينتخب في كل ثلاث أو أربع أو خمس سنوات، فإذا رأيت حاكماً جاء إلى الحكم بالانتخابات، ثم لم تكن العلائم السابقة فيه، فاعرف أن الحكم تحول إلى الاستبداد، مهما قيل لذلك من مبررات.

والحكم الاستبدادي يحوّل البلاد إلى طُعمة للحكام، وأحياناً لأسيادهم المستعمرين أيضاً إذا وجد هناك مستعمرون كما نشاهد اليوم في بلاد الإسلام، حيث إن الحكم إما ملكي وراثي، أو انقلابي دكتاتوري، وكلاهما يستمدان من الشرق أو من الغرب، ولذا نجد التأخر الفضيع لألف مليون مسلم.

أما الحكم في الإسلام فهو مستند إلى الرسول صلي الله عليه و اله وإلى الإمام المعصوم عليه السلام المنصوب من قبل الله تعالى، وعصمته تمنع من ارتكاب أية مخالفة ولو صغيرة.

وإذا لم يكن الإمام المعصوم عليه السلام حاضراً، فالحاكم يلزم أن يتوفر فيه أمران:

الأول: أن يكون جامعاً لشرائط الفتوى، وهي العلم بأمور الدين والدنيا، والعدالة، والذكورة، والإيمان، وغير ذلك مما ذكروه في الكتب الفقهية والأصولية.

الثاني: أن يكون مختاراً من قبل الناس بأكثرية الآراء، ومثل هذا الحاكم هو السلطة العليا في الدولة. ويأتي بعده (الهيئة التطبيقية) أي التي تطبق الإسلام على الظروف، المعبر عنها ب (مجلس الأمة الإسلامية)، و(الهيئة القضائية)، و(الهيئة التنفيذية).

ولعل من الأفضل للابتعاد عن الدكتاتورية إطلاقاً أن يكون للأمة ثلاثة انتخابات:

الأول: انتخابات السلطة العليا من الفقهاء الذين هم مراجع تقليد الأمة (حقيقةً

لا صورياً أو أجوائياً) فيكون لهم مجلس الشورى، فإذا كانوا في مجلس الشورى تزعموا الحكم والتقليد معاً، وحكموا بأكثرية الآراء، وإذا خرج بعضهم عن الحكم، ليأتي آخر مكانه، تزعم الخارج التقليد، بدون الحكم.

الثاني: انتخاب رئيس الدولة، مما يصطلح عليه في الزمن الحاضر ب (رئيس الجمهورية) ولعل الأفضل أن يسمى ب (رئيس الدولة الإسلامية)، إذ الأحسن أن تسمى حكومة البلد الإسلامي ب (الدولة الإسلامية) وهكذا ينتخب بالموافقة بين (السلطة العليا) و(مجلس الأمة) و(جماهير الأمة).

الثالث: انتخاب (مجلس الأمة) لنواب الأمة في انتخابات حرة كما ذكرناه وعلى هذا يكون الفارق بين (الحكم الإسلامي) و(الحكم الديمقراطي):

1 وجود سلطة عليا من الفقهاء.

2 تقييد الحكم بأن يكون في الإطار الإسلامي، ولذا فمجلس الأمة إنما هو للتطبيق، لا للتشريع.

وعليه، فالحكم الإسلامي أفضل من الحكم الديمقراطي، حيث تشرف الأمة على السلطة أولاً من ناحية مراجع التقليد، وثانياً من ناحية نواب الأمة ورئيس الدولة، بينما الحكم الديمقراطي فيه إشراف الأمة من الناحية الثانية فقط... ومن الواضح أن وجود وكيلين لإنسان مشرِفَين على أموره، أفضل

من أن يكون له وكيل واحد.

هذا بالإضافة إلى أن حكم الإسلام فيه من العدالة والحرية، ما لا يوجد مثله في الحكم الديمقراطي الذي يكون التشريع فيه بيد الأمة. ثم إن للسلطات الثلاث (العليا، والرئاسة، والمجلس) أن يختاروا مجلساً لكبار الأمة علماً وخبرةً ونزاهةً، ليكونوا بمنزلة (مجلس الأعيان) في الدول الديمقراطية، وتمر الأمور التي يراد تنفيذها عليهم، ليكون الأمر أتقن (ورحم الله امرئ عمل فأتقنه) و(إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن)(274).

وعليه فالأسلوب الطبيعي للحكم الإسلامي هو أن الناس ينتخبون مراجع تقليدهم، بملء إرادتهم، من الفقهاء العدول، وتتكون من هؤلاء (سلطة عليا) وباستشارة هؤلاء ينتخب الناس نواب الأمة (ومجلس الشورى) وباستشارتهم معاً ينتخب الناس (رئيس الدولة). وعليه، فلا حق للسلطة العليا، أن تستبدّ بانتخاب النواب، أو الرئيس، سواء استبدّوا صريحاً مما يسمى ب (الانتصاب) أو استبدوا واقعياً بتهيئة الأجواء المكذوبة لمجيء النواب والرئيس حتى تكون إرادة الأمة صورية وخداعاً، فإن الإسلام يجعل أمرهم شورى بينهم، كما أنه لا حق لأحد مهما كان قدره أن يستبد بالسلطة العليا، بأي اسم كان، بل اللازم وجود شورى المراجع للأمة الذين اعترفت الأمة بهم وقلّدتهم.

2 صعوبات الحكومة الجديدة

للحكومة الجديدة صعوبات، إذا لم يتجنّبها الحكام الجدد وقعوا في مشاكل تنتهي إلى إحدى نتيجتين:

1: تنحية الأمة إياهم عن الحكم بالقوة وبسرعة.

2: كُرهُ الأمة لهم مما يُسبّب أن تقوم الأمة بعزلهم عن الجماهير، ويلتجئ الحكام حينئذ إلى تحصين أنفسهم خوفاً من الأمة بالسلاح، ويقع التحارب بينهم وبين الأمة، بفتح السجون والمعتقلات ونصب المشانق، وأخيراً ينتهي الأمر بإسقاط الأمة لهم وإبادتهم عن آخرهم.

ومن أهم المشاكل التي تقع فيها الحكومة الجديدة هي:

(أ) إن الحكومة الجديدة إنما قامت لأن الأمة رأت السوء من الحكومة السابقة،

فأرادت تحسين حالها، بتنحية الحكومة السابقة وتبديلها إلى الحكومة الجديدة، فإن لم تر الجماهير في الحكومة الجديدة ما كانت تريد وتأمل ثارت على الحكومة الجديدة.

(ب) لمّا لم تكن للحكومة الجديدة خبرة كافية في الحكم، فلابد وأن تسيء التصرف، وإساءة التصرف يوجب استفزاز الأمة.

(ج) الحكام القدامى وذووهم يخلقون المشاكل للحكومة الجديدة ويضعون العراقيل في عجلة تقدمها.

(د) الحكام الجدد يختلفون فيما بينهم، ممّا ينتهي بذهاب بعضهم إلى المقابر، وذهاب بعضهم إلى السجون، وذهاب بعضهم إلى المنافي كما حدث ذلك في العديد من البلاد الأوروبية وهذا يوجب أولاً تضعيف الحكومة، وثانياً سوء نظر الأمة إليها.

والعلاج لهذه المشاكل منحصر في (الشورى) حقيقة مع الأمة:

(أ) فإن الأمة إذا اشتركت في الحكم (كل الأمة، لا الفئة المفضلة التي يستقطبها الحاكم حول نفسه بالترغيب والترهيب والتضليل) لم تَثُر على الحكم الجديد، وعرفت المشاكل التي هي قابلة للحل فحلّتها، والمشاكل التي تحتاج إلى مدة من الزمن في حلّها، فلم تتوقع من الحاكم الجديد حلّها بسرعة، حتى تقع المنافرة بين الحاكم والأمة.

(ب) وبانعدام الخبرة الكافية خاصة بالحكام الجدد، وإلا فالشورى توجب مجيء الأكفاء إلى الحكم، وهم لهم خبرة كافية، وحتى فيما لا خبرة لهم فيه لا يغضبون على الحاكم الجديد، لأنهم شركاء في الحكم، فلا فصل حتى يكون غاضب ومغضوب عليه.

(ج) والحكام القدامى:

(أولاً) يدخل الصالح منهم في الحكم، لكن تحت نظام جديد وإشراف من الأمة، كما رأينا كيف أن الرسول صلي الله عليه و اله كان يفوّض أمر القبيلة إلى رؤسائها، وكيف خرط حكّام مكة في قيادة الجيش وغيرها، وكيف أشرك الأوس والخزرج في الاستشارة والقيادة وغيرهما.

(ثانياً) لا شأن للحكام القدامى أمام كثرة الجماهير، بينما إذا استبدّ الحكام الجدد بالحكم، وانفصلوا عن

الجماهير كان الحكام القدامى وأنصارهم الذين كانوا ينتفعون بهم فئة في قبال فئة الحكام الجدد، والأولون لهم الخبرة، والآخرون لهم الجِدة، وبذلك يتمكن الحكام القدامى من إيجاد المشاكل للحكام الجدد.

(د) واختلاف الحكام الجُدد بين أنفسهم ينشأ من الدكتاتورية، وإلاّ فلماذا الاختلاف؟ والحال أنّ الطريق لحلّ الاختلاف لاحب، وهو التحاكم إلى أكثرية الآراء للحكام، بالشورى، وإذا تساوت الآراء فالمرجع القرعة لأنها لكل أمر مشكل، أو الرجوع إلى الأمة باستفتاء عام ليظهر أحد الرأيين على الآخر.

وإذا لم يمكن جمع مراجع الأمة في مكان، أمكن أن يجعل كل مرجع نائباً عن نفسه، فهم نواب مجلس السلطة العليا، وإذا اتفقوا على شيء بأكثرية الآراء نُفّذ.

الدولة الإسلامية الواحدة

الرسول صلي الله عليه و اله أسس الحكومة الواحدة، والأمة الواحدة، وجعل لها القانون الواحد، وقد جعل ضغط الخلفاء وسوء تصرفهم الحكومة الواحدة مبعضة، فإن الرسول صلي الله عليه و اله دخل تحت لوائه الحجاز، واليمنان، والبحرين، والكويت (حين كانت أراضي ذات قبائل) كما أسلم في زمانه ما يقارب سبعة ملايين، من العرب والفرس والروم والحبشة وغيرها وكان الجميع متساوين أمام القانون. ولم يمرّ نصف قرن، إلاّ وشرعت الحكومة في التفتّت، حيث عصى الوالي القاطن في الشام، وارتبط بالروم ضد المسلمين الذين بَقوا على الأغلب في جانب الإمام عليه السلام. وبعد يزيد اُسست في الكوفة حكومة المختار، وفي زمن هارون انفصلت المغرب، وهكذا حتى وصلت الحالة إلى ما نشاهد من عشرات الحكومات، وعشرات القوانين السائدة في البلاد، وعشرات الحواجز النفسية، بالإضافة إلى ما قُطِّع من دولة الإسلام، فصار تحت ظل غير المسلمين، كفلسطين ولبنان وأرتريا ومورو، ومسلمي الهند والاتحاد السوفياتي والصين. فاللازم في إعادة حكم الإسلام:

1: إزالة الحواجز النفسية، فالمسلمون كلّهم إخوة، لا

في اللفظ والإعلام فحسب، بل في الواقع المعاش.

2: إزالة الحواجز القانونية، فالقانون واحد وهو المستقى من الكتاب والسنة في كل بلاد الإسلام، وإنما الفارق إذا كان اختلاف الاجتهاد، مع حفظ إطار الأدلة الأربعة.

3: إزالة الحواجز الجغرافية، فالبلد كله واحد من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، حتى يكون المسلم يسير إلى مكة، إلى النجف، إلى خراسان، إلى كراجي، إلى القاهرة، إلى دمشق، إلى الخرطوم... وكلّها بلده، بدون هوية، أو جواز، أو تأشيرة، أو حدود، أو غيرها. وإذا حدث هذا وسيحدث بإذن الله تعالى سكن أهل كل بلد في أيّ بلد آخر، فمن شاء منهم النزوح نزح، حتى يختلط الكلّ، كما هو الشأن الآن بالنسبة إلى بلد واحد ذي حدود مخترعة فكما أنه في الوقت الحاضر يسكن البغدادي البصرة والكربلائي النجف، والحليّ الناصرية، كذلك سيسكن المغربي الحجاز، والأردني طهران، والسوداني كابل، وهكذا، وهذا من لوازم رجوع الأمة إلى الوحدة المترقبة، وقد كان كذلك في زمان الرسول صلي الله عليه و اله والأئمة الطاهرين عليهم السلام.

وهذا الأسلوب غير أسلوب الاستعمار، حيث يجعل الحاميات والجاليات ويهجّر المواطنين بالقسر إلى غير بلدهم، ليأمن قيام الأهالي ضده، وفي التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة، مما فعله المستعمرون بالبلاد التي دخلت بالقوة تحت استعمارهم.

وقد فعل ذلك بنو أمية، حيث جاؤوا بجيش من الشام إلى العراق وأسكنوه (واسط) قرب الكوفة، ليضمنوا بذلك إطاعة العراقيين بالقسر، وكذلك هُجّر الأشعريون من اليمن وأجبروا على الإقامة في إيران في (قم) بالذات ليأمنوا ثورتهم ضد الحكم الطاغي، إلى غير ذلك. وفي العصر الحديث جاء البريطانيون بجمع كبير من الهنود إلى العراق وإلى الخليج لإرغام أهلهما على الطاعة،

وكذلك جاؤوا باليهود إلى فلسطين لغرض الإبقاء على تشتيت المسلمين، وفي أيامنا جاء الأمريكيون بجملة من المصريين إلى العراق لإرغام الأهالي على قبول الاستعمار، وفعلت مثل ذلك الشيوعية بالمسلمين في قصص مشجية مؤلمة. وعلى أيّ حال، فاللازم توحيد الأمة، قانونياً، وجغرافياً، ونفسياً.

كيفية تعامل الدولة الإسلامية؟

في الدولة: أقوياء، وضعفاء، وأقليّات، كما أن في خارج الدولة أجانب يكيدون فإن كل ذي نعمة محسود، قال سبحانه: *أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ*(275).

أما الأقوياء فاللازم إبقاءهم على قوتهم، بل والاهتمام لزيادة قوتهم، مع توجيه عملهم إلى الصراط المستقيم، وتربيتهم نفسياً، قال تعالى: *هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ*(276).

وأما الضعفاء، فاللازم على الدولة تقويتهم، وبذلك تضمن الدولة ولاءهم وتبعث حب الدولة فيهم، وإذا كثر الأقوياء في الدولة، قويت في قبال الأجانب وفي قبال كيد الكائدين، وقوة الدولة بقوة أفرادها.

ومن الواضح، أن أصحاب الامتياز من الأقوياء لا يرضون بالتنازل عن امتيازاتهم، ليشترك معهم الضعفاء في تلك الامتيازات التي كان من جملتها استغلال الضعفاء، إلاّ أن تهذيب الأنفس من ناحية، وكثرة الحريات في الإسلام يجعلان الأقوياء يمشون في الطريق السويّ بدل الانحراف والاعوجاج، هذا بالإضافة إلى تيار الجماهير.

ويكفي شاهداً لذلك ما نراه في بعض الدول الديمقراطية ولو بقدر من أنه كيف يتنازل الحكام عن الحكم أمام تيار الجماهير، مع أن الحكام لم يكونوا مستعدّين للتنازل إذا كان بأيديهم، ولو بقدر يوم، ولو من جزء من ألف جزء من حكمهم.

وأما الأقليات، فاللازم احترامهم في إطار قانون خاص بهم مذكور في الإسلام. وقد روي عن رسول الله صلي الله عليه و اله

أنه قال: (ومن آذى ذمياً فقد آذاني)(277). وحيث يرى هؤلاء الاحترام من الإسلام، إلى جانب منطق الإسلام الصحيح، لابدّ وأن يدخلوا في دين الله أفواجاً، كما دخلوا في أول الإسلام، فإن الرسول صلي الله عليه و اله لم يُجبر أحداً على الإسلام، فأهل المدينة دخلوا في الإسلام طوعاً، وأهل مكة بعد سلطة الرسول صلي الله عليه و اله عليها دخلوا في دين الله تدريجاً بدون إكراه، والذي فعله الرسول صلي الله عليه و اله بمكة هو إزالة العائق الذي كان يحول دون إسلام الناس فقط، ولذا لم يجبر الطلقاء وغيرهم على الإسلام، وأهل اليمن دخلوا في الإسلام بملء إرادتهم، بعد أن بلّغ لهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهكذا، وإنما كانت حروب الرسول صلي الله عليه و اله كلها دفاعية، وقد ذكرنا بعض تفصيل ذلك في كتابنا (كيف انتشر الإسلام؟).

ولقد أخطأ أمراء المسلمين حيث شهروا السيوف وأساءوا المعاملة مع الذميين، حيث سبّب ذلك أن تدخل أوروبا الوثنية في المسيحية فراراً من سيف الإسلام وسوء معاملته بزعمهم أنه ذلك من عمل الإسلام وإلا لتوقفت المسيحية عند روما، ولم تتغلغل لا في أوربا، ولا في الصين، ولا في الهند، ولو لم يخطأ أولئك الحكام في ذينك العملين، بل كانوا اتبعوا سيرة الرسول صلي الله عليه و اله لشمل الإسلام كل العالم اليوم.

وكيف كان فإذا شاهد العالم بعد قيام الدولة الإسلامية، حسن معاملة حكام المسلمين مع بلاد الإسلام، بعدم السجن والتعذيب والقتل والمصادرة وكبت الحريات وترفيع طبقة على طبقة، ورأوا حسن الإسلام وكونه يلائم الفطرة والمنطق، ورأوا حسن معاملة المسلمين مع الذين هم في حمايتهم من الذميين، هرعوا إلى اعتناق الإسلام، ودخلوا في دين

الله أفواجاً كما دخلوا في دين الله أفواجاً أول الإسلام، فإن الإحسان إلى غير المسلمين بالإضافة إلى منطق الإسلام الإنساني من أقوى المحفّزات على دخول غير المسلمين في الإسلام.

وقال سبحانه: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ*(278).

قال علي عليه السلام: (عجبت ممن يشتري العبيد بماله، كيف لا يشتري الأحرار بإحسانه)(279)، فإن الإنسان عبد الإحسان.

واللازم على الدولة الإسلامية:

1: إعطاء الحريات المعقولة حسب ما أعطاها الإسلام، وحسب ما هو مذكور في سيرة الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام، بل وغيرهما من بعض الحكام الذين ساروا على طريقتهما، فإن الحرية صمّام أمان، فلا كبت حتى يتوجب الانفجار، وفي المثل: الضغط يولّد الانفجار.

2: دراسة المستقبل، للتنبؤ بما سيحدث من الاضطرابات المحتملة، لعلاجها قبل الوقوع، فإن الاضطراب لا يكون إلا بجذور، فإذا وقفت الدولة دون نمو الجذور لم يحدث الاضطراب، وفي المثل: (قيراط من الوقاية خير من قنطار من العلاج) فإن الإضطراب كالمرض، لا يظهر فجأة بدون استعداد وسابق إنذار.

3: تكوين لجنة لحلّ المشاكل قد تسمّى ب (لجنة المصالحة) حيث تكوّن الدولة لجنة من الحكماء والشيوخ، لأجل المصالحة مع الأمة، بل مع الدول، كلما تعقدت حالة تُنذر بالانفجار، فإن تواضع الدولة أمام المشكلات خير من تصلبها حتى تتورط فيها، بما يفني الضرع والزرع، وقد تقدم ذكر الآية الشريفة: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ*(280).

وقال سبحانه: *يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ*(281). وقال صلي الله عليه و اله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(282).

3 الحكومة الإسلامية أفضل الحكومات

أفضل الحكومات هي الحكومة الإسلامية، وذلك لأنها جمعت بين الحكم على القلب،

والحكم على الجسد، ولذا فيها تُشبع حاجات الإنسان، الروحية والجسدية، والمراد بالحكومة الإسلامية، هي ما أسّسها رسول الله صلي الله عليه و اله، وعمل بها علي عليه السلام، وما أشبه ذلك، لا أيّة حكومة سمّيت بالإسلام، وإن لم تكن تعمل بقوانين الإسلام، حتى ولو كانت تدعو إلى الإسلام، وإلى انضمام البشر تحت لوائه.

فإن قسماً من تلك الحكومات، أمثال حكومة بني أمية وبني العباس، كان منطقها الدعوة إلى الإسلام، وفي واقعها تقول تعالوا إلى حكومتنا، لنقتل شبابكم، ونيتّم أولادكم، ونرمّل نساءكم، ونملأ المقابر بكم، ونقيدكم بالسجون، ونبني بأموالكم القصور لنا ولجيوشنا، ونصادر ممتلكاتكم، ونعمل بالاستبداد فيكم، ونذل صلحاءكم وعلماءكم، ونقلل من مدارسكم، ونخنق أصواتكم، ونُشيع فيكم المنكرات، ونشهّر برؤوس قتلاكم من بلد إلى بلد، ونملأ قصورنا بالفتيات والخمر والقمار، ونقضي بينكم بالجور، و...

وأية حكومة سمّت نفسها إسلامية، عملت ببعض هذه الأمور فضلاً عن كلها فهي حكومة غير إسلامية، والإسلام والمسلمون منها براء، وإن ذكرت لذلك ألف تبرير، فإن الإسلام منهجه موجود في القرآن الكريم والسنة المطهرة، والألوف من الكتب، كما أن الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام والحسن عليه السلام طبّقوا الإسلام تطبيقاً عملياً، فكلّ حكومة خالفت ذلك فهي في اسم الإسلام وليس في واقعه.

وإنما كانت حكومة الإسلام أفضل حكومة، لأنها تعطي حاجات القلب، حيث إن الأمة التي تعيش في ظلها تعتقد بحكامها، وترى أن طاعتها طاعة الله ورسوله، وأن فيها الثواب والأجر، وتعطي حاجات الجسد، حيث يتمكن الإنسان تحت ظل قوانين الإسلام من العيش الهنيء والتقدم الصادق.

ومن علائم استقامة الحكومة (والتي في قمتها الحكومة الإسلامية): كثرة المساجد والمدارس والحريات، وقلّة اليباب والسجون والعزّاب، وعدم ازدحام الدوائر بالمراجعين، ووجود قدرٍ يكفي

من المستشفيات والمعامل وما أشبه. فالمساجد للعبادة، والمدارس للدراسة، والحريات لأنها الأصل في رفاه الإنسان وتقدّمه، وقد قال سبحانه في وظيفة الرسول صلي الله عليه و اله: *وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ*(283).

ولا يخفى أن هناك أربعة أمور:

(أ) الفوضى، وهي الحريات الضارة للإنسان، سواء بنفس المباشر لها أو بغيره، فإن القفز من مكان مرتفع يوجب كسر العظام، وقيادة السيارة بسرعة توجب الاصطدام، وشرب الأفيون والهيروئين، وضرب العين والأذن بما يوجب العمى والصمم، والبطالة بعدم العمل، إلى غير ذلك، كلها ممارسة للحرية، لكنّ هذه الحرية فوضى، وكذلك اغتصاب الفتيات، وقتل الناس، وسرقة الأموال، ومخالفة الأنظمة العقلانية، الموجبة لأذى الناس، كسدّ المعبر وإرهاب الناس وما أشبه ذلك، حرية، لكنها حرية الفوضى.

(ب) الكبت الصريح، وذلك بمصادرة الحريات في التجارة والزراعة والصناعة، والعقيدة والرأي، والعمارة، والسفر والإقامة، والكتابة والاجتماع، والوصول إلى المراتب العالية في الحكم، والدراسة ونحوها، كما نشاهده في البلاد الشيوعية.

(ج) الكبت المُغلّف، وذلك بأن تهيّأ الأجواء، بما يتوهم الإنسان معها أنه حر، ولكنه ليس بحرّ حقيقة، لسيطرة رأس المال، والدعاية، وملء الأسواق بالحاجات، وملء الفراغ بوسائل اللهو الباطلة، مما يتلخص في أن الإنسان يتوهم الحرية، فيستغني عن الحرية، ويكون مثله كالنائم، يرى في المنام أوهاماً، وهو بتلك الحالة يزعم أنها حقائق، فإذا انتبه عرف أنها كانت أوهاماً، كما نشاهده في البلاد الرأسمالية، وقد ذكرنا بعض تفاصيل الكبت في كتب الفقه (الاقتصاد، السياسية، الاجتماع).

(د) الحرية، وهي كون الإنسان حراً حقيقة، فلا فوضى، ولا كبت صريح أو مغلّف، وهي لا توجد إلاّ في الأنظمة الإسلامية.

ففي الإسلام التحرر العقيدي، حيث لا تبتلى العقيدة بالخرافة، وإنما تُقدم الأدلة على التقاليد، مع حرية البحث والنقد، مما يعبّر عنه ب (حرية

الكلمة).

والتحرر الاقتصادي، حيث لكلّ أن يعمل حسب كفاءته، وما ربح في كيسه، فلا كبت في العمل، ولا تذهب بعض أرباحه في كيس الرأسمالي، أو في كيس الدولة، مع تحديد العمل بعدم كونه ضاراً لنفسه أو لمجتمعه.

والتحرر السياسي، فلكلّ أن يصل حسب كفاءته إلى أرقى مناصب الدولة بدون أجواء مكذوبة، توجب جري الإنسان في مجرى خُطِّط له سلفاً، وأوهم ذاته بأنه حر، فإنه بعبارة أخرى: عن أنك عبد لكنك حرّ في اختيار السادة!

والتحرر الثقافي، فلكلّ إنسان أن يصل إلى ما يريده من العلم والثقافة، فليس أمام فرد حاجز من المال أو من غيره يمنعه من الوصول إلى الجامعة، أو ما فوق الجامعة، وغيرها من مجالات الثقافة.

والتحرّر الاجتماعي، حيث لا توجد الامتيازات الطبقية، المكفولة بسبب القوانين المفرّقة بين الجنسيات والقوميات واللغات والألوان والإقليميات، إلى غير ذلك.

الاحتفاظ بالحكومة الإسلامية

لقد دلّ الاستقراء والمنطق، على أن احتفاظ الحكام الجدد بالحكم، تابع لحالة البلاد السابقة، فإن البلد قبل الحكام الجدد على نوعين:

الأول: أن يكون الحكم فيه على نحو الدكتاتورية، بحيث يكون الحاكم الأعلى كل شيء، والباقي من أعضاء الحكم أعوانه وأنصاره المنصّبين بأمره.

الثاني: أن لا يكون البلد كذلك، بل كان يدار من قَبلُ على نحو الاستشارة و(الديمقراطية)، وكذلك الحال إذا كان الحكم يدار من قبل حكام متعددين وأمراء، لكلّ أنصارٌ وأعوان وأصدقاء، والنتيجة في القسمين واحدة، وهو وجود رؤوس متعددة،

لا رأس واحد.

ففي الأول: تحطيم الحكم صعب بالنسبة إلى الحاكم الجديد، لوحدة البلاد ومركزية الحكم، فمن يريد إسقاط مثل هذا الحاكم لابد وأن يواجه كلّ القوى.

لكن بعد التحطيم، يكون الاحتفاظ بالحكم أسهل إذا كان للحاكم الجديد قدر من الحنكة والحزم لأن الأمة التي تعودت الدكتاتورية والعبودية، لا يهمها أن

يتبدل الدكتاتور، وهي طائعة، لا فرق عندها بين الحاكم الجديد والحاكم القديم.

وفي الثاني: عكس الأول، إذ سيكون التحطيم سهلاً، لتفرّق الحكم في البلد، فيتمكن الحاكم الجديد أن ينقض الحكام الصغار، حاكماً حاكماً. والاحتفاظ بالحكومة بعد ذلك صعب حيث إن للرؤساء السابقين وأنصارهم قدرات متعددة خرجت عن الميدان، كلما أطفأ الحاكم الجديد نار بعضها اشتعل البعض الآخر ضد الحاكم الجديد، وكلما رتق جانباً من البلاد، حصل الفتق في جانب آخر.

وربما يجمع البلد بين الدكتاتورية في الحكم، والرؤساء المتعددين في الدين مثلاً فالحاكم الجديد أمام أمرين صعبين، صعوبة تحطيم الحاكم الدكتاتور (أولاً) ثم مواجهة الزعماء الدينيين الذين لكل واحد منهم استقلال وأنصار (ثانياً).

ولذا رأينا بريطانيا العاتية، كيف واجهت مشكلة الحكم العثماني في العراق، حيث الدكتاتورية كانت طابع الحكم، ولما أن أزاحت العثمانيين، قام في وجهها علماء الدين، بقيادة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي رحمة الله عليه مما اضطرّوهم إلى الانسحاب.

وعلى هذا، فتوحيد بلاد الإسلام تحت حكم إسلامي واحد، يواجه مشكلة النوع الثاني، حيث إن بلاد الإسلام في الحال الحاضر دويلات، ولكل دولة حاكم وأنصار، فالحاكم الإسلامي الذي يريد توحيد هذه البلاد، لا يرى العَنَت الكثير بمقدار ما كان يراه لو كانت البلاد تحت حكم حاكم واحد.

نعم، لابدّ من أن يحسب الحاكم الجديد احتمال توحد حكام البلاد، واحتمال ما إذا ساعد كل حاكم استعمار قوي من الخارج. فاللازم أن لا يترك حكام البلاد يتّحدون في قبال الإسلام الزاحف وفي قبال الشعب الإسلامي المضطهد، كما يلزم أن لا يترك الاستعمار الخارجي يساعد الحاكم الذي أخذت شمسه في الأفول.

وإذا قام الحكم الإسلامي في البلاد حكماً واحداً فالمهم أن لا يجعل الحاكم الجديد منهج

الحكم الاستبداد، وإقصاء كافة الحكام القدامى وأنصارهم، الصالح وغير الصالح جميعاً، حتى يجدوا المجال للمؤامرة، بل اللازم أن يفعل فعل الرسول صلي الله عليه و اله في إشراك الصالح من الحكام السابقين في الحكم، وإلاّ كان عليه أن يختار أحد أمرين:

إما الاستعداد الدائم لمواجهة الحكام السابقين وتلوّث سمعته وسمعة الإسلام حيث يرون الناس أنه ممثله وإما إبادة الحكام السابقين وكل أنصارهم، وهذا أسوأ، حيث إن الحكم يفقد رواءه وجماله من أول يوم، ويجد أولئك الحكام من يثأر لهم، فتكون المواجهة الدائمة أيضاً. وعلى أي حال، فأفضل الحلول الثلاثة، هو حل الإسلام الذي طبقه الرسول صلي الله عليه و اله، إن هذا الحل بلا شك يضغط على الحاكم الجديد أكبر قدر من الضغط، إلاّ أن ضغط الأصدقاء أهون وأحسن عاقبة من ضغط الأعداء، وقد قال الإمام علي عليه السلام: (الحق مُر هنيء والباطل حلو وبيء).

ثم إن إشراك من يصلح من السابقين وأنصارهم في الحكم يعطي للحاكم الجديد راحتين مهمتين:

الأولى: راحة الخبرة، حيث إن إدارة الحكم بحاجة إلى أكبر قدر من الخبرة، والخبرة لا يمكن إيجادها بين عشية وضحاها، وإذا لم تتوفر الخبرة في الحاكم الجديد، ساءت الأوضاع وتدهورت الأمور، بما يوجب أن يرى الناس الحكم السابق على مفاسده خيراً من الحكم الجديد على حسناته.

الثانية: أنه حيث تتوفر الخبرة وحسنات الحكم الجديد، يُقبل كل الناس عليه، فلا تكثر الاضطرابات في الحكم الجديد. والاضطرابات التي رافقت الثورة تختفي بسرعة. واستقرار الحكم وحسناته يوجبان بقاء الحكم حتى بعد فقد الحاكم الجديد، فإن الناس يلتفّون حول الحكم الحسن ويضمنون بقاءه.

كيف يتعامل الحاكم الإسلامي؟

الحاكم الإسلامي لابدّ له أن يلاحظ أمرين مهمين عند حكمه للبلاد، سواء صار حاكماً

لكل البلاد الإسلامية، أو بعضها.

الأول: حريات الناس، فإن المسلم بطبعه حر، حتى إذا حَكَم بلده من استعبده مدة مديدة، لأن الإسلام جعل ضميره حراً، فإذا أراد الحاكم سلب حريته ثار، فإن لم يتمكن من الثورة في بداية الأمر لشدة الإرهاب، فإنه لابدّ وأن يثور في أول فرصة تسنح له بذلك، وبقدر سلب الحاكم للحرية، يكون عنف الثورة على نفس الحاكم وأنصاره جسدياً وسمعة. ولذا رأينا كيف حطمت إيران البهلويين، ونسفت تركيا أتاتورك، وانتقمت مصر من عبد الناصر، والعراق من قاسم، إلى غير ذلك.

والمراد بالحرية، حرية الرأي وحرية العمل، فإن البدن كما يحتاج إلى النشاط والغذاء، يحتاج الفكر إلى النشاط والحركة. وعلامة حرية الفكر أن تقف في الشارع على رؤوس الأشهاد وتقول كلمتك، وقد أعطى الإسلام هذه الحرية إلى أبعد حد، فقد رجع من بعض حروب رسول الله صلي الله عليه و الهثلاثمائة، ولم يشتركوا في الحرب، فتركهم رسول الله صلي الله عليه و الهوشأنهم.

صحيح أن الفرار كان مُحرماً على الفار، لكن صحيح أيضاً أن الرسول صلي الله عليه و الهعلّمهم على الحرية، وبتلك الحرية التي لم يشاهد مثلها التاريخ دفع الرسول صلي الله عليه و الهالمسلمين إلى ذلك التقدم الهائل، لأن العالم لم يكن حراً، والعالم الحر يتمكن من اجتياح العالم غير الحر، كما أن غير المغلول يتمكن من التصرف في الإنسان المغلول كيف شاء.

ولا يغر الحاكم أن بإمكانه أن يأمر الناس بالخروج إلى المظاهرات بالألوف، وأن ذلك علامة حب الناس له، بل بالعكس كثيراً ما يكون تمكن الحاكم من ذلك دليل الإرهاب، والإرهاب لابدّ أن يزول، ويسقط الحاكم بزواله.

ويذكر العراقيون، كيف أن قاسم كان يُخرج الناس إلى الشوارع، وكذلك ناصر في مصر،

ومع ذلك أسقطا سقطة نمرود وفرعون، إنه إذا كانت حرية لا يخرج كل الناس، ولا يُغلقون أبواب حوانيتهم، بإشارة الحاكم، وإنما يخرج ويغلق جماعة منهم، لا يصل عددهم على الأغلب إلى ربع الناس، نعم في حالات نادرة جداً يغلق كل الناس محلاتهم ليخرجوا في مظاهرات صاخبة عن عقيدة راسخة وإيمان عميق واع.

ولذا لا نجد مثل هذه المظاهرات في بلد فيه شيء من الحرية، بينما نجدها في بلاد الدكتاتورية، أمثال روسيا، وصين ماو، وفيتنام هوشي منه، وما هي النتيجة؟ إنها حرق ستالين بعد إقباره، فقد أخرجوه من القبر وأحرقوه جزاءً لبعض عمله، ولعن ماو وعصابته بعد موته، وكره الفيتناميين لهوشي مِنّه، بمجرد استقلال فيتنام عن أمريكا، وإن وقعت في استعمار آخر. وعليه يلزم أن لا يغر الحاكم التهليل والتصفيق له، والمظاهرات والإضرابات الصاخبة بمجرد إشارته، فإن كل ذلك علامة سقوطه، قريباً أو بعيداً،

لا علامة حب الناس ونجاحه.

الثاني: أموال الناس، فقد ورد في الحديث: (ينام الرجال على الثكل ولا ينام على الحرب)(284). وهذا أمر مجرب، فالناس ليسوا مستعدين لتلاعب الحكام بأموالهم بأي اسم كان. وقد يحتال بعض الحكام بفرض الضرائب على الناس تحت ستار مجلس الأمة، وأنه رأي نواب الأمة، أو باسم أنهم في حالة أزمة وحرب، وأنهم يريدون بهذه الضرائب طرد العدو وإخراج البلاد عن الأزمة. إن مثل هذه الحيلة ناشئة عن البساطة، كما أن كل حيلة وخداع ناشئة عن البساطة، ولذا قال الإمام عليه السلام في جواب من سأل: ما الحيلة؟ قال: (في ترك الحيلة)(285) وقد صدق عليه السلام، ولذا نرى كيف افتضح معاوية المحتال، وبقي علي عليه السلام التقي كالطود الشامخ، لايزيده مرور الزمان إلاّ تلألؤاً وشموخاً.

إن الناس يسألون الحاكم الذي يعتبر

نفسه إسلامياً وهو على وتيرة معاوية بن أبي سفيان، كرؤساء بعض بلاد الإسلام: عندما يأخذ الضرائب تحت ستار مجلس الأمة، هل المجلس حر أو مستعبد تحت استبدادك، فإن زعمت أنه حر، فلماذا لا ينتقدك علناً ولو مرة؟ وهل يمكن أن لا ينتقد مجلس حر الحاكم الأعلى، وإذا كان المجلس تحت استعبادك، فالستار مهلهل تبدو من خلاله سوآتك، فلم تنطل الحيلة على الأمة، وإنما كما قال الله تعالى: *يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ*(286)، *وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ*(287)، *وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ*(288).

كما يسأل الناس الحاكم الذي يأخذ الضرائب باسم الأزمة والحرب، هل الناس لهم رأي في كيفية علاج الأزمة وعلاج الحرب؟ فإن كان لهم رأي فأين صحفهم الحرة؟ وأين أحزابهم الحرة؟ وأين إذاعتهم الحرة؟ وإن لم يكن لهم رأي، فالأزمة إنما أحدثها الحاكم، والحرب إنما صارت بسوء تصرف الحاكم، والحرب والأزمة إذا كانتا بافتعال الحاكم، فالناس غير مستعدين لبذل أموالهم لأجل شيء مفتعل.

هذا بالإضافة إلى أن الحاكم الإسلامي يجب أن يكون مقيداً بالشريعة، ولا ضرائب في الشريعة، باستثناء الخمس والزكاة والجزية والخراج، وإن حدثت أزمة واقعية، فالأخذ يكون للضرورة (والضرورات تقدّر بقدرها) بالإضافة إلى لزوم اشتراك الناس في حدود الضرورات، لا الاستبداد بالحدود فإن *أَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ*(289). والتدخل في شؤون الناس المالية ليس خاصاً بأخذ الضرائب الاعتباطية، بل يشمل المصادرة وتقييد التجارة والزراعة والصناعة والعمارة، ونحو ذلك مما يمارسه العديد من حكام البلاد الإسلامية.

وهنا سؤال، هو أنه كيف تقوم الدولة بنفقاتها الكثيرة في العصر الحاضر بدون ضرائب إضافية عمّا أقرّه الإسلام؟، وقد أجبنا عن ذلك في كتاب (الفقه: الاقتصاد) وغيره، بما حاصله يرجع إلى ثلاثة أمور:

الأول: يلزم على الدولة تقليل الموظفين، فلا حاجة إلى كثير

منهم، وبذلك يخفّ الحمل على كاهل الدولة.

الثاني: تترك الدولة غالب الشؤون على عاتق الأمة، أمثال المستشفيات والمدارس والمواصلات والماء والكهرباء والبريد والهاتف، وغيرها، وإنما تشرف الدولة على الأمور لأجل تكميل النواقص، ولأجل عدم التعدي والإجحاف.

الثالث: إذا اضطرّت الدولة لفرض ضرائب إضافية، تجبيها بموافقة الناس وأخذ آرائهم، فإن الناس إذا اشتركوا في فهم الاحتياج، واشتركوا في إعطاء الرأي لكيفية العلاج حقيقة في أجواء حرة، لا صورية بتهيئة الأجواء المكذوبة كما يفعلها الديكتاتوريون من الحكام قبلوا الضرائب بكل ترحاب ولا تكون كلاًّ عليهم وثقلاً على كاهلهم.

السير في طريق الرسول صلي الله عليه و اله

لا يمكن إرجاع الإسلام إلى حياة المسلمين بتجميع بلادهم في حكومة واحدة تستوعب ألف مليون مسلم إلاّ بالسير في طريق الرسول صلي الله عليه و اله فحكومات الإسلام في هذا اليوم، حالها حال القبائل المتنافرة والبلاد المتشتتة في زمان الرسول صلي الله عليه و اله، فقد جمع صلي الله عليه و اله القبائل قبيلة قبيلة، والبلاد بلداً بلداً وحيث رأوا في الرسول صلي الله عليه و اله خير قائد، وفي الإسلام خير منهج، أسرعوا في الدخول في الإسلام والانضواء تحت لوائه.

وهكذا اللازم اليوم تجميع الحركات الإسلامية، كالأحزاب والمنظمات والجمعيات والهيئات، واستقطاب النشاطات الإسلامية، كالمكتبات، والمدارس، ودور النشر، والمجلات والجرائد، وغيرها في تيار واحد.

والقول بأن حكومات الاستعمار لا تدع ذلك منقوض بأنه في زمن الرسول صلي الله عليه و اله كانت حكومة الشرق والغرب (الفرس والروم) بمنزلة حكومات الاستعمار في هذا اليوم، هذا بالإضافة إلى ما نرى من أن الهند والصين مع تعدد حكوماتهما، واستعمار المستعمرين لبلادهما، تمكنتا من الخروج من نير المستعمرين، ولا نريد بذلك صحة حكومتهما بالنظر الإسلامي، بل نريد بيان

إمكان ذلك حتى في العصر الحاضر، وفي المثل المشهور: حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والتمكن من جمع البلاد بحاجة إلى كفاءات كبيرة، وتعقّل واسع، وحزم عميق، وإذا لم يتوفر كل ذلك في الحركة، لم تتمكن من الوصول إلى الهدف.

وبالعكس إذا تمكنت فقد وصلت إلى مبتغاها، كما ظهرت مقدرتها الفائقة، فإن حلّ الصعاب يظهر قدرة الحلاّل وقوة كفاءته.

والأمر المهم أن تتجمع القوى بكل صبر ومثابرة وحكمة، وتعقل وخُلق حسن وحزم، حتى تصل إلى الهدف، وتنقذ البلاد وتخلّص العباد.

ومن المهم أن نعرف كيف تقوم الدولة وكيف تبقى البلاد تحت حكم الإسلام بعد تغلّبه، وقد نرى في التاريخ القريب أن الآخوند (رحمه الله تعالى) تمكن من إنقاذ إيران من الاستبداد لكنه استشهد، ولم يكن المسلمون من بعده في مستوى أن يحافظوا على المكسب الكبير الذي حصل، وكذلك نرى أن الشيرازي (رحمه الله تعالى) استطاع إنقاذ العراق من الاستعمار البريطاني (حيث كانت بريطانيا أكبر دولة ووراءها ألف مليون من البشر وبأحدث الأسلحة وأحسن تنظيم، والعراق نفوسها بضع ملايين، بلا سلاح ولا جيش ولا نظام) لكنه استشهد (رحمه الله تعالى) والذين أتوا من بعده لم تسنح لهم الظروف لحفظ الاستقلال، وإن جاهدوا لأجله مشكورين في جهادهم وجهودهم حتى اُبعدوا.

ونرى في سيرة الرسول صلي الله عليه و اله:

أولاً: كيف جعل الأسس للسير البطيء الذي لا يخشى سقوطه بعد الوصول، فإن السير السريع يسرع زواله، وفي المثل: (بطيء النمو بطيء الزوال، وسريع النمو سريع الزوال)، ولذا اشتغل الرسول صلي الله عليه و اله طيلة رسالته من أول يومها إلى يوم وفاته، بتربية الناس لا تربية قولية فحسب،بل عملية أيضاً، حتى كوّن *أُمّةً وَسَطاً*(290) و*كُنْتُمْ خَيْرَ

أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ*(291).

وبذلك تمكن

صلي الله عليه و اله من جلب ثقة العالم إلى نفسه كرسول، وإلى دينه كمنهاج حياة، فإن الناس إذا عرض عليهم مبدأ، يجرّبون من أتى به، ونفس المبدأ، هل الآتي بالمبدأ يصلح لأن ينضووا تحت لوائه؟ وهل مبدأه يصلح أن يكون بديلاً عما بيدهم من المبدأ؟

لا هذا فحسب، بل اللازم أن يروا الآتي بالمبدأ خيراً ممن هم تحت لوائه الآن، وأن يروا المبدأ خيراً من مبدئهم الذي هو بيدهم الآن، وإلاّ فأي داع لأن يغيّر الإنسان سيده إلى سيد مساوٍ له؟! وأي داع لأن يغير الإنسان منهاجه إلى منهاج مساوٍ لذلك المنهاج؟

ولا ينتهي الأمر بخصوص تأييد بعض الغوغاء ممن يصفّقون له، ويمدحون مبدأه، ويتركون السيئات ويذكرون الحسنات. فإن الغوغاء والشعار لا يزيدان العقلاء إلاّ بعداً ونفوراً، فإذا لم يتمكن العقلاء من هدم المبدأ الجديد ذي الشعارات الزائفة، وإخراج صاحبه ذي التصفيقات الفارغة عن الميدان بصورة سريعة، فإنهم يأخذون في هدمها بكل صبر وتؤده، فلا يمرّ زمان إلاّ وترى حامل المبدأ في قائمة العتاة، ومبدأه في قائمة المبادئ المرمية في مجاهل التاريخ.

وثانياً: كيف تمكن من الاستيلاء على القبائل والبلاد، حيث حوّل (صلى الله عليه وآله) قوّته الأخلاقية ومبادئه السامية إلى ترجمة عملية، فتمكن (صلى الله عليه وآله) بذلك من الاستيلاء أولاً، والإبقاء ثانياً.

فمثلاً: نرى في فتحه صلي الله عليه و اله لمكة أكبر حكمة ممكنة، مما لا يُرينا التاريخ مثل تلك الحكمة، لا قبل الرسول صلي الله عليه و اله ولا بعده، فمكة عاصمة الشرك والعتاة والفجرة، الذين حاربوا الرسول صلي الله عليه و اله أقسى حرب باردة وحارة منذ إظهاره صلي الله عليه و اله الدعوة إلى يوم الفتح، وقد تمكن الرسول صلي

الله عليه و اله من الاستيلاء عليها بكل سهولة، وتمكن من إبقاء سيطرته عليها، فلم تضطرب مكة من بعد الفتح أقلّ اضطراب، مع أن الرسول صلي الله عليه و اله لم يجعل فيها حامية، ولم يُسكن في ربوعها جالية، ولم يُبد رجالها، ولا صادر أموالها.

وإنما كانت الحكمة في ذلك النجاح الهائل، بدءً واستمراراً، رهين حكمة الرسول صلي الله عليه و اله التي تجلّت في:

1: أن الرسول صلي الله عليه و اله لما فتح خيبر أرسل بمال كثير إلى مكة ليقسم بين أهلها، وهم على حربهم مع الرسول صلي الله عليه و اله وشركهم.

2: عفا صلي الله عليه و اله عن أبي سفيان حين جاء به العباس إلى خبائه قبل الفتح.

3: جعل صلي الله عليه و اله يوم الفتح يوم المرحمة وحفظ الحرمة، لا يوم الملحمة وسبي

الحرمة.

4: جعل صلي الله عليه و اله دار المناوئين لهم أمناً، وأعطاهم الأمان إذا ألقوا أسلحتهم ودخلوا دورهم، أو دخلوا المسجد الحرام. وبقي صلي الله عليه و اله على عهده، فلم يغدر بعد أن تسلّط بأن ينتقم منهم، كما هي عادة الحكام حيث يظهرون العفو حتى إذا تم لهم الاستيلاء أخذوا في الانتقام.

5: أطلق صلي الله عليه و اله سراح المجرمين بكل جلاء فقال لهم: (أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوانه لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء)(292).

6: لم يستردّ صلي الله عليه و اله دور المسلمين التي صادرها الكفار، وحين قيل له صلي الله عليه و اله ألا تنزل دارك؟ قال: وهل أبقى فلان لنا داراً؟

7: لم يصادر شيئاً من أموالهم.

8: ردّ مفتاح الكعبة إلى ذلك المشرك، لكي يظهر للناس أنه صلي الله عليه و اله لا يطمع

في الاستيلاء على امتيازاتهم.

9: ردّ أسلحة صفوان، مع أنه كان من مجرمي الحروب التي كانت تُشنّ ضد رسول الله صلي الله عليه و اله، فقد كان في مكة بمنزلة وزير الدفاع، حتى أن صفوان بنفسه تعجب من هذا الخلق الرفيع.

10: أعطى زعماء المعارضة الذين كانوا يستحقّون القتل ومصادرة الأموال وإلغاء الامتيازات، شيئاً كثيراً من غنائم حنين.

11: لم يُحمّلهم خسارات الحروب التي شنّوها على الرسول صلي الله عليه و اله، ولا دية أصحابه وأقربائه الذين قتلوهم، ولم يكن ذلك لأنهم أسلموا (والإسلام يجبّ ما قبله)(293) بل لم يسلم أكثرهم.

12: لم يجبرهم على الإسلام، وعمل بقوله سبحانه: *لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ*(294).

13: أشركهم في الحكم، حيث جعل بعضهم من قادة جيشه، حيث توجّه صلي الله عليه و اله مباشرة إلى حنين.

14: قال صلي الله عليه و اله لحاكمه عتاب بن أسيد: (أحسن إلى محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).

ولم يكن ذلك مجرد لفظ، كما اعتاد الحكام أن يطلقوه، ثم يتآمرون في تصفية المناوئين، وذلك كي يجمعوا بين الانتقام وبين إظهار أنفسهم في مظهر الشهم الكريم.

بل كان قوله صلي الله عليه و اله وعمله متطابقين، فقد رأى أسيد كيف عفا صلي الله عليه و اله عن المتآمرين لقتل حمزة عليه السلام وعلى رأسهم (هند) والتي لاكت قلبه، وجعلت أذنيه وأنفه وأصابعه و.. قلادة، تفتخر بها على النساء المشركات، وقد رأى أسيد كيف عفا صلي الله عليه و اله عن (هبّار) الذي ألقى ببنته (زينب) من الهودج، مما سبّب قتل جنينها وقَتْلها بعد أن مرضت مدة، والتحقت بعد ذلك بالرفيق الأعلى، إلى غير ذلك.

الحرب والدولة

ربما يُتوهم أن الحرب حاسمة فلابدّ للدولة من الحرب، سواء لأجل الوصول إلى الحكومة أو لأجل توسعتها أو

لأجل إبقائها. إنه لا شك في أن الحرب حاسمة، لكن الكلام في أربعة أمور:

الأول: هل السلاح يأتي إلى يد الحركة الإسلامية بالحرب أو بالتنظيم والتوعية؟

الثاني: هل إذا تمكّنت الحركة الإسلامية من قيادة الجماهير، تتمكن من إسقاط النظام السابق بالحرب، أو بِشلّ قوى النظام بدون حرب؟

الثالث: هل إذا اضطرت الحركة ولو بعد الوصول إلى الحكم إلى الحرب، مع من يريد اجتثاث جذوره، الأفضل أن لا تبدأ بالحرب حتى لا يقال إن الحركة الإسلامية غير محبّة للسلام، حتى تكون السمعة للحركة الإسلامية، أو أن تكون الحركة هي البادئة حتى تظهر بمظهر الظالم المعتدي؟

الرابع: إذا كان لابدّ من الحرب، فهي اضطرار يُقدّر بقدره، فإن ثلاثة أرباع الانتصارات تعتمد على الأعمال الدبلوماسية، فهل انتزاع الانتصار بجعل الربع الأخير عملاً حربياً وثلاثة أرباعها الدبلوماسية أفضل، أو جعل الجميع عملاً حربياً؟

وإذا كانت الأجوبة على هذه الأسئلة واضحة، فالحركة الإسلامية تبدأ بجمع الأنصار والتنظيم والتوعية، ثم تسقط الأنظمة الاستعمارية المباشرة، والأنظمة العملية بالإضرابات والمظاهرات والتمردات، وإذا اضطرت إلى الحرب، تبادر بها هي لكي لاتكون للمعتدي حجة عليها أمام العالم، وإن أمكن أن تدفع الحرب بالطرق السلمية فذلك خير، وإذا لم تنفع الطرق السلمية، تجعل العمل الحربي ربعاً للحرب، وثلاثة أرباع للحلول السلمية. وإلى كل ذلك، تشير سيرة الرسول صلي الله عليه و اله وسيرة علي عليه السلام مما هو معروف للناس.

وبهذه المناسبة لا بأس إلى أن نشير إلى أمر آخر، وهو أن اللازم على التيار الإسلامي قبل الوصول إلى الدولة، والدولة الإسلامية، أن يتجنب القتل بكل قوة فإن القتل يثير الناس إثارة بالغة، ولا ينسى الناس مَن قتل أولادهم وأقرباءهم وأصدقاءهم، وذلك إذا لم يؤثر في الخط

القريب إبان قدرة التيار أو قدرة الدولة، فإن ذلك يؤثر في الخط البعيد.

فأولاً: القتل يوجب رد الفعل في سائر الشعوب، حيث يقولون: (إن الإسلام دين القتل)، فإن الناس يرون عمل حكام كل مبدأ تجربة عملية لذلك المبدأ، ولذا ينظرون إلى النازية والفاشية والشيوعية بمنظار قتلى هتلر وموسيليني وستالين، وإذا حصل رد الفعل في الشعوب فمن الأكيد أنهم يكيدون لإسقاط مثل هذا النظام، وكيد الشعوب ينتج، وما الداعي لأن يعمل الإنسان عملاً يوجب سقوطه وسقوط مبدئه؟.

وثانياً: القتل يوجب تأليب الأمة ضد الحكم القائم، فإنهم وإن كانوا ضعفاء حين قدرة التيار، أو قدرة الدولة، إلاّ أن الميزان سينقلب إلى قوة الأمة وضعف التيار والدولة، وحين ذاك يكون السقوط، بل الإبادة الكاملة، كما رأينا كيف أبادت الأمة بني أمية، وغيرهم من الذين امتهنوا القتل. ولذا نرى في سيرة الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام التجنب عن القتل إلى أبعد حد، فقد عفا رسول الله صلي الله عليه و اله عن كفار مكة، وعن الذين تآمروا على قتله صلي الله عليه و اله في ليلة العقبة، وعلله صلي الله عليه و اله بأنه لا يريد أن يقول الناس: إن محمداً قتل أصحابه، وعلي عليه السلام قال بعد أن ضُرب وقد تآمر على ضربه جماعة: (لا ألفينكم يا بني عبد المطلب تخوضون دماء المسلمين، تقولون قُتل أمير المؤمنين عليه السلام ألا لا يقتل بي غير قاتلي)(295).

وقد ذكر بعض المحققين من المؤرخين أن القتلى في كل حروب الرسول صلي الله عليه و اله من الجانبين المسلمين والكفار ألف وثمانية، وقد كان علي عليه السلام يخطو خطى الرسول الرسول صلي الله عليه و اله فعفا عن أهل

الجمل والنهروان بعد أن ظفر بهم، وكان إذا أخذ أحد أصحاب معاوية حلّفه بأن لا يساعد معاوية ثم تركه وشأنه، وقضايا عفوه عليه السلام كثيرة.

ولذا تبوّأ هذان القائدان الإلهيان، أعظم مكانة في نفوس المسلمين، وفي نفوس سائر البشر، مما أوجب تقدم الإسلام تقدماً عظيماً، وقد أحصى بعضهم أن كل الذين قتلهم علي عليه السلام بسبب الجنايات في تلك الدولة الشاسعة الأطراف، والتي قال بعضهم عنها أنها على خريطة اليوم، تحتوى على خمسين دولة، وكانت أكبر دولة في عالم ذلك اليوم كانوا زهاء مائة شخص فقط، في مدة خمس سنوات تقريباً، مع العلم أن الجريمة والفوضى، كانت ضربت بأطنابها في ربوع البلاد الإسلامية من جرّاء سوء تصرف الحاكم السابق. ومن هنا نرى بُعد مدى سياسة الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام في هذا الشأن، كبعد مدى سياستهما في كل الشؤون، كما قال ضرار لمعاوية يصف الإمام علياً عليه السلام: (كان والله بعيد المدى)(296).

كما يتجلى ذلك في عمق الأشعار التي قالها بعضهم عن لسان النبي وآله عليهم السلام:

ولما ملكتم سال بالدم أبطحُ

ملكنا فكان العفو منا سجية

ظللنا عن الأسرى نعفّ ونصفحُ

وحلّلتم قتل الأُسارى وطالما

وكلُّ إناء بالذي فيه ينضح

فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا

ويأتي الكلام أخيراً، في أن التيار الإسلامي أو الدولة الإسلامية، ماذا تعمل بالحدود الشرعية التي فيها القتل؟

والجواب: القتل غالباً يمكن تفاديه:

1: فالقصاص يمكن تفاديه بإرضاء ذوي المقتول، وقد توسّط الإمام السجّاد عليه السلام في إرضاء ذوي المقتول.

2: واللواط والزنا الموجبان للقتل، لا يحصل الشهود عليهما، (أربعة عدول رأوا كالميل في المكحلة) إلاّ نادراً ندرة كبيرة، وإقرار المرتكب أربع مرات قليل ونادر جداً.

3: والارتداد لا يُوجب القتل إذا كان عن شبهة، والارتداد لا عن

شبهة قليل جداً.

4: أما أن يرتكب إنسان المعصية الكبيرة مرات ويُحدّ ثلاث مرات، ثم يعود فذلك إن وقع فهو في غاية الندرة.

5: والذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، فللحاكم نفيهم، وتبديل النفي بالسجن، كما ذكرناه في كتاب (الحدود والتعزيرات).

وغير هذه الموارد أقل منها عقوبة كما هو في الفقه.

وربما يزعم زاعم أن الرسول صلي الله عليه و اله لو كان يقتل المنافقين، لم يصل الأمر بعده إلى تلك المشاكل، ولو كان يقتل علي عليه السلام المناوئين لم يتسلّط على الأمر من تسلط من بعده؟

وكلا الزعمين لا يصدران إلاّ عمّن لا اطلاع له على الأوضاع الاجتماعية ولا على التاريخ، فإن قتل المنافق يولّد منافقين وأحياناً محاربين، وقتل المناوئ يولّد مناوئين وأحياناً مقاتلين. نعم إذا كان الرسول صلي الله عليه و اله يقتل المنافقين، لتحطّم الإسلام في يومه الأول كما أشار إلى مثل ذلك علي عليه السلام حين قال لفاطمة عليها السلام: (لا تسمعين هذا الاسم) أي (اسم محمد صلي الله عليه و اله) كما أن علياً عليه السلام لو كان يقتل المناوئين لأبادوا آله في أوّل فرصة، كما أبادوا آل أمية في أول فرصة، فلم يصل الأمر إلى وجود الباقر والصادق والكاظم والرضا وغيرهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وإلى ذلك أشار بعض الأئمة عليهم السلام في بيان وجه عفو علي عليه السلام عن أهل الجمل.

هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن التاريخ يضع الرسول صلي الله عليه و اله وعلياً عليه السلام في قمة البشرية المثالية التي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير.

إذن فمن الضروري على التيار الإسلامي والدولة الإسلامية، أن يجعلا القتل في قائمة (لا)، لا في قائمة (نعم)، وبذلك يمكن التقدم والازدهار

المطلوبان.

نظام الدولة الإسلامية

وإبداء التيار الإسلامي لنظام الدولة الإسلامية ضروري قبل الشروع في الحركة العامة، فإن الناس لا ينضوون تحت لواء حتى يعرفوا أبعاد التحرك تحته، فلا ينفع أن يقول الزعماء للناس: إننا نريد توحيد بلاد الإسلام تحت قيادة إسلامية صحيحة، ولا إننا نريد تحرير المسلمين من نير الاستعمار والطغيان، فإنهم يتساءلون: وكيف ذلك؟ وكم المدة المترقبة للوصول إلى الهدف؟ وما هو الميثاق الذي تعمل به الحركة إلى حين الوصول؟ فاللازم أن تجعل الحركة (المبدأ) و(المنتهى) و(الكيفية).

هذا بالنسبة إلى التيار، أما بالنسبة إلى الأطروحة فالمهمّ أن يبين كيفية الحكم في الإسلام؟ وكيفية الاقتصاد والاجتماع؟ خصوصاً وقد اتهم الإسلام حتى عند جمهرة من المثقفين بأنه دين الاستبداد واستعباد المرأة، ودين القتل والسوط، ودين سلب الحريات، وقد وجد المتهمون تبريرات كافية للاتهام في أعمال جملة من الخلفاء والسلاطين والأمراء، الذين لوّثوا سمعة الإسلام بأعمالهم الوحشية (اللاإنسانية واللاإسلامية). ومن الطبيعي أن الناس لا ينضوون تحت لواء جديد، إلاّ بعد أن يتيقّنوا أنه أفضل من اللواء القديم. ومن يراجع التاريخ، يرى أن رسول الله صلي الله عليه و اله كيف تقدم إلى الأمام، حيث عرف دينه بأنه دين التحرر، ودين التوحيد بين الناس، ودين المساواة أمام القانون، ودين العقل، ودين الرفاه، ودين إعطاء كل ذي حق حقه. وقد طبق بنفسه صلي الله عليه و اله كل ذلك، حتى صار خير قائد يراه الناس، فلم يكن لهم مانع من أن يستبدلوا قيادته بقياداتهم السابقة.

إذن اللازم أن يكون المنهج بحيث يرى المثقفون في العالم الإسلامي، بل في كل العالم، أن حرياته أفضل من حريات العالم المعاصر، وأنّ حكمه أحسن من حكم الديمقراطيين، وأن اقتصاده خير من اقتصاد الشيوعيين والرأسماليين والاشتراكيين،

وأن رفاهه أوفر من رفاه ما يسمى بالعالم الحر، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، يرون في القائمين بالحركة أنهم يصلحون لأن يكونوا قادة لهم، عوض قياداتهم القديمة، وأن يروا نظام الحكم المترقب يعطي لهم الفرص الكافية لأن يصعدوا إلى أعلى الدرجات إذا كان عندهم الكفاية، أما أن يروا أنهم سيظلون في الدرجة الثانية مهما كانوا ذوي كفاءات، فذلك مما يزهدهم في الإقبال على مثل هذه الحركة ومثل هذا النظام. ولذا فمن الضروري في (الحركة) أن تكون دورية انتخابية، لا أن يظل الرؤساء رؤساء، وغيرهم في درجة ثانية، كما أن من الضروري أن يكون (الحكم) كذلك، فلا وراثة ولا استخلاف، كما لا بقاء يدوم لأحد في الحكم. وحينئذٍ فمن الضروري أن يكون للأطروحة جهة إيجابية تبيّن محاسن الحكم الإسلامي الذي يُراد تطبيقه، ومساوئ الحكم غير الإسلامي الذي يبتدئ بمجلس الأمم المتحدة، مثلاً يقال: إن الأمم المتحدة على اتفاق الدول في القبول به فيه نقائص مشينة، مثل:

1: إن الدولة الكبيرة ذات الملايين، والدولة الصغيرة ذات الربع مليون متساويتان في الأصوات، مع أن القاعدة العقلانية تقتضي تساوي البشر، لا تساوي الدول.

2: اعتراف الأمم المتحدة بالحكم الوراثي، والحكم الانقلابي، وكلاهما سحق للكفاءات، فالكفاءة يجب أن تكون هي الحاكمة، لا لأنه قريب فلان، أو لأن بيده السلاح، وأي فرق بين وراثة ولد الطبيب لأبيه الطبيب، وجعل إنسان نفسه طبيباً لأن له مدفعاً، وبين الحكم، فإن الحكم كفاءة ذاتية واختيار أكثرية الناس للحاكم، كما أن الطب كفاءة، واختيار المريض للطبيب، وهكذا بالنسبة إلى سائر الكفاءات.

3: إعطاء حق الفيتو لبعض الدول، أو ليس ذلك أشبه بإعطاء حق الفيتو للتاجر الأكثر مالاً في قبال التجار الذين هم أقل أموالاً؟ وإذا كان

هناك فارق فما هو ذلك الفارق؟

4: قبول جعل التفاوت بين الناس بالولادة، مما لا مدخلية للإنسان فيه، مثلاً في بلد لا يصلح لبعض الوظائف غير العربي، وفي بلد لا يصلح غير التركي، إلى غير ذلك من الأمثلة، إلى سائر النقائص الموجودة في القوانين والتي هي خلاف العقل والمنطق.

4 سبل الوصول إلى الحكم

سبل الوصول إلى الحكم في العالمين القديم والحديث، ثلاثة أمور:

1: الحظ، كأن يولد الإنسان في بيت الملوكية، أو بيت السيادة، والمقصود بالحكم أعم من الحكم الوراثي والاستخلافي وسائر مناصب الدولة، حيث إن رأي الفرد لا الأمة دخيل في الوصول إلى الحكم، مثلاً ابن الملك يصل إلى الملوكية، ومن يهواه الرئيس من المتملّقين له، يهيئ الرئيس الأجواء لإيصاله إلى الحكم، حيث إن بيد الرئيس الدعاية والمال والسجن، ومن الواضح أن هذه الأمور كفيلة بإيصال من يشاء الرئيس إلى ما يشاء، وهكذا بالنسبة إلى سائر مناصب الدولة.

ولا علاج لذلك إلاّ بأن تكون القدرة موزعة بالأحزاب والصحف والإعلام الحر، حتى يقف القادرون أمام قدرة الرئيس، وحين توزيع القدرة، مع وجود المنهاج الصحيح، لا يكون الناس نهب أوامر الرؤساء، يفعلون ما يشاؤون، تارة باسم (الحق الإلهي)، وتارة باسم (الديمقراطية)، وتارة باسم *أَنَاْ رَبّكُمُ الأعْلَىَ*(297).

2: الخداع، بأن يجتمع جماعة من العسكريين ومن إليهم، ثم يقفزون على الحكم بالسلاح ثم يفعلون ما يشاؤون من الانغماس في الملذّات، وقتل الناس، ومصادرة أموالهم، وملء السجون بهم، وخراب البلاد، كما فعله عبد الناصر، وعبد الكريم، وعبد السلام، والبكر، وصدام، وببرك، وأمثالهم من الذين جاؤوا إلى الحكم بالسلاح.

وهذا القسم، كان في الزمان السابق متداولاً بدون الاستعمار، وفي العصر الحاضر يتعارف ذلك بمعونة الاستعمار في قضايا معروفة، ولا تحصد البلاد من وراء أمثال هؤلاء الحكام

إلاّ الدماء والخراب والقتل والحرب والسجن والتعذيب والاضطرابات والإضرابات والمظاهرات والثورات.

وقد يأتي الحاكم إلى الحكم، فحينما يصل يمهّد الجو لنفسه ليعمل بعنف، فيصادر الحريات، ويسلب الأموال، ويملأ السجون، ويحطم البلاد اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بتحطيم الكفاءات واستقطاب الإمّعات، ومن الواضح أن الحكم لا يبقى مع العنف، فقد قال علي عليه السلام: (من علائم زوال الحكومات تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل).

والسبب واضح، حيث إن (الإمعّة) لا تأتي منها الإدارة، لعدم كفاءتها فيأخذ الحكم في الذوبان حتى يسقط. ولا يخفى أن صفة حاكم كهذا: أنه يقطع عهده بأصدقائه، ويحاول الانتقام من المحسنين إليه، ويقتل الناس، ويتنكر لعهوده، ويتخلى عن الرحمة، ويسلب أموال الرعية، إما لنفسه إذا كانت له شهوة جمع المال، وإما باسم المشاريع العمرانية أو تحت ستائر أخرى، وترى البلاد في عهده أقرب إلى الشعارات من الحقائق، والكل يسبّح بحمده، ويذكرون له ما لا يتصف به، ويحتقرون أعمال الآخرين، إلى غير ذلك من لوازم الفردية. ولو قرأ الإنسان في العهد البعيد أحوال فرعون وشدّاد، وفي العهد المتوسط أحوال معاوية وهارون، وفي العهد القريب، أحوال أتاتورك وبهلوي وعبد الناصر وستالين وماو، ومن إليهم، لرأى كل ما ذكرناه في أحوالهم رأي العين.

ومن لوازم مثل هذه الحالة، أي يصطف في قبال الحاكم الذي يكون هكذا، ذوو كفاءات ينقصونه، ويذكرون مثالبه، ويهيئون الأجواء ضده، حتى يسقطوه، فتمتلئ الشوارع والأندية والكتب وغيرها بفضائحه وآثامه.

3: الكفاءة، ولذلك عند الديمقراطيين شرائط خاصة في الحاكم بالإضافة إلى اختيار أكثر الشعب له، أما عند الإسلام فالأمر أفضل، لأن الإسلام يرى من شرائط الحاكم الخوف من الله تعالى والعدالة، بالإضافة إلى شرائط خاصة فيه، واختيار الأمة له، ومن الواضح أن من يخاف الله في باطنه لا يظلم

ولا يتجاوز على القانون لأجل مصالحه وأهوائه.

أما ما نرى في بعض الناس من أنهم كانوا يخافون الله ظاهراً، ثم يعملوا بالأهواء، فمن الممكن أنهم كانوا يخشونه سطحياً لا عمقياً، فظهر عمقهم عند الوصول إلى الحكم، كما أن من الممكن أنهم انقلبوا *أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ*(298). وعلى أي حال، فالجمع في (الحاكم) بين رقابة الله ورقابة الناس أفضل من اشتراط (رقابة الناس) فقط.

ثم من علائم الحاكم الكفوء:

1: رفع المعنويات.

2: تكثير ذوي الخبرات والنابهين.

3: الاعتماد على الكفاءات، لا على المحسوبية والمنسوبية، والذين يصفقون له ويسبّحون بثنائه.

4: السير بالأمة إلى تكامل الماديات.

5: الإحسان الدائم، لا باعتبار أن ذلك إحسان وصدقة، بل باعتبار أنه ضرورة وفريضة. أما الإساءة الدائمة، أو الإساءة ولو مرة واحدة، أو الإحسان في بعض الأحيان، دون بعض، فهو من فعل الديكتاتوريين، حيث يزعم بعضهم أن الشعب يساق كالحيوان، فالمهم الحاكم ومصالحه، ويزعم آخر أن الإساءة مرة واحدة تنسى، غافلاً عن أن الشعب يحصي أعمال الحاكم ويبقي في ذاكرته كل صغيرة وكبيرة، ولكنه يصبر حتى يأتي الزمان المناسب للرّد، ويزعم بعضهم أن الإحسان في بعض الأحيان يكفي، مع أن الناس ينظرون إلى الحاكم نظرتهم إلى خَدَمتهم، فكما ينظرون إلى الخادم إذا لم يقم بواجب خدماته، كذلك حالهم مع الحاكم، منتهى الأمر أن سلاح الحاكم يحول دون الطرد بأوّل تكاسل، وإنما يجتمع لديهم السيئات حتى يتمكنوا من الطرد.

والناس أذكياء، فإذا أحسن إليهم الحاكم أيام شدته، لا يطيعون أمره في قبال إحسانه، فإنهم يعلمون أنها معاملة وأن إحسانه اشتراء لهم، لأجل نفسه لا لأجلهم، وإنما يتفانون للحاكم إذا رأوا منه الإحسان أيام الشدّة وأيام الرخاء على حدّ سواء، حتى أنه ورد في الحديث بالنسبة إلى الله

سبحانه بذلك، قال عليه السلام: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، أما *فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ*(299) فذلك خداع لا ينطلي على الإنسان، فكيف ينطلي على الله سبحانه؟

والحاكم العاقل فضلاً عن المسلم يجب عليه أن يخدم الشعب دائماً، وليس لأجل الناس بل لأجل نفسه كذلك، إذ خدمته الدائمة هي التي تضفي عليه حبهم وتفانيهم في سبيله، وخلاصه من المشاكل التي تهجم عليه. ومن الأمثلة الحديثة للحكام الذين أساءوا إلى الشعب فتركهم الشعب في ساعة المحنة:

(البهلوي) في إيران، حيث إنه لما دخل الحلفاء من جنوب إيران وشماله، لم يجد البهلوي ولا ناصراً واحداً ينصره، فسقط في أقل من يوم...

و(الملكيون) في العراق، فإنهم أساءوا إلى أكثرية الشعب أكبر إساءة، ولذا لما قام (قاسم) مع أقل من ألف جندي في مهاجمتهم، سقطوا وكان السرور بسقوطهم غامراً.

القمة والقاعدة

في كل أمة (قمة) تأخذ بزمام الحكم، و(قاعدة) هي الأمة، والقاعدة يرتفع منها دائماً أفراد يشكلون (الطبقة المتوسطة) وهم الذين يرتبطون بالمال أو بالعلم أو بالسلاح أو بجماعة كالتجار والعلماء وكبار الضباط ورؤساء العشائر وقادة الأحزاب.

والقمة إنما تتعامل مع القاعدة بطريقتين:

الأول: الطريق المباشر.

الثاني: طريق الطبقة الوسطى.

ومن طبيعة الوسط أنه لقدرته:

1. ذو كيد ودهاء من ناحية.

2. وفيه حالة استغلال من ناحية ثانية.

ومن طبيعة (القاعدة) أنها تريد العيش بسلام وأن لا تُظلم، وعليها العمل، ومنها مال الدولة وجندها وولاؤها.

وبين الوسط والقاعدة دائماً تدافع حيث إن الوسط يريد الاستغلال، والقاعدة تأبى الاستغلال، كما أن بين الوسط والقمة نوع تنافس على القدرة والاستفادة من القاعدة.

واللازم على الحاكم أن يلاحظ أمرين:

الأول: أنه يكون له اتصال بهما، لا أن يستقطب أحدهما فقط

ويترك الآخر، لأنه لو استقطب الوسط فقط، ظلم الوسط والقاعدة، وانفضَّت القاعدة من حول الحاكم، وبذلك لا يخدمون البلاد في أيام الرخاء لأنّ ظلم الوسط لهم وعدم إنقاذ الحاكم إياهم يوجب برودهم عن التفاني في الإخلاص والخدمة ولا ينقذون الحاكم أيام الشدة، لأن منطقهم يكون حينئذٍ (أن من له الغُنم فعليه الغُرم).

ولو استقطب القاعدة فقط، قام الوسط ضد الحكم وفرّقوا الناس عن الحاكم، وبذلك يأخذ الناس في الانفضاض من حوله، فتسقط القمة، كما إذا سقطت أعمدة البناء حيث يسقط العرش.

ومن الأمثلة القريبة لكلا الأمرين (مُصدّق) حيث استقطب بعض القاعدة وترك جماهير الوسط تغضب عليه، حتى رجم رجاله سيارة الإمام البروجردي رحمة الله عليه وهددوا العلماء والخطباء، وأساءوا التصرف مع أصحاب الأملاك والمعامل، ولذا سقط سقوطاً ذريعاً، و(الشاه) حيث استقطب الضباط الكبار والأثرياء ومن إليهم، وترك أكثرية الشعب يتلوّون تحت وطأة الفقر والجوع والمرض (حتى أن بين كل عدّة أطفال في إيران كان يموت طفل منهم) فأثّر ذلك على الطبقة المتوسطة، التي لم يتمكن الحكم من استقطابها، كالعلماء والمثقفين غير المرتبطين بالبلاد فسقط السقطة المعروفة.

فعلى الحاكم، أن يراعي الطبقة المتوسطة، إلى جانب رعايته للقاعدة، ولا يترك أحدهما اعتماداً على الآخر، فمن ناحية يُصادق الوسط، ويحول دون ظلمه، والغالب أن المتوسط إذا رأى أنه أعطي قدر كفاءاته لا يفكر في إسقاط الحاكم، لأنّ خوفه من أن يأتي حاكم آخر أسوأ من الأول فلا يعطيه حتى قدر كفاءاته يحول دون التفكير في إسقاطه.

الثاني: أن يتصل بالقاعدة ويعطيهم حقهم، ويحول دون أن يظلمهم أحد، وبذلك يخلصون له ويتفانون في سبيله، ولا يكون هناك انقطاع بين الحاكم وبين القاعدة، فلا يتمكن ذوو الدهاء

من الطبقة الوسطى من إثارتهم ضد الحاكم.

ثم إن اتصال الحاكم بهم، ليس معناه أن يحضرهم في كل مناسبة ويخطب لهم فحسب، بل معناه الجلوس لهم والسماع منهم وقضاء حوائجهم، كما كان يفعله الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام.

بين الدين والدنيا

حَكَم جماعة باسم الدين، فأكثروا من السلب والنهب ومصادرة الأموال والقتل والسجن، وكبت الحريات وخنق الأصوات، وتحطيم الكفاءات وتقديم الإمعات، فزعم البعض أن هذه الأمور هي من لوازم الحكومة الدينية. كما أن الدين يخالف الخمور والسفور والفجور والقمار وما أشبه، فاتَّهم الدين بأنه ضد الحريات.

بينما لم يكن عمل أولئك حجة على الدين، كما لم يكن عمل المستبدين الذين حكموا باسم الديمقراطية حجة على الديمقراطية، فالدين من أولئك الحكام براء، بل الدين عبارة عن احترام أموال الناس وحرياتهم ودمائهم وأعراضهم وتقديم الأفاضل وتأخير الأراذل، كما دلّت على ذلك مئات الآيات والروايات، وسيرة الرسول صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام وجملة من الحكام الصالحين.

أما مخالفة الدين للخمور والفجور، فهي مخالفة الفضيلة للرذيلة، فإذا أخذ الدين بالزمام وطارد الرذيلة، لم يكن ذلك نقصاً فيه، بل حاله حال مطاردة القانون للسرقة والقتل والاغتصاب وما أشبه ذلك.

وإذا أخذ الدين بالزمام بمعنى تطبيق قوانينه فالناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم، ولا ضريبة إلاّ الخمس والزكاة والجزية والخراج، (مما لا يكون إلاّ بنحو الربع في الأرباح) وكانت حريات التجارة والزراعة والصناعة والعمران والكتابة والرأي والتجمع متوفرة، وطورد الفقر والمرض والبطالة والجهل والعزوبة، وأعطي المال والعلم والسلاح والحكم للكل، مما يتبلور في مثل (شورى القيادة) و(تعدد الأحزاب الإسلامية الحرة) وغيرهما، وإذ ذاك لرأى الناس من الخير ما لم يروه تحت أي قانون أو مبدأ.

وهذا المجمل يجب أن

يفرغ في أقوال واضحة المعالم: كيف الضرائب؟ كيف الحريات؟ كيف تقسيم القدرة؟ كيف تأمن البلاد من هروب البضائع إلى الخارج؟ وإسراع بضائع الخارج إلى الداخل مما يسبب اختلال توازن الاقتصاد، بدون وضع الكمارك أو المكوس؟ كيف يكون حال البلاد الإسلامية إزاء سائر المسلمين الذين لم تتحرر بلادهم؟ كيف تلغى قوانين الجنسية والهوية والتذكرة والإقامة وبطاقات العمل ونحوها، حتى ترجع إلى الناس حرياتهم؟ كيف يمكن جعل العلم والمال والحكم في متناول الكل، بحيث يتمكن كل ذي كفاءة أن يأخذ أيها شاء بقدر كفاءته؟ كيف تجري الحدود الشرعية بدون أن يكون في إجرائها القسوة، ويجمع بين ذلك وبين مطاردة الجريمة؟ وهكذا.

ولا يخفى أن مراحل الطريق ثلاث:

الأولى: مرحلة الشرح والتوضيح والمقارنة بين معالم الدولة الإسلامية المرتقبة، وبين الدولة القائمة في عالم اليوم.

الثانية: مرحلة تطبيق القوانين على الخارج المعاش حين تقوم الدولة الإسلامية، ليرى الناس بأعينهم الفارق الكبير بين الدولة الإسلامية وبين سائر الدول، كما فعله رسول الله صلي الله عليه و اله حيث بيّن للعالم الفارق الكبير بين دولته التي أقامها، وبين دولتي الفرس والروم، بل ويرى الناس إلى هذا اليوم الدولة المثالية التي أقامها رسول الله صلي الله عليه و اله مما يتمنى مثلها المسلم وغير المسلم.

الثالثة: مرحلة حفظ تلك الدولة من الانهيار والتصدع، وهذه المرحلة تحتاج إلى أمرين:

1: بناء الأمة، لتحمل الدولة في شغاف أفئدتها، وتتعلق بها تعلق الحبيب بمحبوبته.

2: بناء الجيش الموالي، الحسن التدريب والمال والتوزيع، ليكون سوراً لهذه الدولة.

(أ) فالجيش قد يكون موالياً بأن ربي على حسب فكر الدولة، وقد يكون مرتزقاً، والمراد بالمرتزق الأعم من أن يكون استخدم من نفس أبناء الوطن في قبال المعاش، أو استخدم من خارج الوطن في قبال

ذلك، فإن الموالي يضحي ويثابر إلى حين النجاح، بينما المرتزق من داخل الوطن إنما يعمل لأجل المعاش، ومن يعمل لأجل المعاش يهرب عند أول لقاء، ويُسلق بألسنة حداد عند الرفاه، لأنه ليس مخلصاً، وإنما يخلص للمال ومن أخلص للمال يتبنى المال من حيث وجد، فيكون سلق اللسان لأجل الابتزاز والتفاخر في حال الرخاء، ويكون خائر العزيمة جباناً عند الشدة.

ومثل هذا الجيش كَلّ على الدولة في كلتا الحالتين.

وإذا كان مرتزقاً من خارج الدولة، فإنه إن انهزم وهو الأكثر توقعاً لأنه ليس بمخلص كان سقوطاً للدولة، وإن ضحى كان سيداً على الدولة، حاله حال المستشارين، وقد رأينا كيف أن (جيش أمريكا) في إيران كان سيداً على البلاد، وإن (جيش روسيا) في مصر كان سيداً على البلاد، وإلى غير ذلك من الأمثلة.

وليس من التعقّل أن يُستخدم جيش هو سيئ على الدولة في كلا الحالين.

والغالب أن الدولة التي لا كفاءة لها تستخدم المرتزق، إما لأنه لا كفاءة لها حيث لا كفاءة لرئيس الدولة، وإما أنه لا كفاءة لها من جهة حكم الديكتاتور، والديكتاتور تنفض من أطرافه الكفاءات، فليس له من الأنصار من يتمكن بسببه من تدريب الجيش وضبطه.

(ب) والجيش قد يكون حسن التدريب، وقد يكون سيئ التدريب، والجيش السيئ التدريب لا يعتمد عليه، ولا يخفى أن حسن التدريب ليس بالتدريب العسكري فحسب، بل بأن يكون مدرّباً نفساً ونظاماً، فإذا لم يكن تدريبه نفساً ونظاماً لم ينفع، ومن أولى شرائط تدريبه نفساً أن يكون مستنداً إلى الأمة، فإن الجيش عبارة عن أولاد الأمة، فإذا كرهت الأمة الدولة لم تشجع الجيش على حفظ الدولة، وذلك يوجب برود الجيش عن العمل.

وقد تغتر بعض الحكومات الجديدة بجيش من الشباب ذوي حماس

واتّقاد، لكن هذا لا ينفع، إذ الجيش فن وعلم، وليس الحماس والاتقاد ينفع في هذا الباب، فهل ينفع الحماس في باب الطب أو الهندسة، حتى ينفع في هذا الباب؟ ولذا رأينا كيف سقط (قاسم) ولم ينفعه ما أسسه من (المقاومة الشعبية)، وكيف سقط (عبد السلام) ولم ينفعه ما أسسه من (الحرس الوطني)، وكيف أن (ستالين) التجأ إلى الغرب ضارعاً، لينقذه من (هتلر) الذي وصل إلى (موسكو) بعد أن كان يسمي (الأمم المتحدة) ب(مغارة اللصوص) فاضطر إلى أن يتملقهم، ويقبل شروطهم والتي كان منها (فتح مراكز العبادة) وإجازة الملكية الفردية والسماح بتكوين العائلة وغير ذلك.

وبعد هذه الشروط أنقذوا رقبته من حبل النازي، وذلك لأن جيشه كان غير مدرب نفسياً، من جهة عدم دعم الأمة الروسية للجيش، فإن الديكتاتورية الشيوعية حالت دون إخلاصهم وتفانيهم. هذا من ناحية التدريب النفسي، أما من ناحية التدريب العسكري، فالجيش يجب أن يربّى على الحزم والطاعة والنظام، وإلاّ لم يتمكن من مقابلة الأعداء في الساعة الحرجة، ولذا انهارت فرنسا أمام ألمانيا أفضع انهيار في الحرب العالمية الثانية، حيث تمكنت الميوعة من الجيش الفرنسي.

ولا يخفى أن (التدريب النفسي) يمكن أن يدخل في قسم الولاء، لأن عدم إسناد الأمة للدولة يوجب عدم ولاء الجيش للدولة.

(ج) والجيش يجب أن تصرف عليه مبالغ جيدة تكفيه المؤونة، وإلا لم يضحِّ وهو يرى أنه لا يقدر على مؤونته فكيف يراد منه أن يضحّي براحته ودمه؟.

فاللازم على الدولة مراعاة الجيش اقتصادياً مراعاة تامة، إلى جانب ضبطه حتى لايتعدّى، حيث إن السلاح الذي بيده يوجب له الغرور والظلم للناس والسدور في الغيّ.

ولذا نشاهد أن البلاد التي تقع تحت الاستعمار الخفي، لا يُعتنى بجيشها اقتصادياً، فمثلاً: في العراق كان

الجندي يتقاضى من الراتب ثمن راتب المعلم في أيام الملكيين، حيث كان المراد إذلاله، لئلا تقوم له قائمة ويطالب بالاستقلال. وفي الحرب العالمية الثانية، حين أفتى الإمامان الأصفهاني والقميّ وسائر العلماء بوجوب إخراج الإنجليز كان الدور الأهم في تلبية النداء للعشائر، أما الجيش فكان خائر العزيمة.

(د) وأخيراً يأتي دور حسن التوزيع في البلاد الكبيرة، والتي منها الدولة الإسلامية، ذات الألف مليون بإذن الله تعالى لابدّ وأن تكون كل أرجائها ذات منعة ودفاع، من جهة هجوم الأعداء من الخارج، ومن جهة حفظ البلاد عن المغامرين الذين يدفعهم حبّ السلطة إلى الانقلاب ضد الحكم القائم.

واللازم على الدولة الإسلامية أن لا تعتمد على المعادلات الدولية في حفظ نفسها، فإن (الطائر بجناح غيره طائرٌ على جناح السقوط). ولا يمكن حفظ البلاد من الأعداء والمغامرين إلاّ بحسن توزيع الجيش، وقد رأينا كيف أن بني أمية ثارت عليهم جيوش بني العباس من أقصى شرق خراسان والبعيد عن دمشق عاصمة ملكهم، وكيف أن العثمانيين حطّموا من جهة الحجاز، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثم هنا أمور يلزم التنبيه عليها:

الأول: أن حفظ البلاد بالجيش وحده غير ممكن، بل الحافظ الأهم بعد الله سبحانه هي الأمة، فالأمة غير الراضية توجب سقوط الدولة قريباً أو بعيداً، وقد تغتر بعض الدول بالإعلام المزيف وبحفنة من الإمّعات المتملّقين وبجملة من الشباب المتحمسين، وفي ذلك مقتل الدولة، وقد رأينا (عبد الناصر) كيف لم يتمكن ب (خمسين مليون) من الصمود حتى نصف يوم (في حرب ست ساعات) أمام إسرائيل ذات ثلاثة ملايين، وذلك لأن إسرائيل كان يدعمها شعبها، و(عبد الناصر) ديكتاتور، تكرهه الأمة، وكان قد استقطب المتملقين الذين لا شأن لهم إلاّ التصفيق له.

الثاني: الجيش مثله

مثل النار، فالنار في نفس الوقت الذي تتوقف الحياة عليها يلزم أن تزم بزمام شديد، وإلا أورثت إبادة الحياة، فإن الجيش حيث بيده القوة الكبيرة يمكن أن يكون آلة الدمار، كما رأيناه في الانقلابات العسكرية. حيث إن الحكومات التي انقلب الجيش عليها، كانت قليلة الحكمة فلم تحسب لهذا اليوم الحساب الكافي، ولذا كان ما فيه حياتها، فيه هلاكها. فقادة الجيش إذا لم يكونوا أكفاء، لم يحموا الوطن في قبال الأجنبي، وإن كانوا أكفاء فهم يغامرون بالقفز على السلطة، ولذا فاللازم الجمع بين كفاءة الجيش من جهة القيادة وغيرها لحماية البلاد، وبين حفظ السلطة من أخطار الانقلاب.

وإنما تحفظ السلطة بأمرين:

1: أن يجعل قادة الجيش بعضهم في قبال بعض، حتى يخشى كل منهم من رقبائه، ويعلم أنه إذا تحرك لضرب السلطة تحرك رقيبه لضربه.

2: أن تجعل قوة أخرى في قبال قوة الجيش، كقوة البوليس أو قوة المقاومة أو ما أشبه، مع ملاحظة جعل الرقباء أيضاً في نفس القوة الثانية حتى لا يخشى من تلك القوة أيضاً.

مع أنه يضاف إلى ذلك أيضاً، جعل العاصمة قطعاً، بالنسبة إلى قوة البوليس ونحوه، بحيث تكون كل قطعة مستقلة غير مرتبطة بالأخرى، حتى إذا تحركت قطعة لضرب السلطة، تحركت سائر القطع لضربها، وبذلك لا تؤسس نفس القوة في القفز على السلطة. وإلا فالبلاد معرضة للانقلابات، خصوصاً والمستعمرون الشرقيون والغربيون كلٌ يريد الانقلاب ليأتي إلى السلطة بعملائه، ولذا حدث انقلاب أمريكي في مصر بقيادة عبد الناصر، وآخر بريطاني في العراق بقيادة قاسم، كما حدث انقلاب شيوعي في أفغانستان، وانقلاب صيني في إندونيسيا، وهكذا توالت الانقلابات في تركيا واليمن والسودان والباكستان وبنغلادش وغيرها، وكلها كما يعلمه أهل الخبرة انقلابات استعمارية لا حظ فيها حتى

بقدر جزء من ألف جزء من الواقعية، بَلْهَ الإسلام.

وطابع كل الانقلابات، السلب والنهب والقتل والسجن والتعذيب والديكتاتورية، ومزيد من العمالة للأجنبي، وسحق الإسلام والحريات، وتشريد المواطنين، باسم التقدمية والشيوعية والبعثية والقومية والديمقراطية، وما إلى ذلك مما ادخره المستعمر في حقائبه لتغرير الجهال. وما دام الجهل والغفلة مسيطراً على بلاد الإسلام، فأمثال هذه الانقلابات تدوم وتدوم، كما أن أمثال العمالات بالحكومات الوراثية تدوم وتدوم، والعلاج هو الوعي الشامل الذي يقطع جذور المستعمرين وعملائهم.

الثالث: يلزم على الدولة الإسلامية، أن تهتم ليكون السلاح من عندها، وإلا فهي أسيرة لمن يبيعها السلاح، ولا يكفي أن نقول إننا نشتري السلاح من الأسواق الحرة، إذ من يقذف بالسلاح في تلك الأسواق؟ أليس هم المستعمرين؟ وذلك لأمرين:

1. أن يستفيدوا من أرباحها المضاعفة.

2. أن يأخذوا بأزمة الحرب، فإذا أرادوا إيقافها، لم يوجد السلاح في الأسواق الحرة، حيث يقطعون السلاح عن تلك الأسواق.

الرابع: إن اللازم على الدولة الإسلامية الجمع بين الاستعداد الدائم والتدريب المستمر، وبين كون أفراد الجيش قريبين من أهاليهم، وبالأخص زوجاتهم وأولادهم، إذ عدم تزوج الجيش يوجب الفساد لا محالة، ولذا كان الرسول صلي الله عليه و اله والمسلمون حتى في أسفارهم يستصحبون زوجاتهم، فاللازم أن يكون حال الجيش حال طلاب المدارس، حيث إنهم في أهلهم غالباً، إلاّ وقت الدراسة.

أما الجيوش في الحال الحاضر، فهم على الأغلب عزّاب، وغير العزّاب لا يرى زوجته إلاّ في الأسبوع يوماً أو ما أشبه، وذلك يوجب الخطر على الزوجات وعلى نفس الجيش، كما يوجب ضياع الأولاد، ثم إن بقاء الجيش على الأغلب غير متزوج (كما يشجع على ذلك نظام الجنود في الغرب، وتبعته البلاد الإسلامية من غير هدى) يلازم بقاء كثرة من الفتيات بلا أزواج، وذلك

مفسدة أخرى.

الخامس: يلزم استعداد الدولة الإسلامية للحرب على الدوام(300)، فإن الحكومة العاقلة هي التي تستعدّ للحرب، وإلا خسرت الحرب، ولذا قال سبحانه: *وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ*(301).

واللازم أن يكون الأمر بين الاستعداد الدائم وبين صرف الطاقات للحرب بالقدر اللازم، وصرف بقايا هذه الطاقات في سائر الشؤون، إذ صرف كل الطاقات في الحرب معناه عدم الانتفاع بكثير من الطاقات، فالتأهّب للحرب لا يستهلك كل طاقات الجيش، فإذا لم تستغل بقية طاقاته في سائر الأمور الحيوية ذهبت تلك الطاقات الباقية هدراً، وصار الجيش بأجمعه كَلاً على الإنتاج، بينما اللازم أن ينتج الجيش بقدر إمكانه، وكلما نقص إنتاج الجيش يكون مستهلكاً بقدر هذه النقيصة لإنتاج غيره. وقد ذكرنا في جملة من كتبنا الإسلامية كيفية بناء الجيش في الإسلام.

المعرفة والتعقل

يلزم على التيار الإسلامي الذي يريد إنقاذ بلاد الإسلام، وتوحيدها تحت حكومة واحدة، أن يهيئ لنفسه أكبر قدر من المعرفة حول:

1. وضع جغرافيا البلاد: جبالها، سفوحها، أنهارها، بحارها، غاباتها، طبائعها.

2. وخصوصيات أهاليها: من العرب والترك والفرس وغيرهم، وألوانهم

وغيرها.

3. والأقليات التي يعيشون فيها من أهل الكتاب وغيرهم، وقدر نشاطهم واتصالهم بالبلاد غير الإسلامية.

4. سوابق المستعمرين في هذه البلاد، وكيفية استعمارهم، وركائزهم وارتباطهم.

5. الأعداء المحيطين بالبلاد، مثلاً: حدود إيران مع روسيا، وحدود البلاد الإسلامية مع الدول الغربية، وغير ذلك.

فإن البلد الإسلامي الكبير، حاله حال دار الإنسان وأهله، فإذا لم يعلم عدد أولاده وخصوصياتهم، ولم يعرف خصوصيات داره، وأحوال المجاورين له، لم يقدر على السير بعائلته إلى شاطئ السلام، وقد ورد في التاريخ التطلع الدائم للرسول صلي الله عليه و اله عن أوضاع وأحوال البلاد، وحركات العدو، والاستفسار عمّن غاب من المسلمين بل عن حالات كل مسلم كلما سنحت له الظروف

بذلك، مثل أنه هل هو متزوج أو لا؟ ماذا يعمل؟ كيف حاله؟ إلى غير ذلك في قصص كثيرة مذكورة في سيرته الطاهرة صلي الله عليه و اله.

كما أن على التيار الإسلامي أن يطالع أحوال العظام والأمم المعاصرة والبائدة ليقتدي بالناجحين، ويعرف أسباب ظهور الأمم، وأسباب فنائهم.

قال عليه السلام: *وسر في ديارهم وآثارهم*(302).

وفي كلمة أخرى له عليه السلام: *أعقل الناس من جمع عقل الناس إلى عقله*.

وقد أخذهما عليه السلام من قول الله تعالى: *أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ*(303)، وقوله سبحانه: *وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ*(304).

ثم على الدولة الإسلامية بكل سلطاتها الأربعة (شورى الفقهاء، والقوى التشريعية التطبيقية والتنفيذية، والقضائية) أن تستقطب أكبر قدر من المثقفين الدينيين والزمنيين، حيث إن الحياة أصبحت معقدة، فإذا لم تكن حول الحكم جمهرة كبيرة من المثقفين اختل أمر الدنيا، أو أمر الدين، أو لا أقل من أن سائر أهل البلاد غير الإسلامية ينظرون إلى البلاد الإسلامية بنظر التوحّش والتأخر مما ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، أو احتذاء بلاد الإسلام في الحكم والإرادة.

فمثلاً: كيف تنفي الدولة الفقر أو البطالة أو الإجرام أو المرض أو الجهل، ومع ذلك يكون طبقاً للإسلام في طريقة علاجها؟ كل ذلك بحاجة إلى جيش من علماء الدين إلى جنب جيش من المثقفين الزمنيين، أما أن تركب الدولة الإسلامية رأسها وتعمل عمل الديكتاتوريين في علاجاتها للمشاكل فذلك ما يسبب لها الفوضى والبوار، والاحتقار من سائر بلاد العالم وأخيراً الانهيار.

ثم إن اللازم الأكيد أن تتوسط الدولة الإسلامية في الصفات، لا أن تتطرف، حيث إن التطرف الذي يأخذ طريقه إلى الدول المستبدّة، يسبب سوء السمعة بالنسبة إلى الدولة وبالأخص الفتية من الدول، وليس المهم أن تمدح الدولة أبواق الدولة، وإنما المهم أن

يمدحها عقلاء البلد وعقلاء العالم، وإلا فكل دولة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لها أبواق تمدحها، كما أن لها عملاء استقطبتهم بالترهيب والتضليل والترغيب.

ومن معالم التوسط:

1. أن تفكر الدولة فيما يمكن، لا فيما ينبغي، فإن من يفكر في المثاليات غير الممكنة التطبيق يفوّته الممكن ولا يصل إلى ما يتوخّاه.

2. وأن تأخذ بالتوسّط بين الكرم والخسارة، فقد تبذل الدولة ما لا طاقة لها به، سواء في المشاريع أو للأصدقاء أو للحرب، بعنوان أنها تحب الخير لشعبها، أو أنها كريمة مع أصدقائها، أو أنها تريد تعليم الذي يحاربها درساً لا ينساه، وبذلك تجلب الدمار على نفسها وشعبها، وخير لها أن لا تكون مغرورة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله: *إن الدين رفيق فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى*(305) كما لا حاجة إلى الظهور بمظهر الكرم الذي يسبب الخسارة.

3. وكذلك اللازم أن تتوسط بين الرأفة والنظام، فالرأفة الزائدة على حساب النظام خطأ، كما أن النظام الصارم الذي يوجب القسوة يعقبه الانهيار، فليس البشر كغاية يدخلها الإنسان فيقطع ما يشاء ويَذر ما يشاء، بل خلق ضعيفاً له عواطفه وحاجاته وتعقلاته، فاللازم مداراته، مداراة غير مفسدة، ولنعتبر ذلك بالأب إن قسى مع أولاده أفسدهم، وإن تلاطف معهم أفسدهم أيضاً.

4. وأن تجمع بين الحب والمهابة، فالدولة إذا لم تحبّها الأمة احتقرتها وازدرت بها، والاحتقار من بوادر السقوط، كما أن الدولة إذا لم تكن مهابة عاشت في ربوعها الفوضى، مما يرفع الثقة بها، وإذا لم تثق الأمة بالدولة انفضت من حولها حتى يكون مصيرها السقوط إن عاجلاً أو آجلاً. ومن شعب ذلك، يجب أن لا تكون الدولة مبتذلة، ولا في الأبراج العاجية، فإن

الدولة المبتذلة غير مهابة، كما أن سكان الأبراج العاجية لايعرفون ما يدور في بلادهم، مما يسبب الرشوة والفوضى وانتقام كل مناوئ من مناوئه، وغير ذلك، مما يسبب سقوط احترام الدولة وقيام المؤامرات لإزالتها.

5. ومن أهم ما يلزم على الدولة الإبقاء على الجماهير، وذلك شيء صعب، حيث إن الجماهير لها حاجاتها ولها توقعاتها، فإذا لم تتحفّظ الدولة على الجماهير بإعطاء الحاجات (الروحية والجسدية) وإبقائها راضية، ابتعدت الجماهير عنها، بما يوجب سقوطها قريباً أو بعيداً.

6. ولا تزعم دولة تتمكن أن تسحب الناس إلى الشوارع أو إلى حرب الأعداء بأعداد غفيرة، إنها دولة جماهيرية، ما لم يكن ذلك مستنداً إلى الرغبة الصادقة في الناس، وهذا ما يلتبس أحياناً على بعض الدول الدكتاتورية.

فإنك إذا تمكنت من سحبهم إلى الشوارع، وإرسالهم إلى جبهات القتال وفي البلاد حرية الإعلام، وحرية الصحافة والتجارة والزراعة والصناعة، فإنك لا شك محبوب وجماهيري، ولا تخاف من سقوط دولتك، أما إذا تمكنت من ذلك والبلاد لها حزب واحد، وأبواب السجون مفتوحة لكل من خالفك، ولا حرية للصحافة ولا لغيرها، فإن الجماهير مزعومة والدولة في شرف الانهيار.

والكل يذكر كيف أن (عبد الناصر) و(قاسم) كانا يتمكنان من سحب الجماهير، لكن الكل يذكر أيضاً كيف انتهت عاقبتهما، وكل دولة ديكتاتورية يجب أن تنتظر نفس المصير لنفسها ولشعبها.

والديكتاتوري الذي يتمكن بترغيبه وترهيبه وإضلاله من إرسال الجيوش إلى الجبهات يلزم عليه أن ينتظر الفشل الذريع، فالجيش إذا لم يكن مدعوماً من الشعب لا يتمكن من إحراز النصر، وقد رأينا كيف سقط هتلر وموسوليني، وكيف سقطت الحكومات المواجهة أمام إسرائيل، وذلك لأن الحكومات المواجهة كانت ديكتاتورية مع شعوبها، بينما كانت حكومة إسرائيل تراعي نوعاً ما شعبها، ونفس هذا المصير الشائن

ينتظر كل حكومة غير جماهيرية، وإن ادّعت أنها جماهيرية.

7. واللازم على الحاكم أن تكون له سعة الصدر، فإن غير واسع الصدر في الدولة الاستشارية لا يصل إلى الحكم، وفي الدولة الانقلابية والوراثية، إذا وصل ضيق الصدر إلى الحكم فسرعان ما ينفض الناس من حوله، وأحياناً يحاربونه بقوة السلاح إلى أن يسقطوه، ويجعلوا مكانه غيره، وقد قال علي عليه السلام: *آلة الرئاسة سعة الصدر*(306).

والمراد بسعة الصدر، السعة في الأمور كلها، لا في الأمور المالية فحسب، فيغطي على السيئة، ويبذل مكان البذل، ويعطي الآخرين حقوقهم، ولا يحسد، ولا يظهر شماتة، وإلى غير ذلك، وأحياناً ترى أحدهم يصل إلى الحكم ويستولي على بلاد عريضة، ثم يأبى أن يكون زميله في مكانة مرموقة، تنفيذاً لحقد قديم وحسد سابق، بل أحياناً يبخل حتى عن قبر محترم لإنسان كبير لا يليق به إلاّ مثل ذلك القبر!.

ولا يظن ضيق الصدر أن الأمر يمر بسلام، بل بالعكس يتراكم، وإذا بالتراكم يذهب بالدولة والسمعة إلى الأبد، وقد رأى التاريخ كيف أن بني أمية منعوا الحسين عليه السلام من الماء وسبوا نساءه، وأحرقوا جسد زيد، ثم تسلّط عليهم أعداؤهم حتى طاردوهم عن البلاد، ومنعوهم عن الطعام والماء، حتى هاموا في القفار وأكلوا الرمل والطين، وكانوا يبولون في كفهم ويشربون لسد عطشهم، وأسروا نساءهم وزنوا بهن، وأطعموا لحومهم الكلاب والهررة كما في قصة شمر حيث أكلته الكلاب، وذلك الخليفة الذي ألقى لسانه المقطوع إلى الهر فأكله، إلى غيرها وأخرجوهم من المقابر وجلدوا حتى أمواتهم بالسياط، وأحرقوا جثثهم، ثم بقوا لعنة التاريخ إلى الأبد. قال علي عليه السلام: *إذا ملكت فاسجح*.

وفي القرآن الحكيم: *إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا

وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ*(307). وفي نهج البلاغة عنه عليه السلام: *يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم*(308).

إن سمعة الناس، وأموالهم، وأعراضهم، وحقوقهم، ومساكنهم، كلها محترمة، وكل تعد بغير حق على أحدها علامة الحقد والجهل ونحوهما، حتى أنه لو ضرب الحاكم سوطاً لإنسان لا يستحقه، أو أرعب إنساناً، أو صاح عليه، كان اللازم أن يقتص منه أو يعطي أرشه، أو يعزل جزاء ما فعله. ولذا ضرب علي عليه السلام قنبراً بالسوط حيث ضرب إنساناً أكثر من حقه(309)، وأعطى رسول الله صلي الله عليه و اله مالاً لأجل إخافة خالد بعض الناس بغير حق(310)، وعزل علي عليه السلام قاضيه أبا الأسود الدؤلي، لأن صوته يعلو صوت الخصمين، إلى غير ذلك من القصص التي تحاول البشرية لأن تصل إليها، ولا يمكن الوصول إلاّ بشق الأنفس، مما يعتز بها المسلمون أمام العالم منذ أربعة عشر قرناً، ويترقبونها لدولتهم الإسلامية العالمية الشاملة المقبلة بإذن الله تعالى.

وقد يضيق صدر بعض الحكام أن يكبر إلاّ من هو في خطه، وهذا الحاكم لا يريد إلاّ نفسه ولو كان يصدق في أنه يريد الهدف والهدف أياً كان من وطن أو إسلام أو قوم أو.... لزم عليه أن يهتم بأن يكبر كل ذي كفاءة، فإن الغابة لا تكون غابة إلاّ بأشجار كبيرة كثيرة، فهل البلد يكون بلداً قوياً إلاّ بكثرة الكبار والشخصيات؟

وقد كان أحد المراجع يقول: إنه يعظّم ويكبر كل ذي كفاءة لأنه يريد عظمة الإسلام ووقوف بلاد الإسلام أمام الأجانب، ولا يسنح ذلك إلاّ إذا كان هناك كثرة من الكبار ذوي الكفاءات الرفيعة.

ولا تتوهم الدولة أنه إذا كبر الكبار عارضوها، بل العكس، إذا كبّرتهم الدولة واحترمتهم، كانوا من أنصارها وأعوانها،

فإن الإنسان عبد الإحسان، ولقد قال علي عليه السلام: *عجبت ممن يشتري العبيد بماله كيف لا يشتري الأحرار بإحسانه*(311).

8. يلزم على الحاكم أن يكون صحيح العمل إلى أبعد حد، وفياً بالمواعيد والعهود، فلا يكون غادراً ولا ماكراً ولا خادعاً، ولا متآمراً ضد الناس، فإن بعضهم يظهر نفسه بمظهر المسالم المحب للخير، ثم يتآمر مع بعض أعوانه ضد الناس، يريد بذلك أن يجمع بين نظافة مظهره وبين أن يصل إلى مآربه.

فإن المكر والغدر والخدعة والتآمر، كلها لا تفتأ أن تظهر، وبذلك يفقد الحاكم حكمه وسمعته، بل من عادة الناس أنهم إن اطلعوا على مكر الحاكم وخداعه في بعض الأمور ينسبون إليه كل رذيلة، ولا يصدقونه بعد ذلك في شيء، وقصة ذلك الراعي الذي كان ينادي كذباً: (الذئب، الذئب) حتى لم يصدقه الناس بعد أن رأوا منه الكذب مكرراً، فجاء الذئب وأكل غنمه، وكلما صاح لم يصدقه الناس، وذلك الولد الذي كان يسبح، فينادي غرقت، حتى لم يصدقه الناس، لما رأوا منه الكذب مكرراً، وذات مرة غرق فلما صاح لم يغثه أحد حتى مات، وغيرهما من القصص المشهورة.

وقد زعم بعضهم أن الحاكم إذا لم يكن أسداً كاسراً وثعلباً ماكراً، ومنتهزاً للفرص يغتنمها متى وجدها، ولو بنقض العهود، وحنْث الوعود لم يتمكن أن يعيش، وربما سقطت دولته، وعللوه بأن الناس دهماء، وأنك إذا لم تتغد بالآخرين تعشوا هم بك، فاللازم عليك أن تكون متآمراً ذا رياء ومكر وخداع، وعلى هذا بنوا قاعدة: (الغاية تبرر الوسيلة) وما هي الغاية؟ إنها وصولك إلى السلطة أو بقاؤك فيها أكبر مدة.

وهذا الزعم باطل، فإن البشر لا يبنى على الكيد والخداع ونقض العهد، ولذا نرى في التاريخ، إن كل من ارتكب

ذلك سقطت دولته وظهرت سوءته، ووقع فيما زعم أنه فر منه، بل في أسوأ، (كالمستجير من الرمضاء بالنار)، فأيهما أكثر سلطة في زمانه، وأحمد عاقبة بعد مماته: هيرودس وجالوت أم سليمان وداود؟ أبو جهل وأبو سفيان وسائر حكام مكة أم الرسول صلي الله عليه و اله؟ معاوية أم علي عليه السلام ؟ المختار أم ابن زياد؟ إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثم في الغرب هل حكام الكنيسة وحكام الباستيل، كانوا أهنأ حكماً وأفضل عاقبةً، أم الديمقراطيين الذين جاؤوا من بعدهم؟ وفي الزمن القديم إسبارطة أم أثينا؟ إلى غير ذلك من الأمثلة. والغالب عند هؤلاء الذين يرون الانتهازية أنهم ينظرون إلى حاكم فاشل، وحاكم نجح في السلطة، وينسون أن من فشل كان ذلك لعدم مؤهلاته لا لبعض فضيلة وجدت فيه. وإذا صحّ ما ذكروا، فلماذا أخرج ستالين من قبره وأحرق؟ ولماذا ثار الناس على الأمويين حتى قتلوهم؟ ولماذا ثاروا على الكنيسة حتى أزالوا حكمها إلى الآن؟ ولماذا؟ ولماذا؟

ثم لماذا اُخرج المستعمرون البريطانيون من الهند؟ والأمريكان من فيتنام؟ وفرنسا من الجزائر؟ وهولندا من إندونيسيا؟ والروس من آذربيجان إيران في قصة بيشاوري؟ إلى غير ذلك من الأمثلة. وقد يمثل بعض المسلمين لصحة تلك النظرية بعلي والحسن * ومعاوية، وبالحسين عليه السلام ويزيد، وبالكاظم عليه السلام وهارون، وكل الأمثلة خطأ، فعلي عليه السلام حكم أحسن حكم وسبّب سيادة أولاده إلى الأبد، واستفاد حسن سمعته إلى يوم القيامة، ومعاوية حكم أسوأ حكم حيث كان معرضاً للإهانة والازدراء والاحتقار، ومات مقتولاً من أثر تلك الضربة التي ضُرب بها، وسبب سوء سمعته إلى الأبد، وأوجب نسف أولاده وإبادتهم إلى اليوم، فأيهما كان أعرف وأفهم وأكثر إدارة وأحزم حكماً؟

والحسن والحسين *، والكاظم عليه

السلام، وسائر الأئمة عليهم السلام: هم لم يريدوا الحكم، لعلة ذكرناها في كتاب (ثورة الإمام الحسن عليه السلام) و(تحويل معنوية الإسلام..). ثم من غير العادي أن يعطي الحنظل مذاقاً حلواً، وقصب السكر مذاقاً مراً، أليس كذلك؟.

ثم إن الدولة الاستشارية، لا شك أنها تفهم ما لا يفهمه كثير من الناس، من الظروف والملابسات التي تفرض نفسها لاتخاذ المواقف، فاللازم أن تتمسك الدولة بحالة الإقناع الدائم لمواقفها، بواسطة مختلف وسائل الإعلام، وبواسطة جملة من المحنكين، من رجال السياسة والاطلاع والارتباط بالناس، حتى لا يؤدي إهمال أولئك الناقمين إلى تفاقم النقمة، وربما وصلت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.

أما الدولة الدكتاتورية وإن كان لها أجهزة ديمقراطية صورية فإنها بمعزل عن ذلك، فلا ينفع لها أن تكون لها جماعات للتفاهم والإسلام لوجهة نظرها، إذ ذلك فرع على شرعيتها، والحكومة الديكتاتورية لا شرعية لها.

وقد كان رسول الله صلي الله عليه و اله وعلي عليه السلام إلى آخر أيامهما، لهما هذه الحالة الإقناعية، وفوق ذلك، كان الرسول صلي الله عليه و اله يقول: (أيها الناس أشيروا علي)، وقد جعل الإمام عليه السلام من حق الرعية عليه أن يعطوه المشورة، كما في نهج البلاغة، وقد نقل الحر العاملي (رحمة الله عليه) في الوسائل عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: *أحبّ إخواني إليّ من أهدى إلي عيوبي*(312)... وهل يرى الحاكم الإسلامي نفسه خيراً من هؤلاء الأطهار؟.

وقد يخدع بعض الحكام الدكتاتوريين أنفسهم فيقولون: إننا نستشير أيضاً، لأنهم يستشيرون حفنة من الإمعات الذين استقطبوهم حول أنفسهم، لكن هذا الخداع لا ينطلي إلاّ على أنفسهم، فهل كانت تلك طريقة استشارة الرسول صلي الله عليه و اله؟ أو هل مثل ذلك يشمله كلام الإمام

الصادق عليه السلام؟ أو هل ينفع هذا في إرضاء الأمة، وتقليب وجه الرأي والوصول إلى الإصلاح؟.

5 ثبات الدولة

على الدولة أن تكون ثابتة الأركان، لتجلب اعتماد الناس، فيعمل كل عامل بطيب خاطره مما يوجب ظهور الكفاءات، وازدهار البلاد، فإنه إذا كانت الدولة مضطربة، توقف كل عن عمله، فتجمد الكفاءات ولا يعمل أي عامل، لا في الزراعة ولا في الصناعة ولا في التجارة، ولا في غيرها، وبذلك تزداد الدولة اضطراباً، وكثيراً ما ينتهي مثل هذه الدولة إلى السقوط.

وليس الاستقرار بالادعاء، والكلمات الفارغة، والخطب التي تلقى من على منبر الإذاعة والتلفزيون، بل بفتح الجامعات وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلا مصادرات ولا إعدامات، ولا ضرائب اعتباطية، ولا يخاف الناس من أن يتكلموا، أو أن يكتبوا.

والاستقرار داخلي وخارجي، أما الداخلي فلا يحصل إلاّ برضى الناس عن الدولة، وذلك لا يكون إلا بكون الدولة حرة، ذات انتخابات حقيقية لا صورية، وحريات مكفولة، وبذلك لا تتشكل جماعات الاغتيال والأحزاب السرّية المناهضة للدولة، لأن البساط مسحوب من تحت قلة مناوئة للدولة، فلا تجد الأنصار لتشكيل الأحزاب السرية، وتكوين جماعات الاغتيال. وكذلك لا يتجرأ المناوئون حينئذٍ من المغامرة والتآمر ضد الدولة والانقلاب عليها، لأنهم:

أولاً: لا يجدون الأنصار بالقدر الكافي، إذ لا شيء يدعو الناس إلى الثورة على الحكومة الاستشارية التي تعطي حاجات الناس بقدر إمكانها.

وثانياً: يخشون عدم استجابة الناس لهم إذا ثاروا أو تسلّطوا على الحكم، لأن المتآمرين يعرفون أنهم لا يجدون الاستجابة من الناس إذا ثاروا، ومن المعلوم أن الثورة لا تنجح إذا لم تجد استجابة من الناس.

ولذا نجد أن الحكومات الاستعمارية، لا تقوم بالتخطيط للانقلاب إلاّ في بلاد أخذ كره الشعب لحكامها كل مأخذ، فيستقبل الناس المتآمرين في لباس

الانقلاب بالتصفيق والترحيب، وإلا كيف تتمكن جماعة من ضباط مصر أو ضباط العراق في عهد عبد الناصر وقاسم، أن تقلب الموازين في بلد نفوسه أكثر من أربعين مليوناً أو اثني عشر مليوناً، وكذلك في سائر البلاد التي حدثت فيها الانقلابات.

ولو أمكن الانقلاب بهذه الصورة، فلماذا لا يحدث الانقلاب في أوروبا أو أمريكا، بل وحتى في إسرائيل؟ إن المتآمرين ومحبي السلطة والمغامرين موجودون في كل تلك البلاد، لكنهم لا يفعلوا ذلك لأمرين:

أولاً: لا يجدون الأنصار.

وثانياً: يعلمون بأن شعوب تلك البلاد لا ترحب بالانقلاب، بل إذا قام بالانقلاب جماعة، أخذوهم وقدموهم إلى المحاكمة، بالإضافة إلى أن حكومات تلك البلاد أخذت الاحتياطات الكافية أمام المتآمرين، حتى لا يقدروا على الاستيلاء حتى على الإذاعة أو القصر الجمهوري ولو لمدة ساعات، وقد ذكرنا أسلوب ضبط الحكومة للبلاد أمام الانقلابات المحتملة، في فصل سابق. هذا بعض الكلام في كيفية الاستقرار الداخلي.

أما كيفية الاستقرار الخارجي؟ فهي إنما تكون:

1. بقوة السلاح والجيش من الداخل.

2. رضا الناس عن السلطة.

3. كثرة أصدقاء الدولة في خارج البلاد.

وذلك يسبب أن الجيش الأجنبي الذي يريد مهاجمة البلاد، يفكّر في قوة جيش البلاد واستمساكه، فلا يغامر بالهجوم.

ثم إنه لا يجد الرتل الخامس الذي يساعده من الداخل، وبدون الرتل الخامس يكون فتح البلاد صعباً، والإبقاء على البلاد تحت الاستعمار أصعب (والذي تعمله الحكومات الاستعمارية هو تكوين الركائز في داخل البلاد قبل مهاجمتها وإحداث الانقلاب فيها).

وأخيراً، فإن كثرة أصدقاء الدولة في الخارج تقف حاجزاً دون مغامرة الجيش الأجنبي، لأن الجيش الأجنبي لا يقدم على الهجوم إلاّ إذا وجد من الدول من يؤيده في ذلك، فإذا كان للدولة أصدقاء كثيرون، أحجم الجيش عن الإقدام، ولذا نجد أن أمريكا وروسيا

وبريطانيا، يبقون في أفلاكهم عدة أقمار، ليصفقوا لهم إذا هاجموا بلداً. كما صفقوا لأمريكا حين هاجمت فيتنام، ولبريطانيا حين هاجمت الصين، ولروسيا حين هاجمت أفغانستان إلى غير ذلك، ولذا ورد في المثل: (ألف صديق قليل وعدو واحد كثير)، وتبعاً لذلك نجد أن الحكومات الاستعمارية تصرف المبالغ الطائلة لاستقطاب الأصدقاء، مثلاً: روسيا تدفع لكوبا كل يوم مليون، وأمريكا تدفع إلى بلاد كثيرة المعونات المالية وغيرها، وبريطانيا وفرنسا تقدمان العون إلى ما يدور في فلكهما من بلاد (الكومنولث). صحيح أنهم يسترجعون أضعاف ذلك، لكن صحيح أيضاً أنهم يعرفون كيف يعملون عمل التاجر، يشتري البضاعة بأرخص ليبيعها بأغلى، فلهم حالة إدارة، لكن إدارة استعمارية، لا إدارة صحيحة حسب الكفاءة والعدل والحق.

ولذا نجد الإسلام قد اهتم بتخفيف العداء من الخارج، وبرضا الناس في الداخل، فمثلاً بالنسبة إلى الأمر الأول، قال سبحانه: *وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ*(313).

وقال تعالى: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ*(314).

وقال سبحانه: *ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ*(315). وقال تعالى: *ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً*(316). وقال سبحانه: *وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا*(317). وقال علي عليه السلام: *إني أكره لكم أن تكونوا سبابين*(318) إلى غيرها.

وبالنسبة إلى الأمر الثاني، حدث أن غضب مستعطٍ على رسول الله صلي الله عليه و اله غضباً بلا مبرر، ثم أعطاه الرسول صلي الله عليه و اله ما أرضاه ثم قال له: اذهب إلى أصحابي وقل لهم إني رضيت عن الرسول، إنه صلي الله عليه و اله أراد بذلك أن يشعر أصحابه بأنه لا يوجد حتى إنسان واحد غاضب عليه. كما حدث أن طلب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من شخص العمل بالحق، وهو

لم يعرف الإمام، فدفع الإمام بيده، لكنه لمّا عرف الإمام اعتذر وطلب من الإمام أن يرضى عنه، فقال له الإمام: *ما أرضاني عنك إن أنت أرضيت الناس عن نفسك*(319)، وفي رواية: *هل الدين إلاّ الحب*؟(320).

ثم لا يخفى أن الأمور التي يجب على الدولة الإسلامية الاهتمام بها، لأجل رضى الناس هي:

1. تكثير المؤسسات.

2. وإعطاء ذوي الكفاءات ما يشغلهم، إذ صاحب الكفاءة إذا لم يجد ما يشغله بما يراه مناسباً له، صار مبعثاً لنشر الكره والتذمر بين الناس.

3. وجعل القضاء نزيهاً إلى أبعد حد.

4. ومجلس الشورى محبوباً، لا أن يهتموا بوضع القوانين وتأطيرها، بل يختلطوا بالناس ويأخذوا آراءهم ويقضوا حوائجهم ويحلوا مشاكلهم.

5. واحترام الطبقة المتوسطة كما تقدم.

6. وجعل السلطة العليا (شورى الفقهاء) محل ثقة الشعب وحبه، فإنها رمز الإسلام، وهم وكلاء الإمام عليه السلام، فإذا كرهها الناس كرهوا الإسلام، وظنوا بقادته الظنون، إلى غير ذلك ممّا تقدم بعضها.

لكن يلزم أن يعرف الناس أن ليس المراد بما ذكر أن تعمل الدولة بما يسقط هيبتها، فإن الطيبة في غير موضعها كالخشونة الزائدة، كلتاهما تسببان اهتزاز الحكم وعدم استقراره، وفي المثل.. (تتمكن أن تصنع بالحراب كل شيء، لكنك لا تتمكن أن تجلس عليه) وفي الطيب الزائد تنطبق القاعدة المعروفة: (الشيء إذا جاوز حده انقلب ضده).

والمشكلة في الدولة تكمن في أنها وسط بين إفراطين، فكل إفراط ضار بها، سواء كان في هذا الجانب أو في الجانب الآخر، ففي المقام: الإفراط في الخشونة يثير الناس عليها، كما أن الإفراط في الطيبة يطمع الناس فيها. وليس ذلك في الطيب والخشونة فحسب، بل في سائر الأمور، مثلاً: الدولة بين جيش يريد الخشونة والحرب، لأنه ربى عليهما وفيها تظهر مقدرة الجيش وتزيد مرتباته، بينما الشعب

يريد السلام والهدوء واللين، لأنها توجب له التقدم والرفاه وظهور كفاءاته، والدولة بينهما فيلزم عليها إرضاءهما بنحو لا يسبب إزعاج الآخر، والإثارة عليها من قِبَل الجيش أو الشعب.

وكذلك الدولة بين جيل الكبار الذين يميلون إلى الاتزان والهدوء والتعقّل، وجيل الشباب الذين يميلون إلى النشاط والسرعة والإقدام، فإذا لم تتمكن من إرضاء الطرفين كرهها نصف الشعب، ولا تبقى الدولة مع كره نصف الشعب لها.

وهكذا الدولة بين الداخل الذي له مفاهيم خاصة، والخارج الذي غالباً له مفاهيم أخرى، فإن أرضت الداخل بخطاباتها وأعمالها كرهها الخارج، والعكس بالعكس، فإن أرضت أحدهما تآمر عليها الآخر. ومن صغريات ذلك، كون الدولة تسير في تيار عام، كالجوامع الدولية والوحدات الدولية وما أشبه، ومن المعلوم التضارب بين مصلحة الدولة الخاصة ومصلحة ذلك التيار.

ومن أحسن الحلول لمشاكل الدولة المتناقضة، الأحزاب الحرة، وتبدل الدولة من رأسها كل أربع سنوات مثلاً، إذ الأحزاب الحرة والتي هي إسلامية في بلاد الإسلام لاختلاف أنظارها ومصالحها توجب الضغوط المتكافئة مما يوجب تعديل الدولة.

بينما تبدل الدولة في الفترات المختلفة من الأزمنة، يوجب عدم تراكم الكره، فكل جماعة يجدون بغيتهم في دورة من إحدى تلك الدورات المتبدلة، وبهذين الأمرين (الأحزاب والتبدل) تسير الدولة سيراً معتدلاً، فلا يصيبها جمود بقاء الدولة، ولا فوضى تبدّل الدولة. ثم إنه كثيراً ما تزعم الدولة، أن نجاتها يكون في إلقاء الاختلاف بين الناس، على قانون فرعون: *إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً*(321) ومن ذلك اشتقت القاعدة المعروفة: (فرّق تسد). لكن هذا من أكبر الأخطاء، فإنه لا يفتأ أن يظهر المفرق، فكلا الطرفين يكرهانه، حال الدولة في ذلك حال الفرد، فكما أنه إذا فعل الفرد تفرقة بين فردين يظهر نفاقه، ويكون مكروهاً

من كلا الجانبين، فيكون الطرفان مجتمعين على إقصائه وإخراجه من الساحة، كذلك حال الدولة. ولذا نرى كيف اُخرج فرعون *كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ*(322) وحتى الدولة إن كانت مستعمرة تبقى وصمة ولعنة بعد إخراجها، كما رأينا كيف بقيت بريطانيا وصمة ولعنة في الهند، حيث كانت تفرّق بين المسلمين والهندوس بذبح البقرة (باسم المسلمين) وإلقائها في معابد الهندوس، وبتنجيس مساجد المسلمين بالقذارة (باسم الهندوس). وكذلك في العراق، حيث كانت تؤلف الكتاب ضد الشيعة (باسم السنة)، وتكتب على الجدران كلمات ضد السنة (باسم الشيعة)، فصارت لعنة لكل من المسلمين والهندوس، ومن الشيعة والسنة، وعرفت باسم (الدولة المنافقة).

وإذا أرادت إشغال الناس عن نفسها، فاللازم:

أولاً: أن تجيد العمل وتسدّ الخلل، ففي الحديث: *من أصلح فاسده أرغم حاسده*.

وثانياً: أن تشغل الناس في البناء والتنافس الحر، بل ذلك من أقوى سمات الدولة الصالحة حتى نرى أن الله سبحانه لا لما ذكرناه في باب الدولة، بل لأجل إظهار الخير إلى أقصى درجة ممكنة جعل بين الناس التنافس حتى في الآخرة، قال سبحانه: *فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ*(323)، وقال تعالى: *وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ*(324)، وقال سبحانه: *وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*(325).

أما ما ذكرناه سابقاً، من لزوم أن تجعل الدولة أمام الجيش البوليس مثلاً، ويقسم كلاً من الجيش والبوليس قسمة، فذلك لم يكن بقصد إلقاء الخلاف بل بقصد توزيع القدرة، فإن القدرة مثلها مثل الماء والنار، إن لم يزمّا بزمام من الحكمة فسدا وأفسدا، وإن زمّا انتفع الإنسان بهما بدون ضرر. ولذا نجد أن الحكومات ذات الحزب الواحد تُفسد وتَفسد، حيث تتجمع القدرة في يد فئة خاصة، وكذلك الحكومات الوراثية لأن القدرة تتراكم عندها، بدون منافس

ومقابل. بينما الحكومات الاستشارية، ذات الأحزاب المتعددة والتبدل في رؤساء الحكم تبقى سليمة، كما يبقى الناس تحت ظلها في أمن وسلام.

وإفساد تجمع القدرة، بالإضافة إلى إفساد عدم الخبرة، يتجمعان في الحكومات الانقلابية، حيث إن الجيش الذي يسيطر على الحكم وإن كان الانقلاب نابعاً من نفسه، فكيف إذا كان منبثقاً عن الاستعمار؟ تقع بيده كل القدرة، وبدون الخبرة.

الدولة والعداوات

من أهم ما يلزم على الدولة الإسلامية أن لا تترك العداوات تأخذ سبيلها إلى الظهور، وإذا ظهرت تسرع في إطفائها، فإن ثلاثة صغيرها كبير وقليلها كثير: المرض والنار والعداوة، فربما سببت الحمى الموت، أو فيروس صغير وباءً كاسحاً، وربما سبب نار ثقاب إحراق غابة، وربما سببت عداوة إنسان إسقاط دولة، وقد قيل قديماً: (ومعظم النار من مستصغر الشرر). وقد يزعم من لا خبرة له من الحكام أن العداوة والدخول مع الأعداء في حرب توجب رفعة الحاكم، بل أغرق بعضهم فقال: يلزم على الحاكم أن يخلق الأعداء لأجل ذلك، والسؤال: هل إنك مطمئن بأنك تنتصر على عدوك؟ وألم يكن هناك من اطمئنوا ثم ظهر خطأ اطمئنانهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين؟ ثم إنك وإن غلبت، فهل طريق العظمة منحصر بذلك؟ وبعد كل ذلك، أفليس العدو ينخر جذور الإنسان حتى يأتي عليه، أو يشغله دائماً بما ليس الإنسان في حاجة إليه؟

ثم اللازم أن لا يعادي الإنسان عدوه كل المعاداة، كما يلزم أن لا يثق بالصديق كل الثقة (إلاّ نادراً)، فكثيراً ما ينقلب العدو صديقاً، فلا داعي لجعل سوء سابقة كبيرة بينهما، كما أنه ربما انقلب الصديق عدواً، وهو يعرف كل نقاط الضعف، وإلى ذلك أشار الشاعر:

واحذر صديقك ألف مرة

احذر عدوك مرة

فكان أعلم بالمضرة

فلربما انقلب الصديق

ثم إن من يعادي الدولة في

الابتداء، يمكن استقطابه، بالنسبة إلى الدولة الحازمة، خصوصاً إذا كان للعدو مركز يخشى من سقوطه ويحتاج إلى بقائه، فإنه إذا استقطبته الدولة، أخلص لها لمحو سالف العداء وللإبقاء على مركزه، وكذلك إذا كان العدو ينوي الوصول إلى مركز مرموق، وساعدته الدولة في الوصول إلى ذلك المركز.

وأحياناً تكون خدمة مثل هؤلاء الذين أسلفوا العداء، أكثر من خدمة الأصدقاء السابقين، لأن الأصدقاء لا فراغ لهم يريدون ملأه، بخلاف أولئك الأعداء، بشرط أن لا يكون ذلك العدو من قسم الانتهازيين.

فاللازم على الدولة العاقلة أن تبقى على صداقة الأصدقاء، وتهتم لاستقطاب الأعداء، وكذلك نرى فعل رسول الله صلي الله عليه و اله حيث أبقى على صداقة المهاجرين والأنصار، واستقطب أهل مكة الذين محضوا العداء له مدة عقدين من الزمن، بل لما استولى على يهود خيبر، تودد إليهم بتزوِّج إحدى بناتهم (صفية) وترك دورهم لأنفسهم والمقاسمة معهم في أراضيهم الزراعية وبساتينهم.

ومثل هذه الدولة تزداد قوة إلى قوة، وذلك يوجب لها التقدم المطرد، بخلاف الدولة التي تزيد في عداوة الأعداء، وتقلب الأصدقاء أعداءً، وتوجب التفرقة والاختلاف، وقد ورد في الحديث: (خير الولاة من جمع المختلف، وشر الولاة من فرق المؤتلف).

وعلى الدولة أن تظهر حبها لمن تحب، ليزداد الطرف الآخر إخلاصاً، وتخفي غضبها وعداءها ليقل العداء، أو يبقى على الأقل في حده السابق.

وإذا اتفقت الدولة على الحرب، كان من أهم الأمور لها أن تهتم لإبقاء الدول حياداً بالنسبة إليها، إن لم تتمكن من إدخالهم في صفها، فإن دخولهم في صف العدو يخلق للدولة مشاكل جمة هي في غنى عنها، وربما أودت المشاكل بالدولة.

وإذا تحاربت دولتان، فمن أهم الأمور على الدولة أن تبقى حياداً بينهما، لأن الدخول في الحلبة

مع إحداهما ربما يودي بها، كما أودى ذلك بالإمبراطورية العثمانية حين دخلت مع ألمانيا في حربها مع بريطانيا. بالإضافة إلى أن الوقوف في صف إحداهما يشتمل على أحد خطرين: أن تكون في صف المنتصر في النهاية، أو في صف المنهزم في النهاية، وكلاهما خطر، إذ من ينتصر يأخذه الغرور في أن يستعلي على الحليف، ومن ينهزم يترك حليفه في العراء تحت رحمة المنتصر الذي يعادي الدولة الحليفة لعدوها.

ومن اللازم على الدولة الإسلامية عند قيامها، أن تستقطب الذين كانوا يوالون الحكومات السابقة، فإنهم كما رضوا عن الحكومة السابقة مع عسفها، يرضون عن هذه الحكومة الجديدة، إذا حفظت أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وقالت لهم: (إذهبوا فأنتم الطلقاء) ومنّت عليهم، ولذا نجد في التاريخ، أن أهل مكة وغيرهم عفا عنهم الرسول صلي الله عليه و اله، وأهل الجمل والنهروان ممن عفا عنهم علي عليه السلام، صاروا مواطنين ولم يكن لهم من إيذاء إلا بقدر أذية أي شعب بالنسبة إلى أية دولة، بينما كانت أعمال العنف والخشونة معهم تزيد الأمر إعضالاً. ويظن بعض الناس أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان إذا قتل معاوية لم يبق حتى يناوئ علياً عليه السلام، والسؤال: هل كان معاوية واحداً، فماذا في طلحة والزبير؟ وماذا في الخوارج؟ وماذا في من جاء بعد: هشام وهارون والمأمون؟ وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في هذه المباحث في كتاب (تحويل معنوية الإسلام..).

قلعة الدولة وعملها

قلعة الدولة الإسلامية هي القلوب، فإنها خير قلعة تحتمي الدولة بها، لأجل حفظها حالاً، وبقائها عشرات القرون، وقد ورد في الزيارة خطاباً للإمام الحسين عليه السلام: (وفي قلب من يهواك قبرك)، فقد هدم أمراء الباطل قبر الإمام الحسين عليه السلام مرات ومرات، لكن

بقي قبره وأثره إلى الآن، بل واتسع واتسع، لأن قبره كان في قلوب الناس.

ولا شك أن قلوب الناس لا تلتف حول الدولة إلا بالعفو عن مسيئهم والإحسان إلى محسنهم كما قاله الرسول صلي الله عليه و اله لحاكمه على مكة المكرمة والأخذ بأيديهم إلى الأمام، والناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1. أعداء الدولة.

2. أصدقاؤها السابقون الذين آزروها إلى أن وصلت إلى الحكم.

3. المحايدون.

أما الأعداء: فاللازم استقطابهم كما تقدم.

وأما الأصدقاء: فهم من أكثر الناس ضغطاً على الدولة، لأنهم كما قاوموا وبشدة الدولة السابقة، لأجل عدم إجرائها للحق والعدل، يسرعون في كره الدولة الجديدة، فاللازم مداراتهم إلى أبعد حد، كما ذكرناه في فصل سابق.

والمحايدون: لا يريدون إلا العيش بسلام، فمن أين تحتاج الدولة إلى صنع القلاع، إلا إذا كانت دكتاتورية تريد الاستئثار بالحكم والمال والسلاح والامتيازات؟ ومثل هذه الدولة لا تنفعها القلاع أيضاً، لأن الشعب إذا ثار لا يبقي ولا يذر، ولا تقف دون بغيته القلاع، كما لم تقف دون ذلك قلعة المتوكل أو بني أمية، وغيرهم، إذن فالقلعة بلونها القديم أو الجديد دليل كره الشعب للحاكم.

نعم، تبقى قلة من المغامرين، لابد للحاكم أن يتقي شرهم بعدد من المسلحين، والأمم أذكياء دائماً، يفرقون بين الحاكم المحتمي بالقلاع من الشعب، والمحتمي بالسلاح من بعض المغامرين. والدولة بدل أن تشغل نفسها بالحروب والعداوات يجب أن تشتغل بالمشاريع الكبيرة، وتقوية الجيش، وجعل الأسس الرصينة للبقاء والرفاه، بتعميم العلم، وتربية النفوس، وإخراج الكفاءات، وذلك بإعطاء الحريات، وتسهيل سبل وصول الناس إلى ما أودع فيهم من دفائن العقول، وإعطاء المكافآت اللائقة للمتفوقين، بحيث يتحدث الناس عن تلك المكافآت وتكون محفزة لهم بالسير إلى الكمال.

ومن الضروري في الدولة

الإسلامية نشر العقيدة والشريعة في كل الأصعدة والمستويات، والتكثير من مجالس ذكر مصائب أهل البيت عليهم السلام، ونشر حقيقة الإمام المهدي عليه السلام على أوسع نطاق، وهذه الأمور الثلاثة تسبب قوة الأمة أولاً، وتوسعتها ثانياً، وذلك لأن المطالع في تاريخ الأمم يرى أن اضمحلال الأمم وخروجها عن ساحة الحياة، تعلل بإحدى ثلاث:

إما ضعف المبدأ، وعدم مطابقته للبرهان. وإما انصباب المصائب على الأمم، حيث لا تتحمل الأمة المقاومة، مما يسبب خروجها عن الساحة. وإما أن الأمة لا أمل لها بالعون والمساعدة والنجدة، ولذا تكون كالجيش المنهزم الذي لا يأمل في الإمداد، فيفر من الميدان. وحيث إن مبدأ الإسلام عقيدة وشريعة من أقوى المبادئ، ويطابق العقل والمنطق في كل بند منه، كان نشره يسد هذه الثغرة في قلوب الأمة.

كما أن التفات الأمة إلى المصائب التي وردت على أهل البيت عليهم السلام وأنهم عليهم السلام تحملوها بكل رحابة صدر، يوجب التأسي بهم عليهم السلام وربط قلوبهم وشدة عزيمتهم فلا تسبب المصائب مهما كثرت انهزامهم. والإمام المهدي عليه السلام أمل المسلمين، حيث يحتمل ظهوره ليشد أزر المسلمين في كل يوم وساعة ولذا فإذا قويت العقيدة به كان صمود الأمة أكثر، ومثابرتهم أقوى، فلا يجد البأس إلى أنفسهم سبيلاً.

وهذه الأمور الثلاثة كما هي عامل البقاء، كذلك هي عامل التوسع لأن نفس الروح تنفخ في روع من اعتقد بالإسلام، ولذا نجد المفكرين من الكفار يحاولون طمس هذه الأمور الثلاثة بمختلف الوسائل والسبل وبشتى الاتهامات والإلصاقات. ثم من الضروري أن تضع الدولة سياستها دائماً موضع التساؤل والترديد، وذلك لأمرين:

1. احتمال انكشاف الخطأ في السياسة، في المستقبل.

2. احتمال تبدل الزمان، مما يوجب أن لا يصلح للزمان المتأخر

ما كان صالحاً للزمان المتقدم، فإذا جرت الدولة على سياستها التي بنتها، بدون الملاحظة الدائمة، والمراقبة الكافية، كانت الدولة معرّضة للضياع، والأمة على شرف الانهيار. وقد قال علماء الأخلاق بلزوم المراقبة للفرد كل ليلة، فكيف بلزوم المراقبة على الدولة؟..

كما أن اللازم على الدولة ربط الشعب بالأعياد والمناسبات لكن لا ربطاً دكتاتورياً، بل ربطاً إقناعياً وذلك للزوم التجديد في حياة الناس من ناحية، حتى لا تكون الحياة رتيبة مملة، ولتكون الأمة نشطة من ناحية ثانية، فإن النشاط بالمناسبات يؤثر في سائر الحقول، ونشاط الأمة حاله حال نشاط الفرد يؤثر في مختلف حقول الحياة.

وعلى الدولة أن تكون لها مفاجآت تقدمية، مما يوجب شد الأمة بالدولة دائماً، وتكون المفاجآت سبب سد الحاجات وملء الفراغات وتقدم الأمة إلى الأمام، مثلاً إسكان الأمة في دور مملوكة لهم في هذه السنة، وإيصال الماء والكهرباء إلى كل القرى في السنة الثانية، وتعميم العلم ومحو الأمية في سنة ثالثة، وإخراج الأراضي من اليباب إلى العمران في سنة رابعة، ونصب المعامل التي تعطي الحاجات الصناعية في سنة خامسة، وهكذا.

وكل ذلك ممكن إذا لم تبن الدولة على الدكتاتورية، فتطلق الحريات وتسهم في تقديم الناس إلى الأمام. واللازم على الدولة إن كانت مخلصة، وهكذا يجب أن تكون الدولة الإسلامية، أن تعطي كل ذي حجم من الأفراد، والأحزاب، والمؤسسات، والجمعيات حجمه الواقعي، بلا زيادة ولا نقيصة، فإن الحجم الواقعي هو المؤثر في الحياة. أما إعطاء تلك على خلاف واقعها، فهو شأن الدكتاتوريين، الذين يجعلون من أنفسهم المحور، فمن كان في فلكهم أعطوه حجماً متزايداً، ومن لم يكن في فلكهم أعطوه حجماً صغيراً، قال سبحانه: *وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءهُمْ*(326).

فإذا أعطت الدولة الصغير

حجماً كبيراً بقي الفائض من الأعمال بدون إدارة، كما أن إعطاء حجم صغير للإنسان الكبير يوجب بقاء الكفاءة بدون عمل، وكلاهما يسببان عطب الدولة، وذهاب ريحها، وفشل مشاريعها.

واللازم أن يكون وزراء الدولة، أناساً يفكرون في الأمة، لا في أنفسهم، وهم أحسن دليل على نفسية القائد، فقد ورد في الحديث أن *المرء على دين خليله*(327) وكذلك حال سائر المحتفين بالدولة، فإنهم أحسن دليل على استقامة الدولة أو انحرافها.

6 السلطة العليا، وحزم الدولة

السلطة العليا في الدولة الإسلامية، سواء كان مرجع التقليد واحداً، (إذا انحصرت المرجعية في إنسان واحد، كما صار في زمن صاحب الجواهر والشيخ المرتضى والميرزا الكبير والميرزا الثاني)، أو كانوا أكثر، حيث قلنا بلزوم تشكل المجلس الاستشاري منهم، لأنهم الزعماء الحقيقيون للأمة، وقد انتخبتهم الأمة ليكون بيدهم الحكم، كما قال عليه السلام: *فإني قد جعلته عليكم حاكماً*(328)، والحكم يشمل أمور الدين والدنيا، وقال صلي الله عليه و اله: *اللهم ارحم خلفائي*(329) وقال عليه السلام: *أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا*(330) إلى غير ذلك.

هذه السلطة العليا إنما تكون بضغط من الأمة، فإذا اعتادت الأمة على ذلك، لم يتمكن انتهازي في زي أهل العلم أن يسلبها، ولم يتمكن رجل في السلطة العليا أن يفعل ما يشاء حسب رأيه، كما أن ضغط الشعب في البلاد الديمقراطية لا يترك الأمر لديكتاتورية حاكم كي يأتي إلى السلطة بإرادته، لا بإرادة الشعب، أو على استخلاف حاكم سابق لمن شاءت له أهواؤه. وليس ترشيح مثل هذه السلطة (المرجع الأعلى أو شورى المراجع) بيد الدولة، لأن الدولة يلزم أن تكون تحت نظر السلطة العليا، لا العكس، وإنما الأسلوب يبتدأ باختياره الأمة حسب تقليدهم، مراجع التقليد، وهم يكونون السلطة العليا (شورى المراجع)، وهم وسائر

أهل الخبرة يرشحون للأمة مراجع المستقبل، فكلما فقد أحد أفراد السلطة العليا، جاء مكانه أحد هؤلاء، حتى يتلقى الآخرون السلطة من الأولين، وهكذا.

وهذا أمر واقعي سهل المنال، إن وعت الأمة السياسة الدينية، فإن في هذا الأسلوب تحكيم المراجع الذين هم نواب الأئمة عليهم السلام بملك حرية الأمة، بدون دكتاتورية ولا تسلط الدولة على المرجعية، وبمعاونة أهل الخبرة الذين تعتمد عليهم الأمة، وبإشارة من السلطة العليا السابقين الذين انتخبتهم الأمة مراجع لها.

وحينئذٍ لا يكون ضغط في التقليد أيضاً، فإذا أرادت جماعة من الأمة أن تقلد إنساناً آخر غير من في السلطة العليا، يكون لها ذلك، بدون مزاحم، نعم إذا حدثت حادثة اختلف فيها رأي السلطة العليا مع رأي ذلك المرجع، يكون انتهاء الأمر إلى رأي السلطة العليا، كما ذكره الفقهاء في مسألة لزوم ترك المجتهد رأيه إذا تنازع مع مجتهد آخر، في مال أو دم أو زوجة أو ما أشبه، وتراجعا إلى القاضي المجتهد الجامع للشرائط، وأعطى الحكم لأحد المتنازعين، فإن دليلهم في باب القضاء يأتي في المقام أيضاً بطريق أولى، وقد ألمعنا إلى ذلك في كتاب القضاء وكتاب الشهادات وكتاب إحياء الموات من (الفقه).

1. فالسلطة العليا (شورى المراجع) ترشح بمعاونة أهل الخبرة من أهل العلم والعدالة.

2. بدون تدخل من السلطات الثلاث التشريعية (التطبيقية) والتنفيذية والقضائية لأنهم تحت السلطة العليا لا فوقها.

3. ومن أهل الخبرة زعماء الأحزاب الحرة الإسلامية.

4. والأمة تختار، وحيث يدخل المراجع في السلطة العليا (المراجع الحالية) لا شق للعصا من أحد، وحيث إن المراجع المستقبلة مستشارون وأهل الخبرة ومرشحون من قبل السلطة العليا والأمة، فلا تنازع أيضاً، ولا يلزم أن يحضروا المجلس الاستشاري، بل يجوز أن يكون أحدهم في

خراسان والآخر في قم، والثالث في النجف، والرابع في كربلاء، لكنهم جميعاً بوكلائهم الذين يحضرون المجلس الاستشاري الفرعي، يدلون بآرائهم، حال ذلك حال المجامع الدولية، حيث إن الأعضاء إن شاؤوا حضروا، وإن شاؤوا لم يحضروا. وحينئذٍ تكون سلطات الدولة الثلاث تحت إرادتهم تلقائياً، بدون أن ينفصل مرجع التقليد عن الدولة، ولا أن تتسلط الدولة على المرجعية، وبدون هذه الصورة التي ذكرناها، يقع إما انفصال الدولة عن المرجعية، وإما أن تتسلط الدولة على المرجعية، وحيث إن الثاني لا يمكن، يكون الأول ويرجع الأمر إلى انفصال السياسة عن الدين، ويفسح المجال لتسلط الشرق والغرب. ثم على (شورى المراجع) والسلطات الثلاث أن يستقطبوا جمهرة كبيرة من المستشارين الذين تتوفر فيهم علوم الدين والدنيا مع النزاهة والثقة حتى تسير الأمور بكل صحة وإتقان.

واللازم على الشورى والسلطات، أن تكون وسطاً بين حرية الابتذال وبين التقطيب الموجب للنفاق في استشاراتهم، فإن الحاكم إذا ابتذل في استشارته مع كل أحد صار سبب التجري والازدراء والتحقير، مما يضعف الحكم، وإن تقطب صار سبباً لنفاق المستشار، فلا يقول الحقائق التي يعرفها، وإنما يتكلم حسب رضى الحاكم، مما يسبب ضياع الحكم.

فالاستشارة يلزم أن تكون دائمة من أصحاب الفضيلة الموسومين بترجح الرأي والخبرة والديانة، ويلزم أن يكونوا صريحين مع السلطة في إعطاء الرأي، ونقد أعمال الحاكم. وعلى الحاكم أن لا يسرع في إعطاء الحكم، لأن المسرِع كثيراً ما يخطئ فيقع الحاكم بين أن ينفذ خطأه، وفي ذلك المفسدة وضياع المصلحة، أو أن يرجع عن رأيه، وفي ذلك خور الحكومة، وازدراء الأمة بالحاكم، وإذا فقد الحاكم احترامه فقد الحكم جلاله مما ينتهي إلى ضعف الدولة. كما أن على الحاكم أن يهتم بالحاضر والمستقبل، لسد الخلل الناشئ من

الماضي، وتقديم الأمة إلى الأمام، فإن الأمة إذا شعرت بالحاضر المريح والمستقبل المرفه تصرف عنان نظرها عن سيئات الماضي، ولا تفكر فيما سبق من النقائص والنواقص. وعلى الحاكم أن يحسب للعواصف المحتملة (اقتصادية، أو سياسية، أو حربية، أو غيرها) حسابها، حين تجري الرياح رخاءً، وإلا وقعت الدولة في المشكلة، وربما أوجبت سقوط الدولة، ومن الأمثال القريبة: إن القاجاريين والعثمانين، إذا كانوا معتدلين يعملون بالإسلام الصحيح وكانوا يحسبون حساب المستقبل، فهل كانت تتحطم الدولتان؟ وهل كانت البلاد الإسلامية تقع في نير التجزؤ، وتحت سلطة الأعداء المباشرة وغير المباشرة.

وقد يعتذر الحكام عن أخطائهم بالقضاء والقدر، والحال أن القضاء والقدر دائرتهما الأمور غير الاختيارية، أما الأمور الاختيارية فالقدر والقضاء أن يعملها الإنسان. إن من لا يراجع الطبيب فيموت أو يعطب لا حق له في إلقاء اللوم إلا على نفسه، أما إذا راجع ولم ينفع الطب فمات لم يكن ملوماً، وصح أن يقال: إن القدر أماته.

وكذلك الحال في المشكلات العامة، فالدولة التي لا تقيم السدود أمام السيول، والدولة التي لا تواظب على النظافة، حتى تجرف السيول بالبلاد والناس، ويهلك الطاعون والوباء، الناشئان عن القذارة، عشرات الألوف من الناس، لا حق لمثل هذه الدولة أن تنسب الأمر إلى القضاء والقدر، بل المقصر هي ويلزم أن تؤاخذ على إهمالها وعدم رعايتها. ثم إن على الدولة أن تعرف الظروف، فلكل ظرف عمل، وإلا جرفها السيل فإن الظروف وشرائط الاجتماع، حالهما حال الشتاء والصيف، فإذا لم يعرف التاجر الزمان، فجعل أمواله في صنع الثلج في الشتاء، أو تهيئة الوقود في الصيف، خسر وتدمر، كذلك حال الدولة إذا لم تعمل حسب مقتضيات الظروف، فاللازم أن تسير الدولة حسب مجرى الزمان، وإلا مرّ عليها الزمان

وهي جامدة، ولذا قال الإمام الصادق عليه السلام: *العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس*(331).

وهذا غير الانتهازية، فإنها أن تقصد نفسك والوصول إلى منافعك من دون ملاحظة أن يكون الطريق شريفاً، بينما معرفة الظروف أن تعرف الطرق الشريفة للوصول إلى غاية نبيلة، ولا يهمك بعد ذلك أن تسلك أية من الطرق الشريفة المتاحة إلى تلك الغاية.

وفي الخاتمة: نذكر أن اللازم على القوى الإسلامية أن تتحرك، لتوحيد بلاد الإسلام، وإقامة حكومة واحدة على ذلك البلد الواحد، والسعي لإنقاذ البشر من براثن الخرافة والمشاكل، فإن الظروف مهيأة لذلك.

أما المسلمون فقد ذاقوا من التشتت والقوانين الوضعية، ما يفوق التصور حيث نهبت بلادهم وجزئت، وسلبت خيراتهم، وسحقت كراماتهم، وهتكت أعراضهم، وأصابهم الضنك الذي أنذر به القرآن الكريم، لمن أعرض عن ذكره.

وأما غير المسلمين فقد وقعوا من جراء إعراضهم عن قوانين الله سبحانه في مشاكل لاتدخل تحت الحصر، من الحروب والثورات، والأمراض وهدم العائلة، والفقر والخوف، وغيرها، فإذا عمل المسلمون بكل جد وإخلاص لإرجاع الإسلام إلى الحياة، أنقذوا أنفسهم، وساهموا بقدر في إنقاذ سائر الناس، والله الموفق المستعان.

الفصل الثاني؛ الحكومة في عهد الرسول صلي الله عليه و اله

الحكومة الإسلامية في عهد الرسول صلي الله عليه و اله

نذكر هنا مقتطفاً من كيفية حكومة رسول الله صلي الله عليه و اله، وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، حيث إنهما أسوة، حتى نعرف الأسس التي يجب أن يبتنى الحكم الإسلامي عليها، والتي تبنى الحركة عليها قبل الوصول إلى الحكم.

سعة حكومة الرسول صلي الله عليه و اله

فقد حكم رسول الله صلي الله عليه و اله على رقعة من الأرض تشتمل على أكثر من خمس دول في خريطة عالم اليوم فقد حكم صلي الله عليه و اله الحجاز واليمن الجنوبية واليمن الشمالية والبحرين وأراضي الكويت حيث كانت

مسكناً للقبائل، وبعض الخليج، وقد عمل صلي الله عليه و اله أمرين إبان حكومته:

إسقاط الحواجز الجغرافية

الأمر الأول: أنه صلي الله عليه و اله أسقط الحواجز الجغرافية بين تلك البلاد، فإن الحواجز الجغرافية كما هي موجودة في هذا اليوم بين الدول، كذلك كانت موجودة في ذلك اليوم بين القبائل ونحوها، كما هو معروف في التاريخ، فصارت البلاد بفضله صلي الله عليه و اله بلداً واحداً يسافر المسافر فيه من الطائف إلى مكة إلى المدينة إلى غيرها بدون حاجز أو مانع.

إسقاط الحواجز النفسية

الثاني: أنه صلي الله عليه و اله أسقط الحواجز النفسية فجعل الكل أخوة، بينما لم يكن العربي قبل ذلك أخاً للعربي، فكيف بأن يكون أخاً للفارسي والهندي و.. فالرسول صلي الله عليه و اله جعل أبا ذر العربي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي أخوة، كما جعل صفية (اليهودية الأصل) وماريا (المسيحية الأصل)، وسودة (المشركة الأصل) أخوات.

الرسول صلي الله عليه و اله لم يتغير

فقد جاء رسول الله صلي الله عليه و اله إلى المدينة مُطارَداً مهاجراً فقيراً لا يملك شيئاً، ولما وصل هناك بنى مسجده، وبنى حول مسجده غرفاً لزوجاته ولأصحابه، وكان يسكن في تلك الغرف المبنية من الطين واللبن، وكانت الغرف صغيرة بحيث لا يتمكن أكثر من عشرة من الواقفين المتلاصقين أن يقفوا في الحجرة وأمامهم جنازة، كما يدل على ذلك ما ورد من أنه بعد ما توفي رسول الله صلي الله عليه و اله وضعت جنازته في حجرته وجاء المسلمون عشرةً عشرة يصلون على النبي صلي الله عليه و اله فكانت الغرفة لا تسع لأكثر من عشرة أشخاص واقفين متلاصقين وأمامهم جنازة الرسول صلي الله عليه و اله.

ثم تطورت أحواله صلي الله عليه

و اله بعد ورود المدينة فصار رئيس دولة، وصار المال يجبى إليه من تلك الدولة الشاسعة، ومع ذلك لم تتغير غرفته لتصبح داراً ضخمة، ولا أثاثه البسيط إلى أثاث راقٍ.

الرسول صلي الله عليه و اله يبقى وفياً

الرسول صلي الله عليه و اله يبقى وفياً

كما أنه صلي الله عليه و اله بقي وفياً لأصحابه وفيهم المؤمن والمنافق من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فكان أصحابه عند وفاته هم أصحابه الذين التفّوا حوله في مكة المكرمة.

كما أنه هكذا كان علي (عليه الصلاة والسلام) فلم يبن لنفسه داراً في الكوفة، ولم يهيئ أثاثاً جديداً، كما سيأتي الإلماع إلى ذلك في سيرته، ولم يدّخر صفراء ولا بيضاء، وإنما استشهد في المسجد، ومات في نفس المكان الذي سكنه حيث جاء من المدينة، وحوله نفس أصحابه السابقين.

ولنتحدث هنا حول مقتطفات من حياة هذين القائدين العظيمين اللذين يجب أن تتخذهما الحركة العالمية الإسلامية أسوة للوصول إلى حكومة ألف مليون مسلم، بإذن الله تعالى. ثم بعد الوصول إلى الحكم يجب أن يكون الحكام المسلمون على هذه الوتيرة.

شمة من أحوال رسول الله صلي الله عليه و اله

كان صلي الله عليه و اله دائم الحركة والتنقل في نواحي المدينة، يزور القبائل القاطنة، ويجتمع بالناس ويرشدهم، ويصلي بهم في مساجدهم وفي مسجده، ويعود مرضاهم، ويسير وراء جنائزهم، ويندب من أصحابه مَن يريد لما يريد من مهام الدولة والأمة.

ومن أمثلة ذلك، أنه أرسل واحداً من أصحابه ليكون في (قبا) أثناء غياب جيش المسلمين في بدر، وبعث رجلاً آخر إلى بني عمرو بن عوف القاطنين في المدينة ليقوم بنفس المهمة، وأرسل رجلين في مهمة إلى حوران.

وقد جعل صلي الله عليه و اله للنساء إمام جماعة امرأة فاضلة تسمى (أم ورقة) تصلي بهن، فمن شاءت من النساء جاءت إلى مسجد رسول الله صلي الله عليه و اله للصلاة، ومن شاءت منهن ذهبت إلى بيت أم ورقة للصلاة معها، كما بنى صلي الله عليه و اله في المدينة ما يقارب خمسين مسجداً، وقد اهتم بعمران المدينة بعد أن أمِنَت تماماً، فحث

الناس على البناء والإنشاء، ودعا البدو المحيطين بالمدينة إلى الهجرة نحو المدينة والاستقرار وترك البداوة، وقد قدم كثير من الأعراب، ونزلوا المدينة وأصبحوا أعضاءً في أمة الإسلام، وصارت لهم مراكز المهاجرين، وحالفوا من شاؤوا من قبائل الأنصار، والكثير منهم دخلوا في حلف رسول الله صلي الله عليه و اله وبني هاشم.

اتساع المدينة

اتساع المدينة

فاتسع نطاق المدينة وتزايد عدد سكانها، وأخذ الناس يعمرون الأراضي الواسعة في السهل بدون رادع ولا مانع ولا ضريبة العمارة والزراعة، وقد ذكر المؤرخون أن أعداد المسلمين من سكان المدينة زادت بقدر الثلث قبل الخندق، أما بعد الخندق فقد تضاعف العدد. وقد كتب رسول الله صلي الله عليه و اله صحيفة بين المهاجرين والأنصار تجعل أهل كل حي من الأنصار مسؤولين عن حيهم، وعن أمن المدينة من ناحيتهم، فكانت حكومة شعبية زمامها بيد الشعب نفسه وكان استقرار أي مهاجر إلى المدينة يتم على ذلك الأساس، وكان الرسول صلي الله عليه و اله يوزع على المسلمين كلما حصل من الصدقة والزكاة والخمس والتبرع والغنيمة.

صُفة المسجد

كما أنه صنع صفة كبيرة في مسجده ينزل فيها الذين لا مأوى لهم ولا مسكن، وقد وصل عددهم كما يذكر بعض التواريخ إلى أربعمائة، وكان هؤلاء من جيش الرسول صلي الله عليه و اله في وقت الحرب، كما أنهم كانوا من المصطفين خلفه في وقت الصلاة، وكانوا يجلسون تحت منبره في وقت الخطابة، وكانوا ينفّذون أوامره إلى المسلمين الآخرين في أوقات الحاجة، وكان الرسول صلي الله عليه و اله تدريجياً يزوجهم بالنساء المسلمات، ويحصل لهم المسكن والمكسب وما أشبه، وقد شعر الناس بنعمة الإسلام، فاستقاموا على الطريقة.

الرخاء يسود عاصمة الرسول صلي الله عليه و اله

وساد المدينة رخاء لم تعرفه أية جهة من جهات جزيرة العرب قبل ذلك، ولم ير العالم قبل ذلك حكومة كهذه الحكومة، فقد كانت حكومة الأكاسرة والقياصرة وما أشبه حكومات بعيدة عن الناس، مترفعة عن الشعب، غير مختلطة بهم، وكانوا يأخذون الضرائب الباهظة منهم، ويستبدون بالحكم والأموال.. وكان الفقر والمرض والجهل والفوضى سائد في الشعوب.

الحكومة المثالية

أما حكومة المدينة وحواليها فقد كانت حكومة مثالية، وعلى الرغم من أن المؤرخين أحصوا ما كان يقع في أيام الرسول صلي الله عليه و اله من الأحداث إلا أننا لم نسمع عن جرائم أو منازعات إلا نادراً، فإن المثال النبوي صلي الله عليه و اله كان حاضراً في أذهان الناس، وكان الناس يقتدون به، فلا شرطة، ولا قوة تنفيذية، ولا ضرائب، ولا مكوس، ولا ربا، ولا احتكار، ولا استغلال، ولا ضرائب عامة إلا الخمس والزكاة والجزية والخراج، فكانت الأمور تسير على أحسن حال، ولذا لم نجد في أي تاريخ أن المدينة اشتكت من الفوضى، أو من قلة النظام.

النظام الإسلامي يساوي بين الجميع

النظام الإسلامي يساوي بين الجميع

والشرع الإسلامي يفيد الجميع، ويساوي بين الجميع، ويعطي الأمة القوة الحقيقية، والاطمئنان والاستقرار والثبات والتقدم، وقد كان إيمان الناس بالمثل الإسلامية العليا، والتي تتمثل في الرسول صلي الله عليه و اله يسود كل شيء، ومن الواضح أن في ظروف كهذه تتضاءل المشاكل الفردية والنزاعات الشخصية، ويغلب على الناس روح الجماعة والاتجاه إلى البذل والعطاء، وتحاشي الوقوع في المعاصي والجرائم والآثام، كالسرقة والغصب والزنا والقتل واللواط والجرح وما أشبه من الجرائم، فقد ظهرت على الناس الأخلاق الجميلة، والتي لم يعرفها الناس لا في جزيرة العرب، ولا في غير جزيرة العرب إلى ذلك الحين، فكان الناس يؤثر بعضهم بعضاً في البذل والعطاء في سبيل الله سبحانه وتعالى، والرجل يؤثر صاحبه على نفسه بالمال، وفي قصة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: *وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً*(332) مثل رائع لذلك.

المسلمون يؤثرون على أنفسهم

وكان الرجل يسأل عن جاره وأهله قبل أن يسأل عن أهله هو، وأصحاب المال يخرجون المعونة والطعام لأهل الحاجة دون مسألة.

ولم يحتج الرسول صلي الله عليه و اله إلى جبر أو إكراه، ولم يصادر مال أحد، ولا قتل إنساناً قتلاً اعتباطياً، وقد أخذت تتردد أخبار الجماعة الجديدة والتي عبر عنها القرآن الحكيم بقوله: *كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ*(333) في أنحاء جزيرة العرب، وفي غيرها من البلاد المحيطة ذات الحضارة العريقة كما تدعي.

إطلالة الزمان الجديد

إطلالة الزمان الجديد

وقد شعر الجميع بأن زماناً جديداً أطل عليهم، فتهافتت القلوب إلى الإسلام، وأخذ الناس يلتفون حوله بالرضا والطاعة، ولذا أخذت القبائل والبلاد والجماعات المحاربة للإسلام تتساقط أمام رسول الله صلي الله عليه و اله بسبب شعبية الحاكم وحرية الشعب الممتزجة بالإيمان والفضيلة والتقوى والتعاون وحب الخير كما قال تعالى: *إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا*(334).

نبذة من سيرة الرسول صلي الله عليه و اله

وإليك نبذة من سيرته صلي الله عليه و اله الطاهرة مما يجب أن تجعلها الحركة الإسلامية التي تريد أن تحكم البلاد وتنقذ العباد أسوة وتتخذها في كل أمورها سواء قبل الوصول إلى الحكم أو بعده.

إنه صلي الله عليه و اله كان شديد التواضع، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويسير في خدمة أهله سيرةً جميلة، يحب الفقراء والمساكين، ويجلس معهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ولا يحقر فقيراً أوقعه الفقر، ولا يعظّم غنياً لغناه، يقبل المعذرة، ولايقابل أحداً بما يكره، ويمشي مع الأرملة، ومع العبيد، لا يهاب الملوك والأمراء، ولايستحقر الضعفاء، يمشي خلف أصحابه، ويقول: (خلوا ظهري للملائكة الروحانية) وأحياناً يمشي في وسطهم.

تواضع الرسول صلي الله عليه و اله

كان صلي الله عليه و اله يركب البعير والفرس والبغلة، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع، يبدأ من يلقاه بالسلام، ويطيل الصلاة إذا صلى وحده، أما إذا صلى جماعة فيخفف ملاحظة للمأمومين، ويقصر الخطب في الجمعة وغيرها لئلا يملّوا، ويألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ويمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان يقول في الشدائد التي ترد عليه من الجاهليين: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)(335) فلا يدعو عليهم، ولما كسرت رباعيته، وشجّ وجهه يوم

أحد شق ذلك على أصحابه وقالوا: (لو دعوت عليهم يا رسول الله)! فقال صلي الله عليه و اله: (إني لم أبعث لعاناً، ولكني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون)(336). فقال له أصحابه: يا رسول الله لقد وطئ ظهرك وأُدمي وجهك، وكُسرت سنك، فأبيت أن تقول إلا خيراً، فقلت: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

وهكذا كان صلي الله عليه و اله فإنه لم يقتصر على السكوت عنهم، بل عفا عنهم وأشفق عليهم ورحمهم ودعا لهم، ثم اعتذر عنهم بقوله صلي الله عليه و اله: (فإنهم لا يعلمون) كالأب الشفيق الرؤوف.

الرسول صلي الله عليه و اله الأب الشفيق

وروى بعض أصحابه أنه كان واضعاً عليه ذات مرة بُرْد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا مال أبيك، فسكت النبي صلي الله عليه و اله ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده، وهل أقاصك يا أعرابي ما فعلت بي؟

قال الأعرابي: لا.

قال صلي الله عليه و اله: ولم؟

قال: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة، فضحك النبي صلي الله عليه و اله ثم أمر أن يحمل له على بعير الشعير وعلى الآخر التمر(337).

الرسول صلي الله عليه و اله يقابل الأذى بالرحمة

ولقد آذاه قومه بكل أنواع الأذى من البصق في وجهه، وإفراغ أحشاء الشاة على رأسه، ووطئ ظهره، وجعل الأشواك في طريقه، ومصادرة أمواله، وتهجيره، والمؤامرة عليه، وقتل عمه وابنته وحفيدته وأصحابه، والاستهزاء به، وقالوا: ساحر ومسحور ومجنون وشاعر وكاهن، مسه بعض آلهتنا بسوء، إلى غير ذلك من الأذى، حتى قال صلي الله عليه و اله: *ما أوذي نبي مثل ما أوذيت*(338)، فصبر صلي الله عليه و اله على تلك الشدائد الصعبة إلى أن أظهره الله عليهم،وحكَّمه فيهم،وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم، وإبادة جماعتهم، ومصادرة أموالهم. فما زاد على أن صفح وعفا، وقال لهم: ما تقولون إني فاعل بكم؟

قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم.

فقال صلي الله عليه و اله: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا صلي الله عليه و اله عن جميعهم حتى عن أشد الأعداء كأبي سفيان وهند.

وقد أباح دم جماعة منهم وأمر بقتلهم، حيث إنهم كانوا جرثومة الفساد وعين الانحراف، لكن بعد ذلك عفا عنهم كعكرمة بن

أبي جهل، وكان يشبه أباه في إيذاء رسول الله صلي الله عليه و اله وعداوته، والإنفاق على محاربته، وصفوان بن أمية بن خلف وكان شديداً على النبي صلي الله عليه و اله وكان يموّن جيوش المشركين بمختلف التموين، مما يصح أن يقال له في مثل هذا اليوم بأنه كان وزير دفاع الكفار.

الرسول صلي الله عليه و اله يعفو عن قاتل ابنته وعمه

(هبّار بن الأسود) الذي روّع زينب عليها السلام ابنته، فألقت ما في بطنها، وماتت بعد المرض، فأباح رسول الله صلي الله عليه و اله دمه، ثم إنه لما عرف أن الرسول صلي الله عليه و اله يعفو جاء إليه، واعتذر من سوء فعله، وقال: كنا يا نبي الله على شرك فهدانا الله تعالى بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي، فقال رسول الله صلي الله عليه و اله: (قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى الإسلام والإسلام يجبُّ ما قبله).

وكذلك عفا عن (وحشي) قاتل عمه حمزة عليه السلام، فإنه روي أنه أسلم، وجاء إلى رسول الله صلي الله عليه و اله بعد أن أمن جانبه، فقال له النبي صلي الله عليه و اله: أوحشي؟ قال: نعم، قال أخبرني كيف قتلت عمي؟ فأخبره، فبكى صلي الله عليه و اله ثم عفا عنه.

الرسول صلي الله عليه و اله يعفو عمن هجاه

وكعبد الله بن الزبعرى، وكان يهجو رسول الله صلي الله عليه و اله، ويسيء القول فيه وفي المسلمين، فلما فتحت مكة هرب، ثم لما عرف بأنه صلي الله عليه و اله رسول رحمة وإنسانية رجع إليه صلي الله عليه و اله واعتذر، فقبل رسول الله صلي الله عليه و

اله عذره، فأسلم وقال هذا الشعر:

أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

إني لمعتذر إليك من الذي

زللي، فإنك راحم مرحوم

فاغفر فدا لك والدي كلاهما

حق وأنك في العباد جسيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق

وكذلك عفا صلي الله عليه و اله عن هند مع جرائمها الكثيرة.

الرسول صلي الله عليه و اله يتحنن لحنين امرأة كافرة

وحتى إذا كان قد فات الأوان وقتل المجرم، كان صلي الله عليه و اله يتحنن إذا عوتب، فإنه لما قُتل النضر بن حرث وهو من المجاهرين بمعاداة رسول الله صلي الله عليه و اله عند رجوعه من بدر، قتله علي (عليه الصلاة والسلام) بأمره صلي الله عليه و اله،أنشدت ابنته أو أخته أبيات تحسر وتعطف،والتي منها:

في قومها والفحل فحل معرق

أمحمد ولا أنت نجل نجيبة

مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق

ما كان ضرك لو مننت وربما

بأعز ما يغلو لدى وينفق

لو كنت قابل فدية فلنأتين

وأحقهم إن كان عتق يعتق

فالنضر أقرب من أصبت وسيلة

فلما سمع النبي صلي الله عليه و اله الأشعار، قال: لو سمعت هذا من قبل أن أقتله ما قتلته.

الرسول صلي الله عليه و اله يعفو عن قاتله

وأغرب من كل ذلك عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة، حيث طلبها النبي صلي الله عليه و اله واعترفت، فقد قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: إن رسول الله صلي الله عليه و اله اُتى باليهودية التي سمته في الشاة، فقال النبي صلي الله عليه و اله لها: ما حملك على ما صنعتي؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. فعفا عنها الرسول صلي الله عليه و اله وتركها وشأنها، مع العلم أن النبي صلي الله عليه و اله كان من سبب وفاته سم هذه المرأة له.

الرسول صلي الله عليه و اله والسخاء

الرسول صلي الله عليه و اله والسخاء

وكان صلي الله عليه و اله يقول: *أنا أديب الله، وعلي أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شيء أبغض إلى الله عزوجل من البخل وسوء الخلق، وأنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل*(339).

وكان صلي الله عليه و اله ينفق كل شيء له حتى يبقى هو وأهله جائعين.

وقد روى الإمام الصادق عليه السلام: أن رسول الله صلي الله عليه و اله أقبل إلى (الجعرانة)، فقسم فيها الأموال أي أموال حنين وكانت كثيرة جداً فجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتى ألجئوه إلى شجرة، فأخذ برده وخدش ظهره من آثار الشجرة، حتى أجلوه عنها وهم يسألونه؟ فقال: أيها الناس ردوا عليّ بردي، والله لو كان عندي نعماً لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً.

وقد قال صلي الله عليه و اله في مرض موته للعباس: يا عم رسول الله: تقبل وصيتي، وتنجز عدتي، وتقضي ديني؟ فقال العباس: يا رسول الله عمك شيخ كبير، ذو عيال كثير، وأنت تباري الريح سخاءً وكرماً، وعليك وعد لا ينهض به عمك.

أقول: إن

رسول الله صلي الله عليه و اله كما ذكر المؤرخون، كان إذا طُلب منه شيء فإذا كان عنده أعطاه، وإذا لم يكن عنده وعد، ولما لم يقبل العباس وصية الرسول عليه السلام هذه عرضها على علي (عليه الصلاة والسلام) فقبلها وعمل بها.

وقد قال جابر بن عبد الله: ما سُئِل رسول الله صلي الله عليه و اله شيئاً قط، فقال: لا(340).

الرسول صلي الله عليه و اله يعد ما لا يقدر عليه في الحال

وقد روي كثيراً أنه كان يأتيه صلي الله عليه و اله الرجل فيقول له: أعطني كذا، فيقول صلي الله عليه و اله له: ليس عندي، ولكن إذا جاءنا شيء قضيناه.

وطلب منه رجل شيئاً، ولم يكن عنده، فوعده وكان أحد الأصحاب حاضراً فقال: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه!

فقال الرجل السائل: يا رسول الله (انفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً).

فتبسم النبي صلي الله عليه و اله وعرف السرور في وجهه.

وكان من صفاته صلي الله عليه و اله أنه لا يقطب وجهه، وإذا قال إنسان شيئاً يكرهه لم يجابهه بذلك، بل كان يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا ويقولون كذا؟ فينهي بدون أن يسمي فاعل الأمر.

من أخلاقيات الرسول صلي الله عليه و اله

وقد كان صلي الله عليه و اله أجود الناس كفاً، وأكثر الناس صبراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وكان يؤلف الناس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، وكان يقول صلي الله عليه و اله: *إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه*(341)، ويتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه، من جالسه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن

سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول(342).

وكان صلي الله عليه و اله يقول: (ردوا السائل بشيء قليل، أو بقول جميل).

وكان يقول: (خير الولاة من جمع المختلف، وشرّ الولاة من فرّق المؤتلف).

لا ضريبة على الإرث

وكان صلي الله عليه و اله يقول: (من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً فعلي وإليّ)(343).

وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعاً، ويكافئ عليها، يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ،

ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، وقد قال سبحانه فيه: *فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ*(344). وقال تعالى: *وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ*(345).

أخلاق رسول الله صلي الله عليه و اله حتى مع اليهود

وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: إن يهودياً كان له على رسول الله دنانير، فتقاضاه، فقال له الرسول صلي الله عليه و اله: يا يهودي ما عندي، فقال: إني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فحبس رسول الله صلي الله عليه و اله حتى صلى النبي صلي الله عليه و اله في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله يهددونه ويتوعدونه، فنظر رسول الله صلي الله عليه و اله إليهم، فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟ فقال: لم يبعثني ربي عزوجل لكي أظلم معاهداً ولا غيره. فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله(346).

النبي صلي الله عليه و اله دائم الحركة

أقول: إن النبي صلي الله عليه و اله لما كان كثير الحركة، ويتفقد الأحياء، فكان صلي الله عليه و اله يجعل خلفاً له في صلاته في المسجد، كلما ذهب إلى المكان، فكان هذه القضية

وقعت، حيث كان رسول الله صلي الله عليه و اله في تلك الأحياء التي كان يتفقدها، ولا مانع عند النبي صلي الله عليه و اله من أن يساير يهودياً كمثل هذه المسايرة حتى يظهر له أخلاق الإسلام لا له فحسب، بل لأهل العالم أجمع، ويسبب بذلك انجذاب الناس إليه.

وقد روى بعض خدمه أنه قال: خدمت رسول الله صلي الله عليه و اله عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، وما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟، ولا لشيء تركته: لم تركته؟.

وكان من عادته صلي الله عليه و اله أنه يجيب الناس الذين ينادونه بأحسن جواب، فكان إذا ناداه أحد قال له: (لبيك).

وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله صلي الله عليه و اله قط منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم، ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة من دعاه، ويعود المرضى حتى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ولا يترفع على أحد حتى على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس(347).

الرسول صلي الله عليه و اله يقضي الحوائج

الرسول صلي الله عليه و اله يقضي الحوائج

ولا يأتيه صلي الله عليه و اله أحد إلا قام معه في حاجته، ولو كانت أمَة، ولا يجلس متكئاً، ولا يثبت بصره في وجه أحد، ويقبل الهدية ولو كانت جرعة لبن.

وروى بعض أصحابه أنه قال: كان صلي الله عليه و اله إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(348)، وكان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه، فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد(349).

الرسول صلي الله عليه و اله يخدم كأحد أصحابه

وكان صلي الله عليه و اله يتعاون مع أصحابه، كأنه أحدهم لا يترفع عليهم في قليل ولا كثير. فقد كان صلي الله عليه و اله في سفر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال صلي الله عليه و اله: وعليّ جمع الحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزاً بين أصحابه، ثم قام فجمع الحطب.

الرسول صلي الله عليه و اله لا يستخدم أحداً

وكان صلي الله عليه و اله في سفره فنزل إلى الصلاة، ثم كرّ راجعاً، فقيل: يا رسول الله أين تريد؟ قال: أعقل ناقتي، قالوا: نحن نعقلها، قال: لا يستعين أحدكم بالناس، ولو في قضمة من سواك.

وكان صلي الله عليه و اله إذا استمع إلى أحد يدير رأسه حتى يكون الرجل هو الذي يدير رأسه.

وكان إذا أخذ بيده أحد لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الإنسان يده منه صلي الله عليه و اله.

وما قعد إلى رجل قط فقام حتى يقوم ذلك الرجل، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام حتى الأطفال والنساء، ويبدأ أصحابه بالمصافحة.

النبي صلي الله عليه و اله يبسط رداءه لضيفه

النبي صلي الله عليه و اله يبسط رداءه لضيفه

كان صلي الله عليه و اله يكرم من دخل عليه، وربما بسط إليه ثوبه، ويؤثره بفراشه الذي كانت تحته، كان صلي الله عليه و اله يكني أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم، تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه. وقد روى سلمان (رضوان الله عليه) قال: دخلت على رسول الله صلي الله عليه و اله وهو متكئ على وسادة، فألقاها إلي، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقى له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له.

وإذا كان يصلي وجلس إليه أحد خفف صلاته حتى يفرغ منها مسرعاً ليسأله عن حاجته، فإذا فرغ عن جواب السائل عاد إلى صلاته. وكان أكثرهم تبسماً، وأطيبهم نفساً.

الرسول صلي الله عليه و اله مع الخدم

وكان خدم أهل المدينة يأتون إلى رسول الله صلي الله عليه و اله إذا صلى الغداة بأوانيهم وفيها المياه ليغمس يده فيها فيتبركون بتلك المياه، فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها، وربما كان ذلك في الغداة الباردة فلا يأبى رسول الله صلي الله عليه و اله أن يغمس يده في تلك الأواني.

الصبي يبول في حجر الرسول صلي الله عليه و اله فلا يغضب

الصبي يبول في حجر الرسول صلي الله عليه و اله فلا يغضب

وكان صلي الله عليه و اله يؤتى إليه بالصبي الصغير فيدعو له بالبركة، أو يسمّيه، أو يأذن في أذنه، فيأخذه ويضعه في حجره تكرمةً لأهله، وربما بال الصبي عليه، فيصيح على الصبي بعض من كان حاضراً. فيقول صلي الله عليه و اله: لا تزرموا بالصبي، فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته أو أذانه، فيبلغ بذلك سرور أهله إلى ما شاء الله، حيث يرون أنه

لا يتأذى ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه(350).

وكان صلي الله عليه و اله إذا جلس إليه أحد تزحزح له شيئاً، وذات مرة قال له رجل: يا رسول الله في المكان سعة، فقال: نعم، لكن إن من حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس أن يتزحزح له.

النبي صلي الله عليه و اله يجلب رضا الناس

وكان صلي الله عليه و اله لا يترك أحداً حتى يرضيه، وإذا غضب عليه إنسان ثم رضي عنه كان يطلب منه: أن يعلن لأصحابه أنه رضي عنه.

وقد ورد: أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً، فأعطاه ثم قال له: أحسنت إليك؟

قال الأعرابي: لا ولا أجملت.

فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم صلي الله عليه و اله أن كفّوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه وزاده شيئاً ثم قال صلي الله عليه و اله: أحسنت إليك؟

قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.

فقال له النبي صلي الله عليه و اله: إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك؟

قال: نعم. فلما كان الغداة أو العشيّ جاء فقال صلي الله عليه و اله: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، إنه رضي أليس

كذلك؟ قال الأعرابي: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.

ثم قال صلي الله عليه و اله لأصحابه: (إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها، فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قُمام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).

الرسول صلي الله عليه و اله يأمر الناس بالإحسان

الرسول صلي الله عليه و اله يأمر الناس بالإحسان

وكان صلي الله عليه و اله إذا أساء أحد الأدب رده رداً جميلاً، وقد روي عن العلاء بن الحضرمي، أنه قال للنبي صلي الله عليه و اله: إن لي أهل بيت أحسن إليهم فيسيئون وأصِلهم فيقطعون؟ فقال رسول الله صلي الله عليه و اله: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ*(351)، فقال العلاء: إني قلت شعراً هو أحسن من هذا، قال صلي الله عليه و اله وما قلت؟ فأنشده شعره... فقال النبي صلي الله عليه و اله: (إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً، وإن شعرك لحسن، وإن كتاب الله أحسن)(352).

النبي صلي الله عليه و اله يجعل من العدو صديقاً

وفي رواية أن أعرابياً من بني سليم جاء إلى رسول الله صلي الله عليه و اله فلما وقف بإزائه ناداه: يا محمد يا محمد، أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة هو أكذب منك، إنك الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزّى لولا إني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين.

فوثب إليه أحد الصحابة ليبطش به، فقال النبي صلي الله عليه و اله: اجلس فقد كاد الحليم أن يكون نبياً، ثم التفت النبي صلي الله عليه و اله إلى الأعرابي، فقال له: يا أخا بني سليم هكذا تفعل العرب؟ يتهجمون علينا في مجالسنا، يجابهوننا بالكلام الغليظ؟ يا أعرابي والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضرَّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى(353).

وفي الخبر أنه أسلم الرجل وصار داعياً إلى الإسلام في قبيلته فكثر فيهم المسلمون حتى وصلوا إلى خمسمائة إنسان، فكان ذلك ببركة

أخلاق رسول الله صلي الله عليه و اله وحلمه وعفوه وصفحه.

الرسول صلي الله عليه و اله لا يستمع إلى الوشاة

وكان صلي الله عليه و اله يكره أن يقال عن إنسان سوءً، وكان صلي الله عليه و اله يقول: (لا يبلغني أحد منكم عن أحد أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر)(354).

وقد روت بعض نسائه قالت: دخل يهودي على رسول الله صلي الله عليه و اله فقال: السام عليك، ثم دخل يهودي آخر وقال مثل ذلك: السام (بمعنى الموت) فغضبت الزوجة وقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا أخوة القردة والخنازير. فقال لها رسول الله صلي الله عليه و اله: (يا فلانة إن الفحش لو كان مثالاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه، ولم يرفع عن شيء إلا شانه)(355).

عطف الرسول صلي الله عليه و اله على الحيوانات

وكان صلي الله عليه و اله عطفه حتى على الحيوان، فقد ورد في حديث: أن رسول الله صلي الله عليه و اله وضع الإناء حتى يتوضأ، إذ لاذ به هر في البيت، فعرف النبي صلي الله عليه و اله أنه عطشان، فأدنى إليه الإناء حتى شرب منه الهر، ثم توضأ صلي الله عليه و اله بما فضل.

وقال صلي الله عليه و اله: *إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور*(356).

وذات مرة، كان صلي الله عليه و اله يأكل التمر ويضع النواة في كفه اليسرى، فمرت من هناك عنزة، فأشار إليها بأن تتقدم فتقدمت وأخذت تأكل من يد رسول الله صلي الله عليه و اله النوى. ودخل ذات مرة بيتاً فرأى ديكاً ولا دجاجة له، فقال لصاحب البيت: (هلا اتخذت له أهلاً).

الرسول صلي الله عليه و اله لا يزعج الهرة

الرسول صلي الله عليه و اله لا يزعج الهرة

وكان صلي الله عليه و اله ذات مرة جالساً أو نائماً، فجاءت هرة ونامت على كُمه، فلما قام لم يرد إزعاج الهرة، فقطع القطعة من كمه التي كانت الهرة قد نامت عليها.

الرسول صلي الله عليه و اله يكرم الوفود

وقد وفد وفدُ للنجاشي إلى النبي صلي الله عليه و اله في المدينة، فقام النبي صلي الله عليه و اله يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله؟ فقال صلي الله عليه و اله: (إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين إني أحب أن أكافئهم).

الرسول صلي الله عليه و اله يكرم أباه وأمه وأخته من الرضاعة

ولما جاءت إليه أخته من الرضاعة واسمها شيماء، بسط لها رداءه وأجلسها عليه، وقال لها: إن أحببت أقمتِ عندي مكرمة محببة، أو زودتك ورجعت إلى قومك! فاختارت قومها فأعطاها شيئاً من المال، فرجعت مسرورة.

وذات مرة كان صلي الله عليه و اله جالساً إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه، فقام لها وبسط لها رداءه، فجلست عليه، فسأل بعض الصحابة من بعضهم من هذه؟ فقالوا: إنها أمه التي أرضعته(357). وروي أنه كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ردائه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع صلي الله عليه و اله بعض ردائه الآخر من الجانب الثاني لها فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلي الله عليه و اله فأجلسه بين يديه.

الرسول صلي الله عليه و اله يصل مرضعته

وكان صلي الله عليه و اله من بره ووفائه يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب (مرضعته) بصلة وكسوة، وحتى أنها لما ماتت سأل: من بقي من قرابتها؟ وكان يريد أن يوصلها فقيل له: لا أحد من قرابتها.

وفاء بزوجته صلي الله عليه و اله

وفاء بزوجته صلي الله عليه و اله

كما أنه صلي الله عليه و اله كان يذكر خديجة عليها السلام بعد وفاتها، وكان يذبح الشاه فيهديها إلى أخلاّئها وفاءً لها، وقد قالت خديجة له صلي الله عليه و اله ذات يوم: أبشر يا رسول الله، فوالله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتكسي المعدم، وتقري الضيف، وتعين على النوائب.

مجلس الرسول صلي الله عليه و اله

كان صلي الله عليه و اله لا يحب تكليف أحد، فلم يكن يريد أن يقوم له أصحابه إذا ورد المجلس.

كما أنه صلي الله عليه و اله كان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويقول: إنما أنا عبد أأكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد. وذات مرة قالت له امرأة بذّية، وهو يأكل جالساً على الحضيض: يا محمد والله أنك لتأكل أكل العبد، وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله صلي الله عليه و اله: أي عبد أعبد مني! (358).

تواضع الرسول صلي الله عليه و اله

وقد قال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) في وصف الرسول صلي الله عليه و اله: كان يحب الركوب على الحمار موكفاً، والأكل على الحضيض مع العبيد، ومناولة السائل بيديه، وكان يركب الحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرس، أو بغلة، أو حمار بدون تكلف(359). وكان صلي الله عليه و اله يوم بني قريضة على حمار موكف بحبل من ليف عليه أكاف من ليف.

الفضل بن العباس مع الرسول صلي الله عليه و اله

وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: خرج رسول الله صلي الله عليه و اله يريد حاجة فإذا بالفضل ابن العباس، قال فقال:احملوا هذا الغلام خلفي،ثم اعتنق رسول الله صلي الله عليه و اله الغلام بيده من خلفه، ثم قال: يا غلام خف الله تجده أمامك، يا غلام خف الله يكفك ما سواه.

الرسول صلي الله عليه و اله يخدم بنفسه في داره

الرسول صلي الله عليه و اله يخدم بنفسه في داره

وكان صلي الله عليه و اله إذا جاء إلى بيته اشتغل في البيت، فكان في مهنة أهله يقطع اللحم ويجلس على الطعام محقراً، وكان يلطع أصابعه، ولم يتجشأ قط، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلف البعير ويعقله، ويعلف ناضحه، ويضع طهوره بالليل بيده، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، قد كان يقضي بالحق، ويحكم بالفصل، فيحبه أعداؤه وأصدقاؤه، وكان أميناً وفياً صادقاً، حتى كان يسميه قومه قبل نبوته: الأمين.

الرسول صلي الله عليه و اله والأمانة

وروي أنه صلي الله عليه و اله لما أراد الهجرة خلّف علياً عليه السلام لقضاء ديونه، ورد الودائع التي كانت عنده، ولم يقل إنه يهرب من شرهم لأنهم يريدون قتله، فمالهم حلال، لأنهم كفار محاربون.

كان صلي الله عليه و اله بعيد المدى

وكان صلي الله عليه و اله بعيد المدى، ولما اختلفت قريش عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر، حكموا بأن أول من يضعه الداخل عليهم، فإذا النبي صلي الله عليه و اله يدخل وكان ذلك قبل نبوته، فقالوا: هذا محمد الأمين قد رضينا به حكماً..

أعداء الرسول صلي الله عليه و اله يعترفون بفضله

ولم تزل قريش نفسها تعترف له بالصدق والأمانة وكل فضيلة، حتى أن الأخنس لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمد صلي الله عليه و اله صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط. وسأل هرقل عنه صلي الله عليه و اله أبا سفيان، فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.

الرسول صلي الله عليه و اله يرعى الغنم

الرسول صلي الله عليه و اله يرعى الغنم

ومن وفائه: أن عمار (رضوان الله عليه) قال: كنت أرعى غنمي قبل الإسلام وكان محمد صلي الله عليه و اله يرعى أيضاً، فقلت: يا محمد هل لك في فخ فإني تركتها برق؟ قال: نعم فجئتها من الغد، وقد سبقني محمد صلي الله عليه و اله وهو قائم يذود غنمه عن الروضة، قال: إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك(360).

الرسول صلي الله عليه و اله لين العريكة

وكان صلي الله عليه و اله لين العريكة يتحرى أفضل السبل للوصول إلى الصلح والهدف والسلام.

وفي قصة الحديبية دعا رسول الله صلي الله عليه و اله علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال رسول قريش، وهو سهيل: أما الرحمان فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب (باسمك اللهم)، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلي الله عليه و اله لعلي (عليه الصلاة والسلام): اكتب بسمك اللهم، ثم قال لعلي اكتب: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلي الله عليه و اله: إني لرسول الله وإن كذبتموني، ثم أخذ الرسول صلي الله عليه و اله بنفسه الكتاب ومحا كلمة رسول الله، ثم كتب علي (عليه الصلاة والسلام) محمد بن عبد الله مكانه(361). إلى غير هذا كثير مما يدل على شعبيته الواسعة، وأخلاقه الكبيرة، وتواضعه ووفائه وحكومته الرشيدة التي لم يعرف التاريخ قبله مثلها ولا بعده إلا في زمان علي (عليه الصلاة والسلام) مما يجب أن يتخذها الحكام أسوة، إذا كانوا يريدون الله والدار الآخرة.

لزوم التأسي بالنبي صلي الله عليه و اله

وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): *فليتأس متأس بنبيه، وإلا فلا يأمننّ الهلكة*(362). نسأل الله أن يوفقنا لحركة إسلامية عالمية، تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم، بفضل الاقتداء بسيرة الرسول صلي الله عليه و اله، وما ذلك على الله بعزيز.

الفصل الثالث؛ الحکومة فی عهد علي عليه السلام

الفصل الثالث نبذة من سيرة علي عليه السلام وحكومته الرشيدة وأقواله المأثورة

ونبدأ هذا الفصل بمقتطفات من فلسفة الحكم عند الإمام (عليه الصلاة والسلام) في عهده لمالك الأشتر النخعي رحمة الله عليه حين ولاّه مصر، قال في جملة ذلك العهد الطويل المذكور في نهج البلاغة (363) وغيره:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر، في عهده إليه حين ولاه مصر، أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به كتابه. ثم اعلم يا مالك، إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه إلى أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.

فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح.

الحاكم والرحمة

الحاكم والرحمة

أشعر قلبك الرحمة لهم فإنك فوقهم. أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضاء الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة.

وليكن أبعد رعيتك منك أقربهم لمعايب الناس.

إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطعمة، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بالحق لك، وأرفقهم بأهل الورع والصدق، ثم حثهم على أن لا يطروك وأن لا يبحجوك بباطل لم تفعله.

لا يتساوى المحسن والمسيء

ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على ذلك، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.

إحسان الحاكم إلى الناس

إحسان الحاكم إلى الناس

واعلم أنه ليس شيء أدعى إلى حسن ظن والٍ برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم.

ولا تنقض سُنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء.

الرعية طبقات

واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها الجنود، ومنها كتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل وعمال الإنصاف، وأهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجارة وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه ووضعه على حده وفرضه في كتابه أو سنة نبيه.

استقامة العدل

إن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية.

كيف يكون القاضي؟

اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم. ثم انظر أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة.

أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم. وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، ثم تفقد أعمالهم.

الرقابة على الموظفين

الرقابة على الموظفين

وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في إصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج.

الاهتمام بالتجار

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع عن الاحتكار، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنَكّل به وعاقبه من غير إسراف.

الطبقة المحرومة

الطبقة المحرومة

ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، اجعل لهم قسماً من بيت المال ولا تشخص عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ثقتك من أهل الخشية والتواضع ليرفع إليك أمورهم، واجعل لذوي الحاجات وقتاً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه.

وبعِّد عنهم جندك وأعوانك من حراسك وشرطتك، حتى يكلمك مكلمهم غير متعتع، ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق.

الحاكم بدون حاجب

ولا تطولن احتجابك عن رعيتك، فالاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس من الأمور.

ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال.

والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد.

الوفاء بالعهد

الوفاء بالعهد

وحقق عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة.

فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. ولا تخفر بذمتك، وإياك والدماء وسفكها بغير حلها، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في القتل العمد.

أخلاقيات الحاكم

وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء.

وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك.

وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التساقط فيها عند إمكانها، فضع كل أمر موضعه.

أنبذ حمية أنفك، وسيرة حدك، وسطوة يدك، وعزب لسانك.

واحترس من كل ذلك بكف الباردة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

كتابه عليه السلام إلى رفاعة

وكتب عليه السلام إلى رفاعة لما استقضاه على الأهواز كتاباً فيه (364):

ذر المطامع وخالف الهوى، وزين العلم بسمت صالح.

نعم عون الدين الصبر، لو كان الصبر رجلا كان رجلاً صالحاً، إياك والملالة فإنها من السخف والنذالة، لا تحضر مجلسك من لا يشبهك، تخير لودك واقض بالظاهر وفوض إلى العالم ودع عنك الباطن، واحسب وأدّ، ليس في الدين إشكال، لا تمار فيه سفيهاً ولا فقيهاً، أما الفقيه فيحزنك خيره وأما السفيه فيخزيك شره.

ولا تجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن بالكتاب والسنة، ولا تعود نفسك الضحك، فانه يذهب البهاء، ويجرّئ الخصوم على الاعتداء.

تجنب الحاكم الرشوة

تجنب الحاكم الرشوة

إياك وقبول التحف من الخصوم وحاذر الدخلة، من ائتمن امرأة حمق، ومن شاورها فقبل منها ندم، احذر دمعة المؤمن، فإنها تقصف من دمعها، وتطفئ بحور النيران عن صاحبها، لا تبتر الخصوم، ولا تنهر السائل، ولا تجالس في مجلس الفقيه غير الفقيه، ولا تشاور في القضاء، فإن المشورة في الحرب ومصالح العاجل والدين فليس بالرأي إنما هو الاتباع، ولا تضيع الفرائض وتتكل على النوافل، أحسن إلى من أساء إليك، واعف عمن ظلمك، وارع من نصرك، وأعطِ من حرمك، وتواضع لمن أعطاك، واشكر الله على ما أولاك، واحمد على ما أبلاك.

العلم ثلاثة: آية محكمة، وسنة متبعة، وفريضة عادلة، وملاكهن أمرنا.

شعبية الحاكم

وقد كانت شعبية الحاكم في هاتين الحكومتين(365) إلى أبعد حد يتصور، كما أن حرية الشعب أيضاً كانت إلى أبعد حد يتصور، فالشعب كان حراً في تجارته، وفي زراعته، وفي صناعته، وفي سفره، وفي إقامته، وفي عمرانه، وفي تجمعه، وفي إبدائه الرأي، وفي سائر شؤونه، فالأرض لله ولمن عمرها، والمسلمون كلهم عبيد الله، وكان الحاكم يساعد الفقراء والمعوزين في تعمير الأرض: زراعة أو عمارة أو غيرها، ولذا اتسع العمران، ولم يكن هنالك قيد أو شرط، ولا جنسية، ولا جواز، ولا رخصة، ولا هوية، ولا ما أشبه.

الاكتفاء الذاتي في زمن الإمام عليه السلام

وقد ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إني أعطيت كل من في بلادي المسكن والرزق والماء.

وكان ذلك بفضل الحرية الممنوحة من قبل الإسلام التي طبقها أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فإذا كانت الأرض لله ولمن عمرها ولم تكن حواجز، فإن كل إنسان يبني لنفسه داراً، إذ الآجر والجص والطين والخشب المحتاج إليها في بناء السقوف والأبواب وما أشبه، كلها من ولائد الأرض وهي سهلة التحصيل، وحرية الإنسان وعامل الزمن ووجود المواد الأولية ينضم بعضها إلى بعض، وتسبب أن يكون لكل إنسان مسكن.

سعة عاصمة الإمام عليه السلام

سعة عاصمة الإمام عليه السلام

ولقد ذكر المؤرخون أن نفوس الكوفة وصلت في أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) إلى أربعة ملايين نسمة. بينما كانت الكوفة مدينة جديدة البناء لم يمر على عمرها حتى عشرين عاماً.

توسيع البلاد الإسلامية

وفي زمان الحجاج بنيت (واسط) وصار لهذه المدينة في مدة أقل من عشرين سنة ثمانية آلاف شارع، وكانت للبصرة مائة وعشرون ألف نهر، يسقي الأرض.

أما بغداد (في عصر الإمام الصادق عليه السلام وما أشبه) فقد كانت نفوسها أكثر من عشرة ملايين، إن مما لا شك فيه أن الحاكم كان جائراً كالحجاج وهارون، لكن القوانين السائدة في البلاد الإسلامية كانت قوانين إسلامية في الجملة.

دكاكين مجاناً للناس

وقد ورد في التاريخ: أن الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بنى دكاكين في الكوفة، وأعطاها للناس مجاناً بدون أجرة.

أما الرزق والماء، فكان كل إنسان يتمكن من حفر البئر، ومن جر القناة والنهر، كما كان كل إنسان حراً في تجارته، يسافر أينما شاء، ويكتسب كيفما يريد، ويحوز المباحات من معدن وصيد، والانتفاع بالأشجار المباحة والغابات وما أشبه، فلماذا لا يكون للناس المسكن والماء والرزق، والوالي لا يتصرف في الأموال حتى بمقدار إنسان عادي.

علي عليه السلام يحكم أكبر دولة في العالم

وهكذا جرت الأمور بعد رسول الله صلي الله عليه و اله حتى وصلت إلى علي (عليه الصلاة والسلام) حيث كان يحكم أكبر دولة في العالم ذلك اليوم، ضاربة من أواسط أفريقيا إلى أواسط آسيا مما هي في خريطة اليوم عشرات الدول فكانت في تلك الدولة الواحدة الكبيرة: الجنسيات والقوميات واللغات المختلفة، وكان البلد في زمان علي (عليه الصلاة والسلام) بلداً واحداً لا حواجز جغرافية فيه، فكان السائر يسير من مصر إلى الحجاز، إلى اليمن، إلى العراق، إلى الخليج، إلى إيران، والى غيرها، وهو في بلده، والمسلمون كلهم أخوة، أما غير المسلمين فهم نظراؤهم في الخلق.

الإمام عليه السلام يطلب رضا الله ورضا الناس

وقد كان (عليه الصلاة والسلام) من أشد الناس مراعاة لرضا الله ورضا الناس، وكان عادلاً عفيفاً زاهداً عن الحطام، متخذاً مبدأ الشورى، وإن كان هو خليفة رسول الله صلي الله عليه و اله حقاً، والمعين من قبل الله سبحانه وتعالى صدقاً، لكن مع ذلك لما وصل الحكم إليه لم يقبله إلا بإلحاح من المسلمين وإصرار شديد.

الإمام عليه السلام واختيار الناس

فقد ذكر المؤرخون أنه بعد مقتل الثالث جاءه المسلمون، وفيهم زعماء أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والذين جاؤوا من مصر والكوفة والبصرة وغيرها، فقالوا: يا أبا الحسن هل نبايعك؟ فقال عليه السلام: لا حاجة لي في أمركم، فقالوا: ما نختار غيرك، فاختلفوا إليه مراراً وتكراراً، وأصروا عليه إصراراً، وخرج عليه السلام إلى السوق فاتبعه الناس وبشّوا في وجهه، وأصروا عليه، فدخل حائط بني عمرو وقال لأبي عمرة: أغلق الباب، فجاء الناس فقرعوا فدخلوا وفيهم طلحة والزبير، فقالا: يا علي أبسط يدك، فبايعه طلحة والزبير وثم الآخرون(366).

وفي الخطبة الشقشقية تذكير بهذه الحقيقة.

السياسة العامة للإمام عليه السلام

وقد أوجز الإمام عليه السلام سياسته العامة في خطبة خطبها في أوائل استخلافه فقال (عليه الصلاة والسلام): (إن الله أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، وأصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا، الفرائض الفرائض أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنة... اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)(367).

وقال للمسلمين عند إصرارهم بأن يبايعوه: (دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب)(368).

فلما أصر القوم على مبايعته وقبل دعوتهم وبايعوه، قال (عليه الصلاة والسلام): (ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم صلي الله عليه و اله، والذي بعثه بالحق لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلن غربلة، ولتساطنّ سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم،

وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سابقون كانوا سبقوا)(369).

كيف بايعوا الإمام عليه السلام؟

وقد وصف عليه السلام في خطبة أخرى كيفية مبايعتهم له، وإصرارهم عليه، وتحقق الشورى بالنسبة إليه بقوله: (وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف)(370).

وفي خطبة أخرى له: (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم)(371).

وحتى إن الذين لم يبايعوه كعبد الله بن عمر وغيره تركهم عليه السلام وشأنهم ولم يقل إنه لابد لهم من المبايعة.

الإمام عليه السلام لا يقبل الحكم المنحرف

الإمام عليه السلام لا يقبل الحكم المنحرف

ومن شدة ورعه أنه في الشورى لما أصروا عليه بأن يكون خليفة على شرط كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه و اله وسيرة الشيخين قال: (أما كتاب الله وسنة رسوله فنعم، وأما سيرة الشيخين فلا، وإنما باجتهاد رأيي)(372). فقد ترك الخلافة الطويلة العريضة لرفضه شرطاً واحداً هو شرط (سيرة الشيخين)، مع أنه لو كان من أهل الدنيا والمنصب والجاه وما أشبه لكان قبل الشرط ثم تخلى عنه، كما هو كذلك بالنسبة إلى كثير من الحكام، بل أقل موظف أحياناً يكذب كذبات للوصول إلى دراهم معدودة وجاه صغير حقير، وقد نرى أن ثالث الخلفاء قبل هذا الشرط الثالث لكنه لم يفِ به.

الإمام عليه السلام والخط الصحيح

وحيث رأى الإمام (عليه الصلاة والسلام) بعد أن بويع له بالخلافة أن هناك خطين: خط الله والإسلام والقرآن والنبي والأمة، وخط الانحراف الذي حاصله عصيان الله والانحراف عن سيرة الرسول وسحق الضعفاء وتقوية المحتكرين والمستغلين، اختار الخط الأول مهما جرت عليه من النوائب والمحن، ولذا بقي الإمام (عليه الصلاة والسلام) شعبياً بالإضافة إلى كونه متبعاً لمرضات الله سبحانه وتعالى إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم الساعة ولم يبال أن يكون الخط الآخر يحاربه.

الخطوط المنحرفة

1: ما ظاهره الدين فقط كما في الخوارج.

2: أو الدنيا فقط كما في معاوية وأصحابه.

3: أو الدين الممزوج بالدنيا كما في أهل الجمل.

الإمام عليه السلام يعزل قاضيه

وكان عليه السلام حريصاً على العدل حتى أنه عزل قاضيه أبا الأسود الدؤلي مع علمه وعدالته وفضله، وعلله بأن يعلو صوته صوت الخصمين، فإنه لما عزل أبا الأسود جاءه، وقال يا أمير المؤمنين: (لِم عزلتني وما خنت وما جنيت، قال: إني رأيت كلامك يعلو كلام الخصمين)(373).

الإمام عليه السلام يعاتب واليه

الإمام عليه السلام يعاتب واليه

وحتى أن واليه على البصرة لما حضر مأدبة بعض فتيانها، كتب إليه كتاباً توبيخياً كما سيأتي. وكان عليه السلام يراعي رضى الناس إلى أبعد حد في إطار رضا الله سبحانه.

أخلاقيات الإمام عليه السلام في حكومته

وقد كان علي عليه السلام في حكومته يتبع آثار الرسول صلي الله عليه و اله، كما كان قبل حكومته كذلك، فكان علي عليه السلام الحاكم رجلاً عادلاً فاضلاً شعبياً استشارياً إلى أبعد الحدود، كما أن الشعب في زمان علي عليه السلام مسلمهم وكافرهم كانوا في حرية تامة ورفاه شامل من أقصى بلاده عليه السلام إلى أقصى بلاده، وقد تقدم الكلام بأنه كان رئيس أكبر دولة في عالم ذلك اليوم.

نماذج من السيرة العلوية

نماذج من السيرة العلوية

روى هارون بن عنترة، عن أخيه، عن أبيه، قال دخلت على علي عليه السلام بالخورنق في فصل الشتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال: والله ما أرزؤكم شيئاً وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة(374).

ويحدث الرواة أن الإمام عليه السلام لما دخل الكوفة لم يدخل القصر المبني للأمراء وإنما آثر أن يسكن مساكن الفقراء. نعم، بعدما استتب له الأمر وظهرت الأمور، مداخلها ومخارجها كان يسكن في بيت الإمارة، لكن بيت الإمارة في أيام الإمام لا حاجب له، ولا تشريفات، وإنما كانت محلاً لقضاء حوائج الناس.

مأكل الإمام عليه السلام

وروى النضر بن المنصور، عن عقبة بن علقمة قال: دخلت على علي عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته، وكسرة يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: (يا أبا الجنوب رأيت رسول الله صلي الله عليه و اله يأكل أيبس من هذا، ويأكل أخشن من هذا وأشار إلى ثيابه فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت أن لا ألحق به)(375).

عدل الإمام عليه السلام في المال

وذكر عاصم بن كليب، عن أبي، أنه قال: قدم على علي عليه السلام بمال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم (لأنه كانت في الكوفة سبعة أحياء) فوجد فيه رغيفاً، فقسّمه على سبعة، ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطي أولاً(376).

وذكر يحيى بن مسلمة: أن علياً (عليه الصلاة والسلام) استعمل عمرو بن مسلمة على أصبهان، فقدم ومعه مال كثير وزقاق فيها عسل وسمن، فأرسلت إحدى بنات علي إلى عمرو تطلب منه سمناً وعسلاً، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن، فلما كان الغد خرج الإمام علي عليه السلام وأحضر المال والسمن والعسل ليقسم فعد الزقاق فنقصت زقين، فسأله عنهما فكتمه، وقال: نحن نحضرهما فعزم عليه إلا ذكرهما له، فأخبره فأرسل علي إلى ابنته فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما، فكان ثلاثة دراهم، فأرسل إلى ابنته فأخذها منها، ثم قسم الجميع.

وروى سليمان: أن علياً (عليه الصلاة والسلام) لم يبن آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة(377).

الإمام عليه السلام يمشي لقضاء حاجة امرأة

وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه رجع علي عليه السلام إلى داره في وقت القيض، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى عليّ وحلف ليضربني، فقال: يا أمة الله حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء الله.

فقالت: يشتد غضبه وحرده عليَّ.

فطأطأ عليه السلام رأسه، ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه فوقف، فقال: السلام عليكم.

فخرج الشاب، فقال علي عليه السلام: يا عبد الله، اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها.

فقال الفتى: وما أنت وذاك، والله لأحرقنها لكلامك!.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: آمرك بالمعروف، وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر، وتنكر

المعروف.

قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين.

فسقط الرجل بين يديه وقال: أمير المؤمنين أقلني عثرتي، فوالله لأكون لها أرضاً تطؤني، فأغمد علي عليه السلام سيفه، وقال: يا أمة الله ادخلي منزلك، ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا أو شبهه (378).

الإمام عليه السلام يرعى اليتامى

الإمام عليه السلام يرعى اليتامى

وروى أبو الطفيل:أن علياً (عليه الصلاة والسلام) كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددت أني كنت يتيماً(379)، وكان ذلك فيه اقتداءً برسول الله صلي الله عليه و اله، حيث كان رسول الله صلي الله عليه و اله لا تخلو داره على صغرها من يتيم، وكان يقول: خير بيوتكم بيت فيه يتيم(380).

الإمام عليه السلام يعفو عن المذنب

وكان عليه السلام يدفع السيئة بالحسنة، وقد بعث أمير المؤمنين عليه السلام إلى لبيد بن عطارد التميمي (في كلام بلغه) فمر به إلى أمير المؤمنين في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته، فبعث أمير المؤمنين عليه السلام فأتوه به، وأمر به أن يضرب، فقال له نعيم: إن المقام معك لذل، وإن فراقك لكفر، فلما سمع ذلك منه قال: قد عفونا عنك، إن الله عزوجل يقول: *ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ*(381)، أما قولك إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، وأما قولك: إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها، فهذه بهذه(382).

أقول: أخطأ الرجل في زعمه: (إن المقام مع علي لذل) فإن الإنسان الذي لا يريد العدالة إذا أرغم على العدالة رآها ذلاً، فهل كان من الحق أن يفلت مجرماً؟.

لباس الإمام عليه السلام المرقع

وقال عليه السلام في كلمة له: لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها(383).

وعن السيد بن طاووس، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: تزوجت فاطمة عليها السلام وما كان لي فراش. وجاء في بعض التواريخ: إن الإمام عليه السلام جاء بالرمل ففرشه في غرفته ليلة زواجه بها (عليها الصلاة والسلام).

الإمام عليه السلام يعرض سيفه للبيع

وذات مرة عرض سيفه للبيع قائلاً: (من يشتري سيفي، ولو كان عندي عشاء لما بعته)(384). وقد كانت الكوفة عاصمته عليه السلام والمال يدرّ عليه من كل جانب ومكان.

وفي مرة أخرى عرض سيفه على البيع، وقال: من يشتري سيفي ولو كان عندي ثمن أزار ما بعته(385).

الإمام عليه السلام لا يضع لبنة على لبنة

الإمام عليه السلام لا يضع لبنة على لبنة

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنه ولي خمس سنين ما وضع آجرة ولا لبنة، ولا أقطع قطيعاً، ولا أورث بيضاء ولا حمراء(386).

وعن الأصبغ بن نباتة، أنه قال علي عليه السلام لأهل البصرة: دخلت بلادكم بأسمالي هذه ورحلي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين(387). وفي رواية أخرى، أنه قال: يا أهل البصرة ما تنقمون مني، إن هذا لمن غزل أهلي، وأشار إلى قميصه(388).

غذاء الإمام عليه السلام

وفي رواية أنه ترصد عمرو بن حريث غذاءه، فأتت فضّة بجراب مختوم فأخرج منه خبزاً متغيراً خشناً، فقال عمرو: يا فضّة لو نخلت هذا الدقيق وطيبته، قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه، ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام فتّه في قصعة وصب عليه الماء، ثم ذرّ عليه الملح وحسر عن ذراعه، فلما فرغ قال: يا عمرو لقد خانت هذه ومدّ يده إلى محاسنه وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام، هذا يجزيني(389).

ورآه عدي بن حاتم، وبين يديه شنّة فيها قراح ماء وكسرات خبز شعير وملح فقال: إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً، وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك؟ فقال عليه السلام شعراً:

علل النفس بالقنوع وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها (390)

الإمام عليه السلام يختار الثوب الأرخص

الإمام عليه السلام يختار الثوب الأرخص

ونظر علي عليه السلام إلى فقير خرق كم ثوبه، فخرق عليه السلام كم قميصه وألقاه إليه، وكأنه أراد أن يرقعه به.

وفي رواية الإمام الباقر: أن علياً عليه السلام أتى البزازين، فقال لرجل: بعني ثوبين؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين عندي حاجتك، فلما عرفه مضى عنه، فوقف على غلام فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين، فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة، فقال قنبر: أنت أولى به، تصعد المنبر وتخطب الناس، فقال: أنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك، سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله يقول: ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون.

فلما لبس علي عليه السلام القميص مدَّ كمّ القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أكفه أي أخيطه؟ قال: دعه كما هو، فإن الأمر أسرع من ذلك، فجاء أبو

الغلام البائع للثوب فقال: إن ابني لم يعرفك، وهذان درهمان ربحهما، فقال: ما كنت لأفعل قد ماكسته وماكسني واتفقنا على رضا(391).

لم يشبع الإمام عليه السلام قط

وروي أنه عليه السلام ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس أداماً وملبساً(392).

وروى عبد الله بن أبي رافع قال: دخلت إليه يوم عيد فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرصوصاً، فقدّم فأكل منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ فقال: خفت هذين الولدين، أي الحسنين، أن يلتاه بسمن أو زيت(393).

وكان ثوبه عليه السلام مرقعاً بجلد تارة وليف أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ فإذا وجد كمه طويلاً قطعه بشفرة، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فببعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك بقليل فمن ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً، ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان(394).

الإمام عليه السلام يأكل اللحم كل سنة مرة

وفي رواية أنه (عليه الصلاة والسلام) كان يأكل اللحم كل سنة مرة في عيد الأضحى، ويقول: إني أعلم أن الكل يأكلون اللحم في هذا اليوم، فكان تركه اللحم لمواساة المسلمين وسائر من في بلاده.

الإمام عليه السلام يخدم الضيف

ومن تواضعه عليه السلام أنه ورد عليه أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر المجلس وجلس بين أيديهما، ثم أمر بالطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطشت وإبريق خشب ومنديل لليبس وجاء ليصب على يد الرجل، فقام أمير المؤمنين عليه السلام وأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي الماء؟ قال: اقعد وأغسل، فإن الله عزوجل يراك وأخوك الذي لا يتميز عنك ولايتفضل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها.

فقعد الرجل فقال له علي عليه السلام: أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك الماء قنبراً؟ ففعل الرجل ذلك. فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية، وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله عز وجل يأبى أن يسوّى بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب فليصب الابن على الابن، فصب محمد بن الحنفية على الابن(395).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: *كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز* (396).

الإمام عليه السلام يشتري من السوق بنفسه

وروي أن علياً عليه السلام اشترى تمراً بالكوفة، فجعله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله، وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله؟ فقال عليه السلام: رب العيال أحق بحمله(397).

وفي رواية: أنه عليه السلام كان يحمل التمر والملح بيده، وكان ينشد هذا الشعر.

لا ينقص الكامل من كماله ما جر من نفع إلى عياله(398)

وكان (عليه الصلاة والسلام) كما يروي زيد بن علي عليه السلام يمشي في خمسة مواضع

حافياً، ويعلق نعله بيده اليسرى: يوم الفطر، والنحر، والجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة، ويقول: إنها أحب مواضع لله، وأحب أن أكون فيها حافياً(399).

أقول: الفطر والنحر والجمعة تواضع لله سبحانه وتعالى، والعيادة وتشييع الجنازة تواضع للمؤمن.

الإمام عليه السلام يمشي وحده

وكان عليه السلام يمشي في الأسواق وحده، ولا يترك أحداً يمشي معه، وكان يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالدكاكين، ويفتح عليهم القرآن ويقرأ (400)، يريد بذلك إرشادهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وكان لا يرد السيئة إلا بالحسنة.

الإمام عليه السلام مع عثمان

وقد روى قنبر قال: دخلت مع أمير المؤمنين عليه السلام على عثمان فأحب الخلوة فأومأ إلي بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتبه وهو مطرق برأسه، فأقبل إليه عثمان وقال: ما لك لا تقول؟ فقال عليه السلام: ليس جوابك إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب، ثم خرج قائلاً:

ولو أنني جاوبته لأمضّه نوافذ قولي واحتضار جوابي

ولكنني أغضى على مضض الحشا ولو شئت إقداماً لأنشب نابي(401)

الإمام عليه السلام وبعض الخوارج

وروي: أن امرأة جميلة في الكوفة مرّت قرب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهو جالس مع جماعة، فرمقها بعض القوم بأبصارهم، فنهاهم أمير المؤمنين عليه السلام عن ذلك قائلاً: إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام ناهياً لهم: رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب(402). ثم عفا عنه وتركه وشأنه.

الإمام عليه السلام وابن كوّا المنافق

وفي رواية: إنه عليه السلام كان في صلاة الصبح، فقرأ ابن كوا وكان من المنافقين : *وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ*(403) معرِّضا بالإمام عليه السلام وأنه قد أشرك بقبوله التحكيم، كما كان هكذا رأي الخوارج، فأنصت علي (عليه الصلاة والسلام) لقراءة القرآن اتباعاً لقوله تعالى: *وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ*(404) حتى فرغ ابن كوا من الآية، ثم عاد ابن كوا في قراءتها، فأنصت الإمام أيضاً، ثم قرأ الإمام عليه السلام فأعاد ابن كوا المرة الثالثة فأنصت علي عليه السلام وبعد ذلك قرأ هذه الآية المباركة: *فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ*(405)،(406).

الإمام عليه السلام يرعى الضعفاء

وفي رواية: إن أمير المؤمنين عليه السلام مر بأصحاب التمر، فإذا هو بجارية تبكي، فقال: يا جارية ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله، قال عليه السلام: يا عبد الله إنها خادمة وليس لها أمر فأردد إليها درهمها وخذ التمر.

فقام إليه الرجل فلكز الإمام عليه السلام فتوجّه الناس إليه وقالوا: هذا أمير المؤمنين، فاصفرّ لون الرجل خوفاً وأخذ التمر ورد إليها درهمها، ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني، فقال عليه السلام: ما أرضاني عنك إن أنت أصلحت أمرك(407).

وفي رواية أخرى: إذا وفيت الناس حقوقهم.

الإمام عليه السلام يعفو عن مجرمي الحرب

الإمام عليه السلام يعفو عن مجرمي الحرب

ولما انتهت حرب البصرة، وظفر بعائشة وأصحابها، أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهن بالسيوف حتى تتصور القوافل أنهم رجال احتراماً لعائشة، ولما كانت ببعض الطريق ولم تكن تعلم أنهن نساء تأففت قائلة: هتك ستري، ووكل بي الرجال، لكن النساء لم يظهرن لها أنهن نسوة، فلما وصلت إلى المدينة ألقت النسوة عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة(408).

ومن هذا الحديث يظهر أنهن في أوقات الصلاة ونحوها كن يخفين أنفسهن عنها.

وقد حاربه عليه السلام أهل البصرة ظلماً واعتداءً وجرّدوا السيوف عليه وسبوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار المعسكر: ألا لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكري فهو آمن.

ولم يأخذ الإمام عليه السلام أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، بل أبى إلا الصفح والعفو، وقال: مننت على أهل البصرة، كما منَّ رسول الله صلي الله عليه و اله على أهل مكة(409).

عدم اهتمام الإمام عليه السلام بمال

وكان عدم اهتمامه عليه السلام بالمال شيئاً قلّ مثيله. فقد سأله أعرابي شيئاً، فأمر له بألف، فقال وكيله: من ذهب أو فضة؟ فقال عليه السلام: كلاهما عندي حجران، فاعط الأعرابي أنفعهما له(410).

وقال ابن الزبير للإمام عليه السلام: إني وجدت في حساب أبي أن له على أبيك ثمانين ألف درهم من المال، فقال له: إن أباك صادق، فقضى ذلك، ثم جاءه فقال: غلطت فيما قلت، إنما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك، فقال: والدك في حل، والذي قبضته مني هو لك(411).

وكان عليه السلام يكد بكد يده، ثم إذا جمع مالاً اشترى عبداً فأعتقه في سبيل الله.

فعن أبي عبد الله

عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام أعتق ألف مملوك من كدّ يده(412).

الإمام عليه السلام يعمل بيده

وروي: أنه عليه السلام كان يسقي بيده النخل لبعض من في المدينة حتى مجلت يداه، ثم كان يتصدق بالأجرة للفقراء. وكان عليه السلام يشد على بطنه حجراً، كما كان يعمل الرسول صلي الله عليه و اله(413) وقاية من المرض، فإن البطن الجائع معرض للمرض.

احتياط الإمام عليه السلام في أموال المسلمين

وكان عليه السلام يحتاط لمال المسلمين إلى حد يحدثنا التاريخ أنه دخل عليه عمرو بن العاص ليلة وهو في بيت المال، وكان الإمام عليه السلام ينظر في أموال المسلمين وحساباتهم، وعنده سراج يضيء بزيت، وقد اشترى زيت السراج من بيت المال، ولما دخل ابن العاص، وأراد أن يتحدث مع الإمام في بعض الشؤون، أطفأ الإمام عليه السلام السراج، وجلس في ضوء القمر، فلم يستحل أن يجلس في ضوء مصباح زيته من أموال المسلمين بغير استحقاق.

وبنى عليه السلام موضعاً تحبس فيه الإبل والغنم الضالة وسماه المربد، فكان يعلف الحيوانات حتى يجد صاحبها أو يعطيها في سبيل الله إذا لم يجد صاحبها.

شدة رقابة الإمام عليه السلام على موظفيه

وكان من شدة رقابته عليه السلام على ولاته وقضاته وعماله أنه روت سودة بنت عمارة الهمدانية، أنها دخلت على معاوية بعد موت علي عليه السلام فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، ثم قال معاوية لها: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش سلطانك فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس الحرمل، ويسومنا الخسف، ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، فإن عزلته شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك، يا سودة، وقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه، فأطرقت سودة

وأنشدت:

صلى الإله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفوناً

قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً فصار بالحق والإيمان مقروناً

فقال معاوية: من هذا يا سودة؟

قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والله لقد جئته في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخذ قطعة جلد فكتب فيها:(بسم الله الرحمن الرحيم، *قَدْ جَآءتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ*(414) فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام). ثم دفع الرقعة إلي، فوالله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً(415).

الإمام عليه السلام كيف كان يجمع الضرائب

أما كيفية جمعه للمال الواجب على الناس (وليس ذلك إلا الخراج والزكاة والخمس والجزية) وقد تقدم أنه لا ضرائب في الإسلام إطلاقاً إلا هذه، أما الماليات والتي تسمى اليوم بالضرائب، مما تأخذه الدول قهراً وظلماً من الناس (ومنها الجمارك) فهي محرمة.

فقد روي في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: *بعث أمير المؤمنين عليه السلام من يجمع صدقات الزكاة من الكوفة إلى أطرافها، فقال له: يا عبد الله انطلق وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه، راعياً لحق الله فيه، حتى تأتي نادي بني فلان فإذا قدمت فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض

إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم وتسلم عليهم، ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدونه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً.

فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإن أكثره له، فقل: يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن لك، فلا تدخله دخول متسلط عليه فيه ولا عنف به، فاصدع المال صدعين، ثم خيره، أي الصدعين يختار؟ فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له… ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله تبارك وتعالى في ماله… وإن استقالك فأقله ثم اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله(416). إلى آخر الحديث.

الناس يعطون الضرائب برضا

وربما يتوهم أنه إذا كان كذلك فسوف لا يعطي الناس الأموال؟

والجواب: إن إيمانهم هو الذي يبعثهم على إعطاء المال كما نشاهد الآن بعض الناس يعطون أموالهم لمراجع التقليد، لأن إيمانهم يبعثهم على ذلك، بدون جبر ولا إكراه.

الإمام عليه السلام يوصي بقاتله

الإمام عليه السلام يوصي بقاتله

وكان من شفقة الإمام (عليه الصلاة والسلام) على الناس حتى بأعدائه، أنه لما ضربه ابن ملجم أتي به أسيراً فحبس في بعض غرف البيت، وكان الناس يأتون إلى الإمام عليه السلام باللبن (لأنه يدفع السم) فكان إذا شربه يبقى فيه بقية ويقول: أطعموا أسيركم (يعني ابن ملجم)!.

وجيء إليه مرة بشربة وكانت قليلة فشربها كلها، فقال لولده: اعلموا أنه شربت الجميع ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا، ألا وإنه آخر رزقي من الدنيا، ثم توجه إلى ولده فقال: بالله عليك يا بني إلا ما سقيته مثل ما شربت. فحمل إليه بقدر ذلك من اللبن فشرب.

وصية الإمام عليه السلام

وفي وصية الإمام (عليه الصلاة والسلام) لولديه الحسن والحسين * عند قرب وفاته قال: (أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوى عنكما، وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم، عليكم بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغض محق الدين، وفساد ذات البين ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب.

الله الله في الأيتام، لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار.

الله الله في القرآن، فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم.

الله الله في جيرانكم، فإن الله ورسوله أوصيا بهم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم.

الله الله في بيت

ربكم، فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا.

الله الله في الصلاة، فإنها خير العمل، وإنها عمود دينكم.

الله الله في الزكاة، فإنها تطفئ غضب ربكم.

الله الله في صيام شهر رمضان، فإن صيامه جُنة من النار.

الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان أمام هدى ومطيع له مقتد بهداه.

الله الله في ذرية نبيكم، فلا يظلمن بين أظهركم.

الله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً، ولم يؤووا محدثاً، فإن رسول الله أوصى بهم.

الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم.

الله الله في النساء وما ملكت أيمانكم، فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلي الله عليه و اله إن قال: أوصيكم بالضعيفين، نسائكم وما ملكت أيمانكم.

ثم قال: الصلاة الصلاة الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عزوجل.

ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتبادل والتبار، وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، *وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ* حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم(417).

الإمام عليه السلام لا يقتل المتآمرين

ثم قال: يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور(418).

وفي نهج البلاغة في كلام آخر له (عليه الصلاة والسلام): إنه حثهم على أن لا يقتلوا ابن ملجم ويعفوا عنه، وإن كان لهم الحق

في ذلك، وقد ألمعنا إلى هذا في مكان آخر من هذا الكتاب.

وفي رواية أخرى، أنه قال لابنه الحسن عليه السلام: يا بني أنت ولي الأمر من بعدي وولي الدم، فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة(419).

الإمام عليه السلام قريباً من كل الناس

الإمام عليه السلام قريباً من كل الناس

ومن شعبية الإمام عليه السلام أنه كان في متناول كل كبير وصغير، يجلس في المسجد ويدور في الأسواق، ويزور ويزار، حتى أن أعداءه كانوا يتمكنون من الوصول إليه، والمخاشنة في الكلام معه، وكان يردهم بكل لطف بدون أن يغضب، أو تأخذه العزة بالإثم، كما هو شأن السلطات إلا من عصمهم الله.

لطف الإمام عليه السلام على أعدائه

فقد روى المؤرخون: أن الحريث بن راشد السامي كان عدواً للإمام عليه السلام، فجاءه قائلاً له: والله لا أطعت أمرك، ولا صليت خلفك. فلم يغضب لذلك، ولم يبطش به، ولم يأمر به إلى السجن أو العقوبة، وإنما دعاه إلى أن يناظره حتى يتبيَّن أيهما على الحق، ويبين له وجه الحق لعله يتوب، فقال له الحريث: أعود إليك غداً، فقبل منه الإمام فانصرف الرجل إلى قومه ولم يعد.

وما أشبه الإمام عليه السلام برسول الله صلي الله عليه و اله في شعبيته، وكونه في متناول يد الكل، وما أشبه هذه القصة بقصة الحارث بن النعمان الفهري، فإنه أتى رسول الله صلي الله عليه و اله بعد أن نصب علياً عليه السلام خليفة فقال له: يا محمد (ولم يسمه رسول الله ولم يحترمه وإنما تكلم بكلام خشن) أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه، وأمرتنا أن نصوم شهر فقبلناه، وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله عزوجل؟ فلم يأخذ رسول الله الغضب، ولم يأمر بضربه وسجنه وتعذيبه، ولم يخاشن له في القول، بل أجابه بقوله: (والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا كان من الله).

وكان الرجل معانداً، فولى يريد ناقته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذابٍ أليم(420).

الرسول صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام يحتاطان في الدماء

وكان (عليه الصلاة والسلام) من أحوط الناس في الدماء، كما كان رسول الله صلي الله عليه و اله كذلك، فقد ذكر المؤرخون: إن كل القتلى الذين قتلوا في حروب رسول الله صلي الله عليه و اله وفي غير حروبه، من المسلمين وغير المسلمين لم يتجاوزوا الألف وثمانية، أما المكثرون منهم فقد أنهوا المقتولين من الجانبين إلى ألف وأربعمائة.

كما أن علياً (عليه الصلاة والسلام) حسب ما ذكره بعض المحققين لم يقتل من الذين هم في بلاده الواسعة، من الذين أجرموا أكثر من مائة شخص في تمام حكمه الطويل البالغ زهاء خمس سنوات، باستثناء الذين قتلوا في معاركه الثلاثة.

حروب الرسول صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام كانت دفاعية

ومن الواضح المعروف، أن المعارك أشعلها المناوؤن له عليه السلام، والذين هم خرقوا الحكم وجاؤوا إلى حربه في البصرة والنهروان وصفين.

وكان عليه السلام إذا انتهت الحرب عفا عنهم وتركهم وشأنهم.

الإضراب والمظاهرة في زمان الإمام عليه السلام

وكان (عليه الصلاة والسلام) لا يمنع عن المظاهرات والإضرابات، كما أنه اتفق في زمانه أن أغلق أهل الكوفة الدكاكين، حيث حكم عليه السلام بحكم لم يرضوا له. وفي مرة أخرى، حيث عزل قاض فلم يرض بعض أهل الكوفة بعزله وخرجوا في تظاهرة، في قصتين مذكورتين في التواريخ فلم يتعرض لهم الإمام بسوء، وإنما تركهم وشأنهم بعد أن نصحهم.

القضاة في زمان الإمام عليه السلام

القضاة في زمان الإمام عليه السلام

وكان عليه السلام يشدد احتياطه في الحقوق، وقد أمر بعض قضاته أنه لا يحق له إجراء حد أو قصاص أو ما أشبه، إلا أن يرجع إليه.

فقد روى الكليني رحمة الله عليه وغيره عن سلمة بن كهيل قال: سمعت علياً عليه السلام يقول لشريح: *انظر إلى أهل المعك والمطل ودفع حقوق الناس من أهل المقدرة واليسار ممن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكام، فخذ للناس بحقوقهم منهم وبع فيها العقار والديار، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و اله يقول: مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم، ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه.

واعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا من ورعهم عن الباطل، ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك، ورد اليمين على المدعي مع بينة، فإن ذلك أجلى للعمى، وأثبت في القضاء.

واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد لم يتب منه، أو معروف بشهادة زور، أو ظنين، وإياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء الذي أوجب الله فيه الأجر ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق.

واعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً، أو أحلّ حراماً، واجعل لمن ادعى شهوداً غيّباً أمداً بينهما، فإن أحضرهم أخذت له

بحقه، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية، فإياك أن تنفذ فيه قضية في قصاص، أو حد من حدود الله، أو حق من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك علي إن شاء الله، ولا تقعدن في مجلس القضاء حتى تطعم(421). وقد ذكروا له عليه السلام في القضاء شيئاً غريباً لم يعهد إلا من رسول الله صلي الله عليه و اله قبله.

الإمام عليه السلام يقف أمام القاضي!

فقد روى ابن الأثير في التاريخ (الكامل) أن علياً عليه السلام وجد درعاً عند نصراني فأقبل إلى شريح قاضيه وجلس إلى جانبه يخاصم النصراني مخاصمة رجل من رعاياه، وقال: إن هذه درعي لم أبع ولم أهب، فقال للنصراني: ما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب.

فالتفت شريح إلى علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟

قال: لا.

فقضى شريح بها للنصراني، فمشى هنيئة، ثم أقبل فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين(422).

أقول: هذه القضية رويت أيضاً بشكل آخر، كما يجده من أراد الاطلاع في الكتب الفقهية في كتاب القضاء.

حرية الرأي في زمان الإمام عليه السلام

حرية الرأي في زمان الإمام عليه السلام

وكان الإمام عليه السلام يعطي للرأي حريته حتى رأي أعدائه، كما أنه كان يعطي سائر الحريات للناس.

فقد روى المؤرخون: أنه لما ظهر الخوارج وأخذوا ينتقصون الإمام عليه السلام ويكفرونه ويقولون: لا حكم إلا لله وهي كلمة حق يراد بها باطل، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لم يتعرض لهم الإمام بسوء، بل كان (كما في رواية) يجري عليها عطياتهم من بيت المال.

وقد أراد أصحاب الإمام عليه السلام قتال هؤلاء بادئ الأمر، ولكن الإمام عليه السلام أبى عليهم ذلك، وأنكره وقال: إن سكتوا تركناهم، وإن تكلموا حاججناهم، وإن أفسدوا قاتلناهم. فقوله: إن تكلموا حاججناهم، يعني الأمر بحاجة إلى المحاججة، فما دام لا عدوان على نحو الإجرام منهم، فهم وشأنهم.

الإمام عليه السلام يعطي الماء لأعدائه

وكان (عليه الصلاة والسلام) كريماً حتى في حروبه، فقد ورد أن معاوية وأصحابه في صفين استولوا على الماء، ومنعوا أصحاب الإمام عن الماء، فأمر الإمام عليه السلام أصحابه أن يجلوهم عن الفرات، فانهزم أصحاب معاوية، وسيطر أصحاب الإمام علي عليه السلام على الماء، ولما صار الماء بأيدي أصحاب الإمام قالوا: لا والله لا نسقيهم، لكن الإمام عليه السلام أبى وأرسل إليهم أن خذوا حاجتكم من الماء وخلوا بينهم وبين الماء، فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم. ولما قالوا له: امنعهم يا أمير المؤمنين من الماء كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبيني، لا أفعل ما فعله الجاهلون.

الحسين عليه السلام يقتدي بأبيه وجده *(423)

وقد اقتدى بهذا الأمر ولده الحسين (عليه الصلاة والسلام)، فإنه أعطى الماء للذين جاؤوا لقتاله، لكن لما استولوا هم على الماء منعوا الإمام الحسين عليه السلام وأهله وأطفاله الماء.

تحنن الإمام عليه السلام على الأيتام والأرامل

وكان تحننه عليه السلام على الأطفال والضعفاء والفقراء والأرامل واليتامى شيئاً تحدث به الركبان، وقصته في يتامى (عمار) مشهورة، فإنه عليه السلام لما رأى يتامى (عمار) أخذ يبكي ويقول: ما إن تأوهت من شيء رزئت به كما تأوهت للأيتام في الصغر

قد مات والدهم من كان يكفلهم في النائبات وفي الأسفار والحضر(424)

وقصة ذهابه في الليالي إلى الخربة لأجل إطعام ذلك الفقير العاجز والتي اكتشفت بعد مقتله عليه السلام، حيث أن الفقير نقل ذلك للإمامين الحسن والحسين * معروفة.

الإمام عليه السلام يحمل قربة الأرملة

وكذا قصة أخذه عليه السلام القربة من الأرملة وذهابه إلى بيتها وتسجيره التنور لها وإطعامه أطفالها، وأمثال ذلك كثيرة. وكل ذلك يدل على أن الحاكم يجب أن يكون شعبياً إلى هذا الحد، وأن الشعب يجب أن تتوفر له الحرية إلى هذا الحد.

واللازم، أن تكون معالم الحكم الإسلامي العالمي لحكومة ألف مليون مسلم هكذا. ولم يكن كل ذلك إلا لأن الرسول صلي الله عليه و اله وعلياً عليه السلام كانا يؤمنان بالله واليوم الآخر إيماناً شديداً، ويخافان الله سبحانه وتعالى في كل صغيرة وكبيرة.

خوف الرسول صلي الله عليه و اله والإمام عليه السلام من أصغر معصية

وكان الرسول صلي الله عليه و اله يقول: (ولو عصيت لهويت). وكان يقول في دعائه: (لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)، وكذلك كان علي عليه السلام، انظروا إلى كلامه في نهج البلاغة، حيث يربط خوفه من الظلم بخوفه من الله سبحانه وتعالى، فيقول في كلام له:

(والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، وأُجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها)(425).

ثم يذكر الإمام عليه السلام قصة

طلب عقيل (عليه الصلاة والسلام) منه شيئاً من بيت المال زائداً على حقه. إلى أن يقول:(وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي فظن إني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟!

وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها، كأنما عجنت بريق حية، أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة، فذلك محرّم علينا أهل البيت؟ فقال لا ذا، ولا ذاك، ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني، أمتخبط أنت أم ذو جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين(426).

عدم قبول الإمام عليه السلام المصانعة

عدم قبول الإمام عليه السلام المصانعة

وكان عليه السلام لا يقبل حتى الهدية حتى لا يكون ذلك أحبولة إلى الانحراف عن الأحكام (وإن كان الإمام عليه السلام لا ينحرف حتى قدر شعرة لكنه للتعليم)، انظروا إلى كتابه هذا حيث يؤنب واليه، مما يدل على أنه عليه السلام كيف كان يواظب على ولاته أن لاينحرفوا قدر شعرة، والكتاب مذكور في نهج البلاغة وفي غيره.

شدة رقابة الإمام عليه السلام على ولاته

فقد كتب عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة حيث قد بلغه عليه السلام أنه دعا إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها:

(بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة أسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه، ألا وإن لكل مأموم إماماً يُقتدي به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظللته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك؟! والنفس مظانها في غد جدث، حيث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على

جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، وما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو اعتسف طريق المتاهة، وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً، والنباتات البدوية أبطأ وقوداً وأبطأ خموداً، وإني من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد، والله لو تظاهرت العرب(427) على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها سارعت إليها(428) وسأجهد أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد، إليك عني يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذهاب في مداحضك، أين القرون الذين غررتهم بمداعبك، أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ فها هم رهائن القبور ومضامين اللحود، والله لو كنتِ شخصاً مرئياً، وقالباً حسياً، لأقمت عليكِ حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد

ولا صدر، هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازور حبائلك وفق، والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه، اعزبي عني، فوالله لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم الله يميناً استثنى فيه بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل عليّ من زاده فيهجع، قرت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية، طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم *أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*(429) فاتق الله يا بن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك(430).

ضرار يصف الإمام عليه السلام

وهنا نذكر وصف بعض أصحاب الإمام (عليه الصلاة والسلام) له، فقد ذكر المؤرخون: أنه دخل ضرار بن ضمرة الكناني وكان من تلاميذ الإمام (عليه الصلاة والسلام) على معاوية بن أبي سفيان يوما فقال له: يا ضرار صف لي عليا؟

فقال: أو تعفيني من ذلك.

قال: لا أعفوك.

قال: أما إذ لابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة على لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان والله معنا كأحدنا، يدنينا

إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع دنوه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ النظيم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف عن عدله، أشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، مماثلا في محرابه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري، لا حان حينك، قد أبتك ثلاثا، عمرك قصير وخيرك حقير وخطرك غير كبير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فوكفت دموع معاوية على لحيته وجعل يستقبلها بكمه واختنق القوم جميعا بالبكاء وقال: هكذا كان أبو الحسن يرحمه الله، فكيف وجدك عليه يا ضرار؟

فقال: وجد أم واحد ذبح واحدها في حجرها فهي لا يرقى دمعها ولا يسكن حزنها.

فقال معاوية: لكن هؤلاء لو فقدوني لما قالوا ولا وجدوا بي شيئا من هذا، ثم التفت إلى أصحابه فقال: بالله لو اجتمعتم بأسركم هل كنتم تؤدون عني ما أداه هذا الغلام عن صاحبه؟ فيقال إنه قال له عمرو بن العاص: الصحابة على قدر الصاحب(431).

إلى غير ذلك من معالم شخصية الإمام عليه السلام، ومن معالم حكمه، ومن معالم الشعب في زمانه.

لا تحرير إلا بالإسلام

وأخيراً لابد أن ننوه في سبيل الحركة الإسلامية المنتهية إلى حكومة ألف مليون بإذن الله تعالى، والمنتهية أيضاً إلى هداية سائر الناس إلى صراط مستقيم:

إلى أنه يجب على العاملين أن يعرفوا أن الإسلام هو المحرك الوحيد للجماهير لإزالة كل صور الاستعمار، وأشكال الاستغلال، وتسلط الكفار، وأنه لا نجاة لأفغانستان وسائر البلاد التي وقعت في مخالب الشيوعيين، سواء الروس أو

الصين، وكذلك لا نجاة لفلسطين، ولا لبلاد إريتريا، ولا لبلاد مورو، ولا لسائر المسلمين الذين وقعوا تحت نير كفار الغرب من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، إلا بالإسلام، فإن مستقبل الإسلام كماضيه، فقد كان الإسلام وراء كل تحرير في العالم الإسلامي في الزمن السابق، وإنما أنقذ البلاد الإسلامية من يد الكفار والمستعمرين المسلمون المجاهدون في سبيل الله سبحانه وتعالى، فكان الإسلام يمنحهم القدرة على الصمود والمواجهة.

نعم، جملة من الكتّاب الذين يقودهم المستعمرون، أو خطف أبصارهم بريق الشرق والغرب يحطون من قدر الإسلام وينقصون من شأنه ويتصورون أن الإسلام ليس إلا عقيدة ومسجداً وأنه مرتبط بالله فقط، مصدقين المثل الغربي المشهور: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) مع أنه ليس كذلك، فالإسلام دين ودنيا.

علماء الإسلام يقودون حركات التحرير

علماء الإسلام يقودون حركات التحرير

وقد أرانا التاريخ جملة من العلماء الذين كان يحركهم الإسلام في نهضتهم وقيامهم، وإنقاذ بلاد الإسلام من أيدي أعدائهم، أمثال: السيد محمد المجاهد، والميرزا الكبير الشيرازي، والآخوند الخراساني، والميرزا الثاني الشيرازي، والسيد حسين القمي، والسيد أبو الحسن الأصبهاني، والميرزا محمد حسين النائيني، والسيد محمد كاظم الطباطبائي، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد جمال الدين، والسيد أبو القاسم الكاشاني، والسيد نواب الصفوي، وغيرهم من علماء المسلمين الذين سببوا يقظة العالم الإسلامي، وتحركوا وأوجدوا قواعد إنقاذ المسلمين، سواء تحركوا حركة عسكرية، أو حركة ثقافية، أو ما أشبه.

عملاء أدعياء التحرير

وقد رأينا أن دعاة التحرير من غير العلماء والصادقين من أتباعهم الذين كانوا يدعون إلى الإسلام كانوا عملاء الاستعمار، كأتاتورك، والبهلويين، وأمان الله خان، وعبد الناصر، وعفلق، وعبد الكريم قاسم، وأضرابهم من البعثيين والشيوعيين والديمقراطيين الغربيين، والبدائل الفكرية التي حاولت دفع الإسلام عن الساحة، وإخراجه عن المجتمع، كلها قد جربت في عالم المسلمين، فلم تزدد بلاد المسلمين إلا انتكاساً، والأوطان إلا تخلفاً وضياعاً وفرقةً، والتمزق الفكري والاختلاف العقائدي، وتوزع الولاء للشرق والغرب لا يسبب إلا مزيداً من التأخر والفشل، والعدول عن الإسلام لا يوجب إلا مزيداً من الهزيمة، هذه شهادة التاريخ، وأدلة الواقع.

فمثلاً: فلسطين ضاعت منذ خمسين سنة تقريباً، وكل البدائل عن الإسلام لم تتمكن أن تنقذ منها حتى شبراً واحداً، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله: *لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين*(432). فكيف يقال: إن المريدين للإنقاذ كاملو الإيمان وهم يلدغون من جحر ألف وألف مرة؟ لا شك أن جماعات منهم مسلمون. لكن الكلام في أن الإيمان الكامل لا يكون إلا بسلوك منهج الإسلام.

كيف ننقذ فلسطين؟

ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن الثورة الفلسطينية، والثورة الأفغانية، والثورة الفليبينية، والثورة الإريترية، والثورة العراقية، ضد الحكام الطواغيت من المستعمرين وعملائهم والثورات المخفية في سائر بلاد الإسلام التي يحكمها الاستعمار بشكل مباشر، أو غير مباشر، إذا عملت بالمنهج الإسلامي الذي ذكر في هذا الكتاب من طرح حركة إسلامية كاملة بجعل الشورى والقوانين الإسلامية منهاج الحركة ، وجعل الهدف حكومة ألف مليون مسلم، بأخوة إسلامية صادقة، لابد وأن تنتهي إلى ذلك، وقد قال الله سبحانه: *إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ*(433).

وقال تعالى: *إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ*(434).

نسأل الله الهداية والتوفيق والتقدم، وأن يجعلنا ممن ينتصر

به لدينه.

حديثان حول كيفية عمل الحاكم الإسلامي

أ: عهد رسول الله صلي الله عليه و اله إلى ولاته

قال علي عليه السلام: عهد رسول الله صلي الله عليه و اله عهداً كان فيه بعد كلام ذكره(435):

فيما يجب على الأمير من محاسبة نفسه

أيها الملك المملوك: اذكر ما كنت فيه، وانظر إلى ما صرت إليه، واعتقد لنفسك ما يدوم، واستدل بما كان على ما يكون، وابدأ بالنصيحة لنفسك، وانظر في أمر خاصتك وفي معرفة ما عليك ولك، فليس شيء أدل لامرئٍ على ما له عند الله من أعماله، ولا على ما له عند الناس من آثاره، فاتق الله في خاصة نفسك، وراقب فيما حملك، وتعبد له بالتواضع إذ رفعك، فإن التواضع طبيعة العبودية والتكبر من أخلاق الربوبية، ولا تميلنّ بك عن الصد رتبة تروم بها ما ليس لك، ولا تبطرنّ نعم الله عليك عن إعظام حقه، فإن حقه لن يزداد عليك إلا عظماً.

ولا تكونن كأنك بما أحدث الله عليك من الكرامة ترى أنه أسقط عنك شيئاً من فرائضه، وإنك استحققت عليه وضع الصعاب عنك، فتنهمك في بحور الشهوات، فإنك إن تفعل همدت وزر ذلك على قلبك، وتذمم عواقب ما فاتك من أمرك، فاعرف قدرك وما أنت إليه صائر، واذكر ذلك حق ذكره، وشاعر قلبك الاهتمام به فإنه من اهتم بشيء أكثر ذكره، وأكثر التفكر فيما تصنع وفي من يشاركك فيما تجمع، فإنك لست مجاوزاً في غاية المنتهى أجل بعض أخدانك(436) والساعة تأتي من ورائك، وليس الذي تبلغ به قضاء ما يحق عليك بقاطع عنك شيئاً من لذاتك التي تحل لك ما لم تجاوز في ذلك قصد ما يكفيك إلى فضول ما لا يصل من نفعه إليك، إلا ما أنت عليه في غاية من الغنى، فتحمل بنفسك ما ليس غايتك منه إلا حظ عينك، وما وراء ذلك منفعة لغيرك، فليقصر

في ذلك أملك وليعظم من عواقبه وجلك(437).

ذكر ما فيه موعظة الأمير ممن كان قبله

انظر أيها الملك المملوك، أين آباؤك؟ وأين الملوك من أعدائك الذين أكلوا الدنيا منذ كانت؟ فإنما تأكل ما أسأروا(438)، وتدير ما أداروا، وأين كنوزهم التي جمعوا؟ وأجسادهم التي نعموا؟ وأبناؤهم الذين كرموا؟ هل ترى أقل منهم عقباً وأخمل منهم ذكراً؟ واذكر ما كنت تأمل من الإحسان أن أحسن الله إليك، ولا يغلبنك هواك على حظك، ولا تحملنك رقتك على الولد على أن تجمع لهم ما لا يحول دون شيء قضاه الله عليهم وأراد بلوغه فيهم، فتهلك نفسك في أمر غيرك، وتشقيها في نعيم من لا ينظر لك من الأيام، اذكر الموت وما تنظر من فجأة نقماته، ولا تأمن من عاجل نزوله بك، وأكثر ذكرك زوال أمر الدنيا وانقلاب دهرها وما قد رأيت من تغير حالاتها بك، وبغيرك، إنك كنت حديثاً من عرض الناس، وكنت تعيب بذخ الملوك، وتجبّرهم في سلطانهم وتكبّرهم على رعيتهم، وتسرعهم إلى السطوة، وإفراطهم في العقوبة، وتركهم العفو والرحمة، وسوء ملكتهم، ولؤم غلبتهم وجفوتهم لمن تحت أيديهم، وقلة نظرهم في أمر معادهم، وطول غفلتهم عن الموت، وطول رغبتهم في الشهوات، وقلة ذكرهم للخطيئات، وتفكرهم في نقمات الجبار، وقلة انتفاعهم بالعبر، وطول أملهم للغير، وقلة اتعاظهم بما جرى عليهم من صروف التجارب، ورغبتهم في الأخذ، وقلة إعطائهم للواجب، وطول قسوتهم على الضعفاء، والإيثار لخواصهم، والاستيثار والإغماض، ولزوم الإصرار، وغفلتهم عما خلقوا له، واستخفافهم بما أمروا، وتضيعهم لما حملوا، أفنصيحة كانت عيب ذلك منك عليهم واستقباحه منهم؟ أو نفاسة لما كانوا فيه عليهم، فإن كان ذلك نصيحة فأنت اليوم أولى بالنصيحة لنفسك، وإن كانت نفاسة، فهل معك أمان من سطوات الله؟ أم عندك منعة تمتنع بها من

عذاب الله؟ أم استغنيت بنعمة الله عليك عن تحري رضاه؟ أو قويت بكرامته إياك على الأصحار لسخطه، والإصرار على معصيته؟ أم هل لك مهرب يحرزك منه؟ أم رب غيره تلجأ إليه؟ أم لك صبر على احتمال نقماته؟ أم أصبحت ترجو دائرة من دوائر الدهور تخرجك من قدرته إلى قدرة غيره؟ فأحسن النظر في ذلك لنفسك، واعمل فيه بعقلك وهمك، وأكثر عرضه على قلبك.

واعلم أن الناس ينظرون من أمرك إلى مثل ما كنت تنظر فيه من أمر من كان في مثل حالك من قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم، انظر أين الملوك؟ وأين ما جمعوا مما دخلت عليهم المعائب؟ وبه قيلت فيهم الأقاويل، ماذا شخصوا به معهم منه؟ وماذا بقي لمن بعدهم؟ فاذكر حالك وحال من تقدمك ممن كان في مثل حالك، وما جمع وكنز، هل بقيت تلك الكنوز حين أراد الله نزعها منه؟ وهل ضرك إذ كنت لا كنز لك حين أراد الله صرف هذا الأمر إليك، فلا ترى أن الكنوز تنفعك، ولا تثق بها ليومك فيما تأمل نفعه في غدك، بل لتكن أخوف الأشياء عندك وأوحشها لديك عاقبة.

وليكن أحب الكنوز إليك وأوثقها عندك نفعاً وعائدة الاستكثار من صالح الأعمال واعتقاد صالح الآثار، فإنك إن تعمل هواك في ذلك، وتصرفه من غيره يقلل همك، ويطيب عيشك، وينعم بالك.

ولتكن قرة عينك بالزهد، وصالح الآثار أفضل من قرة عيون أهل الجمع بالجمع، عليك بالقصد فيما تجمع، وفيما تنفق، ولا تعدن الاستكثار من جمع الحرام قوة، ولا كثرة الإعطاء من غير حق جوداً، فإن ذلك يجحف بعضه ببعض، لكن القوة والجود أن تملك هواك شحّ(439) النفس بأخذ ما يحل لك، وسخاء النفس بإعطاء ما يحق عليك، انتفع

في ذلك بعلمك، واتعظ فيه بما قد رأيت من أمور غيرك، وخاصم نفسك عند كل أمر تورده وتصدره، خصومة عامد للحق جهده ينتصف لله وللناس من نفسه، غير موجب لها العذر حيث لا عذر ولا منقاد للهوى في ورطات الردى، فإن عاجل الهوى لذيذ وله غب وخيم(440).

في أمر الأمراء بالعدل في رعاياهم والإنصاف من أنفسهم

أشعر قلبك الرحمة لرعيتك، والمحبة لهم، والتعطف عليهم، والإحسان إليهم، ولا تكونن عليهم سبعاً تغتنم زللهم وعثراتهم، فإنهم إخوانك في النسبة ونظراؤك في الحق، يفرط منهم الزلل، وتعتريهم العلل، ويتوى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك من هو فوقك وفوقهم، والله ابتلاك بهم، وولاك أمرهم، واحتج عليك بما عرفك من محبة العدل والعفو والرحمة، ولا تستخفن ترك محبته، ولا تنصبن نفسك لحربه، فإنه لا يدان لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته.

ولا تعجلن بعقوبته، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مخرجاً، ولا تقولن إني أمير أصنع ما شئت، فإن ذلك يسرع في كسر العمل، وإذا أعجبك ما أنت فيه، وحدثت لك عظمته، ودخلتك أبهة أبطرتك، واستقدرك على من تحتك فاذكر عظم قدرة الله عليك، وفكّر في الموت وما بعده، فإن ذلك ينقص من زهوك، ويكف من مرحك، ويحقر في عينيك ما استعظمته من نفسك.

وإياك أن تباهي الله في عظمته، ولا تضاهيه في جبروته، وأن تختال عليه في ملكه، فإن الله مذل كل جبار، ومهين كل مختال، أنصف الناس من نفسك ومن أهلك ومن خاصتك أن لا تفعل تظلم، ومن يظلم عباد الله فالله خصمه دون عباده، ومن يكن الله خصمه فهو له حرب حتى ينزع، وليس شيء أدعى لتغير نعمة أو تعجيل نقمة من إقامة على ظلم، فإن الله

يسمع دعوة كل مظلوم، وإن الله عدو للظالمين، ومن عاداه الله فهو رهين بالهلكة في الدنيا والآخرة.

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأجمعها لطاعة الرب، ورضى العامة، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يحتمل رضى العامة، وليس أحد من الرعية أشد على الوالي في الرضا مؤونة، وأقل على البلاء معونة، وأشد بغضاً للإنصاف، وأكثر سؤالاً بالإلحاف، وأقل مع ذلك عند العطاء شكراً، وعند الإبطاء عذراً، وعند الملمات من الأمور صبراً، من الخاصة، وإنما اجتماع أمر الولاة ويد السلطان وغيظ العدو العامة. فليكن صفوك لهم ما أطاعوك، واتبعوا أمرك دون غيرهم، وليكن أبغض رعيتك إليك أكثرهم كشفاً لمعايب الناس، فإن في الناس معايب أنت أحق من تغمدها، وكره كشف ما غاب منها، وإنما عليك أحكام ما ظهر لك، والله يحكم في ما غاب عنك، اكره للناس ما تكره لنفسك، واستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره، وأطلق على الناس عقد كل حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر.

ولا تركبن شبهة، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش وإن قال قول النصيح، ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يقصر عن الفضل غايته، ولا حريصاً يعدك فقراً، ويزين لك شرها، ولا جباناً يضيق عليك الأمور، فإن البخل والجبن والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن بالله.

ثم اعلم إن شر دخائلك وشر وزارئك من كان للأشرار دخيلاً ووزيراً ممن شركهم في الأثام، وأقام لهم كل مقام، فلا تدخلن أولئك في أمرك، ولا تشركهم في دولتك كما شركوا في دولة غيرك، ولا يعجبك شاهد ما يحضرونك به، فإنهم إخوان الظلمة وأعوان الأثمة، وذئاب كل طمع، وأنت تجد في الناس خلفاً منهم، ممن له معرفة أفضل

من معرفتهم، ونصح أعلى من نصحهم، ممن قد تصفح الأمور فأبصر مساويها، واهتم بما جرى عليه منها ممن هو أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأشد عليك عطفاً، وأقل لغيرك ألفاً، ممن لم يعاون ظالماً على ظلم، ولا آثماً على إثم، فاتخذ من أولئك خاصة، تجالسهم في خلواتك، ويحضرونك في ملئك.

ثم ليكن أكرمهم عليك أقولهم للحق، وأحوطهم على رعيتك بالإنصاف، وأقلهم لك مناظرة بذكر ما كره لك، وألصق بأهل الورع والصدق، وذوي العقول والإحسان، وليكن أبغض أهلك ووزرائك إليك أكثرهم لك إطراءً بما فعلت، أو تزييناً لك بغير ما فعلت، وأسكتهم عنك صانعاً بما صنعت، فإن كثرة الإطراء يكثر الزهو، ويدني من العزة، وأكثر القول أن يشرك فيه تزكية السلطان، لأنه لا يقصر به على حدود الحق دون التجاوز إلى الإفراط، ولا تجمعن المحسن والمسيء عندك منزلة يكونان فيها سواء، فإن ذلك تزهيد لأهل الإحسان في إحسانهم، وتدريب لأهل الإساءة في إساءتهم.

واعلم أنه ليس شيء أدعى بحسن ظن والٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيف المؤن عنهم، وقلة الاستكراه لهم، فليكن لك في ذلك ما يجمع لك حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن بهم يقطع عنك هموماً كثيرة، وإن أحق من حسن ظنك به من حسن عنده بلاؤك من أهل الخير، وأحق من ساء ظنك به من ساء عنده بلاؤك، فاعرف موضع ذلك، ولا تنقص سنة صالحة عمل بها الصالحون قبلك، واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها العامة، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي سنن العدل التي سنت قبلك، فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها، وأكثر مدارسة العلماء ومناظرة الحكماء في تثبيت سنن العدل على مواضعها، وإقامتها على ما صلح به الناس، فإن

ذلك يحيي الحق ويميت الباطل، ويكتفي به دليلاً على ما يصلح به الناس، لأن السنة الصالحة من أسباب الحق التي يعرف بها، ودليل أهلك إلى السبل إلى طاعة الله فيها(441).

في ذكر معرفة طبقات الناس

اعلم أن الناس خمس طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، فمنهم الجنود، ومنهم أعوان الوالي من القضاة والعمال والكتاب ونحوهم، ومنهم أهل الخراج من أهل الأرض وغيرهم، ومنهم التجار وذوو الصناعات، ومنهم الطبقة السفلى وهم أهل الحاجة والمسكنة، فالجنود تحصين الرعية بإذن الله تعالى عزوجل، وزين الملك، وعز الإسلام، وسبب الأمن والخفض، ولا قوام للجند إلا بما يخرج الله لهم من الخراج والفيء، الذي يقومون به على جهاد عدوهم، وعليه يعتمدون فيما يصلحهم، ومن يلزمهم مؤونته من أهليهم، ولا قوام للجند وأهل الخراج إلا بالقضاة والعمال والكتاب لما يقومون به من أمرهم، ويجمعون من منافعهم، ويأمنون عليه من خواصهم وعوامهم، ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما ينتفعون به من صناعاتهم، ويقومون به من أسواقهم، ويكفونهم في مباشرة الأعمال بأيديهم في الصناعات التي لا يبلغها رفقهم.

والطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة يبتلون بالحاجة إلى جميع الناس وفي الله لكل سعة، ولكل على الأمير حق بقدر ما يحق له، وليس يخرجه من حقه ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله عليه، وأن يوطن نفسه على لزوم الحق فيما وافق هواه أو خالفه(442).

ذكر ما ينبغي للوالي أن ينظر فيه من أمر عماله

ولِّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم، وحسن السياسة، وصالح الأخلاق ممن يبطئ عن الغضب، ويسرع إلى العذر، ويراقب الضعيف ولا يلح على القوي، ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، وألصق بأهل العفة والدين والسوابق الحسنة، ثم بأهل الشجاعة منهم، فإنهم جماع الكرم وشعبة من العز، ودليل على حسن الظن بالله، والإيمان به ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالد من ولده.

ولا يعظمن في نفسك شيء أعطيتهم إياه، ولا تحقرن لهم لطفاً تلطفهم به، فإنه يرفق

بهم كل ما كان منك إليهم وإن قل، ولا تدعن تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على نظرك في جسيمها، فإن للطيف موضعاً ينتفع به، وللجسيم موضعاً لا يستغنى فيه عنه، وليكونوا آثر رعيتك عندك، وأفضلهم منزلة منك، أسبغ عليهم في التعاون، وأفضل عليهم في البذل ما يسعهم، ويسع من ورائهم من أهاليهم، حتى يكون همهم خالصاً في جهاد عدوك، وتنقطع همومهم مما سوى ذلك، وأكثر إعلامهم ذات نفسك من الأثرة والمكرمة، وحسن الإرضاء وحقق ذلك بحسن الآثار فيهم. وأعطف عليك قلوبهم باللطف، فإن أفضل قرة أعين الولاة استفاضة الأمن في البلاد وظهور مودة الأجناد، وإذا كانوا كذلك سلمت صدورهم، وصحت بصائرهم، واشتدت حيطتهم من وراء أمرائهم، ولا تكل جنودك إلى غنائمهم، أحدث لهم عند كل مغنم عطية من عندك، لتستصرفهم بها، وتكون داعية لهم إلى مثلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأخصص أهل الشجاعة والنجدة بكل عارفة، وأمدد لهم أعينهم إلى صور عميقات ما عندهم بالبذل في حسن الثناء، وكثرة المسألة عنهم رجلاً رجلاً، وما أبلى في كل مشهد وإظهار ذلك منك عنه، فإن ذلك يهز الشجاع، ويحرض غيره، ثم لا تدع مع ذلك أن يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة والصدق يحرضونهم عند اللقاء، فيكتبون بلاء كل امرئ منهم حتى كأنك شاهدته.

ثم اعرف لكل امرئ منهم ما كان منه، ولا تجعلن بلاء امرئ منهم لغيره ولا تقصرن به دون بلائه، وكافئ كل أمراء منهم بقدر ما كان منه، واخصصه بكتاب منك تهزه به وتنبئه بما بلغك عنه، ولا يحملنك شرف امرئ على أن تعظم من بلائه إن كان صغيراً، ولا ضعف امرئ على أن تستخف ببلائه إن كان جسيماً، ولا تفسدن أحداً منهم عندك

علة عرضت له، أو نبوة كانت منه قد كان له قبلها حسن بلاء، فإن العز بيد الله يعطيه إذا شاء، ويكفه إذا شاء، ولو كانت الشجاعة تفتعل لافتعلها أكثر الناس، ولكنها طبائع بيد الله ملكها وتقدير ما أحب منها، وإن أصيب أحد من فرسانك وأهل النكاية المعروفة في أعدائك فاخلفه في أهله بأحسن ما يخلف به الوصي الموثوق به في اللطف لهم وحسن الولاية لهم حتى لا يرى عليهم أثر فقده، ولا يجِدوا لمصابه، فإن ذلك يعطف عليك قلوب فرسانك، ويزدادون به تعظيماً لطاعتك، وطيب النفس بالركوب لمعاريض التلف في تسديد أمرك، ولا قوة إلا بالله(443).

ذكر ما ينبغي أن ينظر فيه من أمور القضاة

انظر في القضاء بين الناس، نظر عارف بمنزلة الحكم عند الله، فإن الحكم ميزان قسط الله الذي وضع في الأرض لإنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، وإقامة حدود الله على سنتها، ومنهاجها التي لا يصلح العباد والبلاد إلا عليها، فاختر للقضاء بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، وأجمعهم للعلم والحلم والورع، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تحكمه الخصوم، ولا يضجره عي العي، ولا يفرطه جور الظلوم، ولا تشرف نفسه على الطمع، ولا يدخل في إعجاب، يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم عند الشبهة، وآخذهم لنفسه بالحجة، وأقلهم تبرماً من تردد الحجج، وأصبرهم على كشف الأمور، وإيضاح الخصمين، ولا يزدهيه الإطراء، ولا يشليه(444) الإغراء، ولا يأخذ فيه التبليغ بأن يقال: قال فلان وقال فلان، فول القضاء من كان كذلك.

ثم أكثر تعاهد أمره وقضاياه، وأبسط عليه من البذل ما يستغني به عن الطمع، وتقل به حاجته إلى الناس، واجعل له منك منزلة لا يطمع فيها غيره، حتى يأمن اغتيال الرجال إياه عندك، ولا يحابي أحداً للرجاء، ولا يصانعه

لاستجلاب حسن الثناء، أحسن توقيره في مجلسك، وقربه منك، وأنفذ قضاياه وامضها، واجعل له أعواناً يختارهم لنفسه من أهل العلم والورع، واختر لأطرافك قضاة تجهد فيهم نفسك على قدر ذلك، ثم تفقد أمورهم وقضاياهم وما يعرض لهم من وجوه الأحكام.

فلا يكن في حكمهم اختلاف، فإن ذلك ضياع للعدل وعورة في الدين وسبب للفرقة، وإنما يختلف القضاة لاكتفاء كل امرئ منهم برأيه دون الإمام، فإذا اختلف القاضيان فليس لهما أن يقيما على اختلافهما في الحكم دون رفع ما اختلفا فيه من ذلك إلى الإمام، وكل ما اختلف فيه الناس، فمردود إليه ولا قوة إلا بالله(445).

ذكر ما ينبغي أن ينظر فيه من أمور عماله

انظر في أمور عمالك الذين تستعمل، فليكن استعمالك إياهم اختياراً، ولا يكونن محاباةً ولا إيثاراً، فإن الأثرة بالأعمال والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله، وإدخال الضرر على الناس، وليست تصلح أمور الناس ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم بالسياسة، والصق بذوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة أهل الدين والورع، فإنهم أكرم الناس أخلاقاً، وأشد لأنفسهم صوناً وإصلاحاً، وأقل من المطامع إشرافاً، وأحسن في عواقب الأمور نظراً من غيرهم، فليكونن عمالك وأعوانك.

ولا تستعمل إلا شيعتك، ثم أسبغ عليهم العمالات، وأوسع عليهم الأرزاق، فإن ذلك يزيدهم قوة على استصلاح أنفسهم، وغنى من تناول ما تحت أيديهم، وهو مع ذلك حجة لك عليهم في شيء إن خالفوا فيه أمرك وتناولوا من أمانتك، ثم لا تدع مع ذلك تفقد أعمالهم وبعثة العيون عليهم من أهل الأمانة والصدق، فإن ذلك يزيدهم جداً في العمارة، ورفقاً بالرعية، وكفّاً عن الظلم، وتحفظاً من الأعواز، مع ما للرعية في

ذلك من القوة.

واحذر أن تستعمل أهل التكبر والتجبر والنخوة، ومن يحب الإطراء والثناء والذكر، ويطلب شرف الدنيا، ولا شرف إلا بالتقوى، وإن وجدت أحداً من عمالك بسط يده إلى خيانة أو ركب فجوراً اجتمعت لك به عليه أخبار عيونك من سوء ثناء رعيتك اكتفيت بها شاهداً، وبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم بمن نصبته للناس فوسمته بالخيانة وقلّدته عار التهمة، فإن ذلك تنكيل وعظة لغيره إن شاء الله تعالى(446).

ذكر ما ينبغي تعاهده من أهل الخراج

تعاهد أهل الخراج، وانظر كل ما يصلحهم، فإن في مصالحهم صلاح من سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنهم الثمال دون غيرهم والناس عيال عليهم.

وليكن نظرك في عمارة أرضهم وصلاح معاشهم أشد من نظرك في زجاء خراجهم، فإن الزجاء لا يكون إلا بالعمارة، ومن يطلب الزجاء بغير العمارة يخرب البلاد ويهلك العباد ولا يقيم ذلك إلا قليلاً.

ولكن اجمع أهل الخراج من كل بلد، ثم مرهم فليعلموك حال بلادهم والذي فيه صلاحهم، وصلاح أرضهم وزجاء خراجهم، ثم سل عما يدفعون إليك أهل العلم من غيرهم، فإن شكوا إليك ثقل خراجهم أو علة دخلت عليهم من انقطاع ماء أو فساد أرض علت عليها غرق أو عطش أو آفة مجحفة، خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به ما كان من ذلك، وأمرت بالمعونة على استصلاح ما كان من أمورهم مما لا يقوون عليه، لأن الله جاعل لك في عاقبة الاستصلاح غبطةً وثواباً إن شاء الله، فاكفهم مؤنة ما كان من ذلك، ولا تثقلن شيء خففته عنهم، وإن احتملته من المؤونات فإنما هو ذخر لك عندهم، يقوون به على عمارة بلادك وتزيين ملكك مع ما يحسن الله به من ذكرك، ويستجمهم(447) به لغدك،

ثم تكون مع ذلك بما ترى من عمارة أرضهم، وزجاء خراجهم، وظهور مودتهم، وحسن نياتهم، واستفاضة الخير فيهم، أقر عيناً وأعظم غبطة وأحسن ذخراً منك بما كنت مستخرجاً منهم بالكد والإجحاف، فإن حزنك أمر تحتاج فيه إلى الاعتماد عليهم وجدت معتمداً بفضل قوتهم على ما تريد بما ذخرت فيهم من الجمام، وكانت مودتهم لك وحسن ظنهم وثقتهم بما عودتهم من عدلك ورفقك مع معرفتهم بقدرك فيما حدث من الأمور، قوة لهم يحتملون بها ما كلفتهم، ويطيبون بها نفساً بما حملتهم، فإن العمل يحتمل بإذن الله ما حملت عليه، وعمران البلاد أنفع من عمران الخزائن، لأن مادة عمران الخزائن إنما تكون من عمران البلاد، وإذا خربت البلاد انقطعت مادة الخزائن فخربت بخراب الأرض، وإنما يؤتى خراب الأرض وهلاك أهلها من إسراف أنفس الولاة في الجمع، سوء ظنهم بالمدة، وقلة انتفاعهم بالغير، ليس بهم إلا أن يكونوا يعرفون أنّ التخفيف، واستجمامهم بذلك في العام للعام القابل، والإنفاق على ما ينبغي الإنفاق عليهم منها ما هو أزجى لخراجها، وأحسن لأثرهم فيها، ولكنهم يقولون ويقول القائل لهم لا تؤخروا جباية العام إلى قابل، كأنكم واثقون بالبقاء إلى قابل، ولكفى عجباً برأيهم في ذلك، وبرأي من يزينه لهم، فما الوالي إلا على إحدى منزلتين:

إما أن يبقى إلى قابل فيكون قد أصلح الأرض، واستصلح رعيته فرأى حسناً في عاقبة أثره في ذلك ما تقرّ به عينه، ويكثر به سروره، وتقل به همومه، ويستوجب به حسن الثواب على ربه.

وأما أن تنقطع مدته قبل القابل، فهو إلى ما عمل به من صلاح وإحسان أحوج، والثناء عليه والدعاء له أكثر، والثواب له عند الله أفضل، وإن جمع لغيره في الخزائن ما أخرب به البلاد،

وأهلك به الرعية صار مرتهناً لغيره، والإثم فيه عليه، وليس تبقى من أمور الولاة إلا ذكرهم، وليس يذكرون إلا بسيرهم وآثارهم، حسنة كانت أم قبيحة.

فأما الأموال فلابد من أن يؤتى عليها فيكون نفعها لغيره، أو لنائبة من نوائب الدهر تأتي عليها فتكون حسرة على أهلها، وإن أحببت أن تعرف عواقب الإحسان والإساءة وضياع العقول من ذلك، فانظر في أمور من مضى من صالح العمال والولاة وشرارهم، وهل تجد منهم أحداً ممن حسنت في الناس سيرته، وخفت عليهم مؤونته، إذا سخط بإعطاء حق نفسه أضر به ذلك في شدة ملكه، أو في لذّات بدنه، أو في حسن ذكره في الناس، وهل تجد أحداً ممن ساءت في الناس سيرته واشتدت عليهم مؤونته، كان له بذلك من العز في ملكه، مثل ما دخل عليه من النقص به في دنياه وآخرته، فلا تنظر إلى ما تجمع من الأموال، ولكن انظر إلى ما تجمع من الخيرات، وتعمل من الحسنات، فإن المحسن معان، والله ولي التوفيق، والهادي إلى الصواب(448).

ذكر ما ينبغي أن ينظر فيه من أمور كتابه

انظر كتّابك، فاعرف حال كل امرئ منهم فيم يحتاج إليه منه، فإن للكتّاب منازل، ولكل منزلة فيها حق من الأدب، لا يحتمله غيره، فاجعل لولاية عليا أمورك منهم رؤساء تتخيرهم لها على مبلغ كل امرئ منهم في احتمال ما توليه، وول كتابة خواص رسائلك التي تدخل بها في مكيدتك، ومكنون سرك أجمعهم بوجوه صالح الأدب، وأعونهم لك على كل أمر من جلائل الأمور، وأجزلهم فيها رأياً، وأحسنهم فيها ديناً، وأوثقهم فيها نصحاً، وأطولهم عنك لمكنون الأسرار ممن لا تبطره الكرامة، ولا يزدهيه الألطاف، ولا تتجم به دالة يمنّ بها عليك في خلاء، أو يلتمس إظهارها في ملاء، وإصدار ما ورد عليه من

كتب غيرك عن استعمال معرفة الصواب فيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقدة عقدها لك، ولا يعجز عن إطلاق عقدة عقدت عليك، ولا يجهل في ذلك معرفة نفسه، ومبلغ قدره في الأمور، فإنه من جهل قدر نفسه كان بقدر غيره أجهل، وولى ما دون ذلك من كتابة رسائلك وخراجك ودواوين جنودك كتاباً تجهد نفسك في اختيارهم، فإنها رؤوس أعمالك وأجمعها لنفعك ولنفع رعيتك، فلا يكونن اختيارك ولاتها على فراستك فيهم ولا على حسن الظن منك بهم، فإنه ليس شيء أكثر اختلافاً لفراسة أولي الأمر، ولا خلافاً لحسن ظنونهم من كثير من الرجال، ولكن اخترهم على آثارهم فيما ولوا قبلك، فإن ذلك من صالح ما يستدل به الناس بعضهم على أمور بعض.

واجعل لرأس كل أمر من تلك الأمور رئيساً من أهل الأمانة والرأي، ممن لا يقهره كبير الأمور، ولا يضيع لديه صغيرها، ثم لا تدع مع ذلك أن تتفقد أمورهم وتنظر في أعمالهم، وتتلطف في مسألة من غاب عنك من أحوالهم، حتى تعلم كيف معاملتهم الناس فيما وليتهم؟ فإن في كثير من الكتاب شعبة من العز ونخوة وإعجاباً وتسرعاً كثيراً من التبرم بالناس والضجر عند المنازعة والضيق عند المراجعة، ولابد للناس من طلب حاجاتهم، فمتى جمعوا عليهم الإبطاء بها والغلظة، ألزموك عيب ذلك، وأدخلوا مؤونته عليك، وفي النظر في ذلك من إصلاح أمورك مع ما لك عند الله من الجزاء حظ عظيم إن شاء الله تعالى(449).

ذكر ما ينبغي للوالي أن ينظر فيه من أمر طبقة التجار والصنايع

انظر إلى التجار وأهل الصناعات، واستوص بهم خيراً، فإنهم مادة للناس ينتفعون بصناعاتهم، ومما يجلبون إليهم من منافعهم ومرافقهم في البر والبحر ومن رؤوس الجبال وبلدان مملكة العدو، وحيث لا يعرف أكثر الناس مواضع ما يحتاجون إليه من ذلك،

ولا يطيقون الإيثار به بأنفسهم، فلهم بذلك حق وحرمة يجب حفظهما لهم، فتفقد أمورهم، واكتب إلى عمالك فيهم، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم شحاً قبيحاً وحرصاً شديداً واحتكاراً للتربص والغلاء، والتضييق على الناس والتحكم عليهم، وفي ذلك مضرة عظيمة على الناس، وعيب على الولاة، فامنعهم من ذلك وتقدم إليهم فيه، فمن خالف أمرك فخذ يدك فوق يده بالعقوبة الموجعة، إن شاء أو أبى(450).

ذكر ما ينبغي للوالي أن ينظر فيه من أمور أهل الفقر والمسكنة

ولا تضيعن أمور الطائفة الأخرى من المساكين وذوي الحاجات، وأن تجعل لهم قسماً من مال الله، يقسم فيهم مع الحق المفروض الذي جعل الله لهم في كتابه من الصدقات، وفرق ذلك في أعمالك، فليس أهل موضع أحق به من أهل موضع، بل لأقصاهم من الحق ما لأدناهم وكل قد استرعيت أمره.

فلا يشغلنك عن تعاهد أمورهم النظر في أمر غيرهم، فإن لكل منك نصيباً لا تعذر بتضييعه، وتفقد حاجات مساكين الناس وفقرائهم ممن لا تصل إليك حاجته، وممن تقتحمه العيون، وتحقره الناس عن رفع حاجاته إليك وانصب لهم أوثق من عندك في نفسك نصيحة، وأعظمهم في الخير حسبه، وأشدهم لله تواضعاً، ممن لا يحقر الضعفاء ولا يستشرف العظماء، ومرهم فليرفعوا إليك أمورهم، ثم انظر فيها نظراً حسناً، فإن هزيل الرعية أحوج إلى الإنصاف والتعاهد من ذوي السمانة، وتعاهد أهل الزمانة والبلاء وأهل اليتم والضعف وذوي الستر من أهل الفقر الذين لا ينصبون أنفسهم لمسألة يعتمدون عليها. فاجعل لهم من مال الله نصيباً تريد بذلك وجه الله والقربة إليه، فإن الأعمال إنما تخلص بصدق النيات(451).

ذكر ما ينبغي أن يأخذ الوالي به نفسه في الأدب وحسن السيرة

ولابد وإن اجتهدت في إعطاء كل ذي حق حقه، أن تتطلع أنفس طوائف منهم إلى مشافهتك بالحاجات، وذلك على الولاة ثقل ومؤونة، والحق ثقيل إلا على من خففه الله عليه، ولذلك ثقل ثوابه في الميزان.

فاجعل لذوي الحاجات من نفسك قسماً ووقتاً تأذن لهم فيه، وتتسع لما يرفعونه إليك، وتلين لهم جناحك، وتحتمل خرق ذوي الخرق منهم، وعي أهل العي فيهم بلا أنفة منك ولا ضجر، فمن أعطيت منهم فأعطه هنيئاً، ومن حرمت منهم فامنعه بإجمال وحسن رد، وليس من شيء أضيع لأمور الولاة من التواني واغتنام تأخير يوم إلى يوم وساعة إلى

ساعة، والتشاغل بما لا يلزم عما يلزم، فاجعل لكل شيء تنظر فيه وقتاً لا يقصر به عنه ثم أفرغ فيه مجهودك(452).

جعل بعض الوقت لله تعالى

وامض لكل يوم عمله، وأعط لكل ساعة قسطها، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وإن كانت كلها لله إذا صحت نيتك، ولا تقدم شيئاً على فرائض دينك في ليل ولا في نهار حتى تؤدي ذلك كاملاً موفراً، ولا تطل الاحتجاب، فإن ذلك باب من سوء الظن بك وداعية إلى فساد الأمور عليك، والناس بشر لا يعرفون ما غاب عنهم، وتخيّر حجابك، واقص منهم كل ذي أثرة على الناس وتطاول وقلة إنصاف، ولا تقطع أحداً من حشمك، ولا من أهلك ضيعة، ولا تأذن لهم في اتخاذها إذا كان يضر فيها بمن يليه من الناس، ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك، فإن في الصلح دعة للجنود، ورخاء للمهموم، وأمناً للبلاد، فإن أمكنتك القدرة والفرصة من عدوك فانبذ عهده إليه واستعن بالله، وكن أشد ما تكون لعدوك حذراً عندما يدعوك إلى الصلح، فإن ذلك ربما كان مكراً وخديعة.

وإذا عاهدت فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة والصدق. وإياك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته، فإن الله جعل عهده أماناً أمضاه بين العباد برحمته، والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعته وسوء عاقبته.

وإياك والتسرع إلى سفك الدماء لغير حلها، فإنه ليس شيء أعظم من ذلك تباعة، ولا تطلبن تقوية ملك زائل لا تدري ما حظك من بقائه وبقائك له بهلاك نفسك، والتعرض لسخط ربك.

إياك والإعجاب بنفسك والثقة بها، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه إياك. إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، والتواني فيها قبل أبانها وزمانها وإمكانها، واللجاجة فيها إذا تنكرت،

والوهن إذا تبينت، فإن لكل أمر موضعاً ولكل حالة حالاً(453).

ب: رسالة الإمام الصادق عليه السلام إلى النجاشي

عن عبد الله بن سليمان النوفلي قال: كنت عند جعفر بن محمد الصادق * فإذا بمولى لعبد الله النجاشي قد ورد عليه فسلّم وأوصل إليه كتابه ففضه وقرأه، وإذا أول سطر فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أن قال: إني بليت بولاية الأهواز، فإن رأى سيدي ومولاي أن يحد لي حداً، أو يمثل لي مثالاً لأستدل به على ما يقربني إلى الله عزوجل وإلى رسوله، ويلخص لي في كتابه ما يرى لي العمل به، وفيما أبتذله، وأين أضع زكاتي؟ وفيمن أصرفها؟ وبمن آنس؟ والى من أستريح؟ وبمن أثق وآمن وألجأ إليه في سري؟ فعسى يخلصني الله بهدايتك فإنك حجة الله على خلقه، وأمينه في بلاده، لا زالت نعمته عليك؟.

قال عبد الله بن سليمان: فأجابه أبو عبد الله عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم: حاطك الله بصنعه، ولطف بك بمنه، وكلأك برعايته، فإنه ولي ذلك.

أما بعد، فقد جاءني رسولك بكتابك، فقرأته وفهمت جميع ما ذكرت وسألت عنه، وزعمت أنك بليت بولاية الأهواز، فسرني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني من ذلك، وما سرني إن شاء الله.

فأما سروري بولايتك فقلت: عسى أن يغيث الله بك ملهوفاً خائفاً من آل محمد عليهم السلام، ويعز بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوي بك ضعيفهم، ويطفي بك نار المخالفين عنهم.

وأما الذي ساءني من ذلك، فإن أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بوليٍّ لنا، فلا تشم حظيرة القدس، فإني ملخص لك جميع ما سألت عنه إن أنت عملت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إن شاء الله.

أخبرني يا عبد الله، أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن رسول الله صلي الله

عليه و اله أنه قال: من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبه.

واعلم إني سأشير عليك برأيي إن أنت عملت به تخلصت مما أنت متخوفه.

واعلم أن خلاصك مما بك من حقن الدماء، وكف الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعية والتأني وحسن المعاشرة مع لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ومداراة صاحبك، ومن يرد عليك من رسله وارتق فتق رعيتك بأن توقفهم على ما وافق الحق والعدل إن شاء الله.

وإياك والسعاة وأهل النمايم، فلا يلتزقنّ بك أحد منهم، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك...

إلى أن قال عليه السلام: فأما من تأنس به وتستريح إليه وتلجئ أمورك إليه، فذك الرجل الممتحن المستبصر الأمين، الموافق لك على دينك، وفي أعوانك وجرِّب الفريقين، فإن رأيت هناك رشداً، فشأنك وإياه.

وإياك أن تعطي درهماً، أو تخلع ثوباً، أو تحمل على دابة في غير ذات الله لشاعر أو مضحك، أو ممتزح إلا أعطيت مثله في ذات الله(454).

ولتكن جوائزك وعطاياك، وخلعك للقواد والرسل والأجناد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس، وما أردت أن تصرفه في وجوه البر والنجاح والفطرة والصدقة والحج والمشرب والكسوة التي تصلي فيها وتصل بها والهدية التي تهديها إلى الله عزوجل وإلى رسول الله صلي الله عليه و اله في أطيب كسبك.

يا عبد الله، اجهد أن لا تكنز ذهباً وفضة فتكون من أهل هذه الآية: *وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*(455).

ولا تستصغرن من حلو ولا من فضل طعام تصرفه في بطون خالية تسكن بها غضب الرب تبارك وتعالى.

واعلم: إني سمعت أبي يحدث عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام

أنه سمع عن النبي صلي الله عليه و اله يقول لأصحابه يوماً: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع. فقلنا: هلكنا يا رسول الله؟! فقال: من فضل طعامكم، ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفئون بها غضب الرب.

وسأنبئك بهوان الدنيا وهوان شرفها على من مضى من السلف والتابعين (ثم ذكر حديث زهد أمير المؤمنين في الدنيا وطلاقه لها، إلى أن قال): وقد وجهت إليك بمكارم الدنيا والآخرة عن الصادق المصدق رسول الله صلي الله عليه و اله، فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثم كانت عليك من الذنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار(456)، رجوت الله أن يتجافى عنك عزوجل بقدره.

يا عبد الله، إياك أن تخيف مؤمناً، فإن أبي محمد بن علي حدثني عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه كان يقول: من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله يوم لا ظل إلا ظله وحشره في صورة الذر لحمه وجسده وجميع أعضائه حتى يورده مورده.

وحدثي أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و اله قال: من أغاث لهفاناً من المؤمنين، أغاثه الله يوم لا ظل إلا ظله، وآمنه يوم الفزع الأكبر، وآمنه من سوء المنقلب. ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة إحداها الجنة، ومن كسا أخاه المؤمن من عُري كساه الله من سندس الجنة واستبرقها وحريرها ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسو منه سلك، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيبات الجنة، ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ريّه، ومن أخدم أخاه خدمه الله

من الولدان المخلدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين عليهم السلام، ومن حمل أخاه المؤمن من رُجلة حمله الله على ناقة من نوق الجنة وباهى به الملائكة المقربين يوم القيامة.

ومن زوّج أخاه المؤمن من امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها زوّجه الله من الحور العين وآنسه بمن أحبه من الصديقين من أهل بيت نبيه عليهم السلام وإخوانه وآنسهم به.

ومن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلة الأقدام، ومن زار أخاه إلى منزله لا لحاجة إليه كُتب من زوّار الله، وكان حقيقاً على الله أن يكرم زائره.

يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه سمع رسول الله صلي الله عليه و اله يقول لأصحابه يوماً: معاشر الناس إنه ليس بمؤمن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه فلا تتبعوا عثرات المؤمنين فإنه من تتبّع عثرة مؤمن تتبّع الله عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته.

وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال(457): أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يصدق في مقالته ولا ينتصف من عدوه، وعلى أن لا يشفي غيظه إلا بفضيحة نفسه، لأن كل مؤمن ملجم وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة، وأخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها عليه مؤمن مثله يقول بمقالته ببغيه وبحسده والشيطان يغويه ويضله والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته وكافر بالله الذي هو مؤمن به يرى سفك دمه ديناً، وإباحة حريمه غنماً، فما بقاء المؤمن بعد هذا (458).

يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و اله قال: نزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول: اشتققت للمؤمن

اسماً من أسمائي سميته مؤمناً، فالمؤمن مني وأنا منه، من استهان مؤمناً فقد استقبلني بالمحاربة.

يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و اله قال يوماً: يا علي، لا تناظر رجلاً حتى تنظر في سريرته، فإن كانت سريرته حسنة فإن الله عزوجل لم يكن ليخذل وليَّه، وإن تكن سريرته ردية فقد يكفيه مساويه، فلو جهدت أن تعمل به أكثر مما عمل من معاصي الله عزوجل ما قدرت عليه.

يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و اله أنه قال: أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لا خلاق لهم.

يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال: من قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت أذناه ما يشينه ويهدم مروّته فهو من الذين قال الله عزّوجل: *إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*(459).

يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروته وثلبه أوبقه الله بخطيئته حتى يأتي بمخرج مما قال ولن يأتي بالمخرج منه أبداً. ومن أدخل على أخيه المؤمن سروراً فقد أدخل على أهل البيت عليهم السلام سروراً، ومن أدخل على أهل البيت عليهم السلام سروراً فقد أدخل على رسول الله صلي الله عليه و اله سروراً، ومن أدخل على رسوله صلي الله عليه و اله سروراً فقد سرّ الله، ومن سرّ الله فحقيق على الله عزوجل أن يدخله جنته.

ثم إني أوصيك بتقوى الله وإيثار طاعته والاعتصام بحبله

فإنه من اعتصم بحبل الله فقد هدي إلى صراط مستقيم، فاتق الله ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه، فإنه وصية الله عزوجل إلى خلقه لا يقبل منهم غيرها ولا يعظم سواها.

واعلم، أن الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى، فإنه وصيتنا أهل البيت، فإن استطعت أن لا تنال من الدنيا شيئاً تسأل عنه غداً فافعل.

قال عبد الله بن سليمان: فلما وصل كتاب الصادق عليه السلام إلى النجاشي نظر فيه وقال: صدق والله الذي لا إله إلا هو مولاي فما عمل أحد بما في هذا الكتاب إلا نجا، فلم يزل عبد الله يعمل به أيام حياته(460).

واقعية الحركة والحكومة الإسلامية

يجب أن يعرف، أن الحركة التي يراد إقامتها لأجل إيجاد التيار العالمي الإسلامي الذي يصل إلى حكومة ألف مليون مسلم، بإذن الله تعالى، يجب أن تكون واقعية، ومعنى الواقعية أن لا تهتم بالدنيا، وإنما كل اهتمامها للآخرة وإنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين وتوحيد المسلمين في حركة واحدة، وإذا كانت الحركة هكذا (لا تفكر في نفسها، وفي عنوانها، وذاتها وشخصيتها وسمعتها وما أشبه مما ينافي الموازين الإسلامية) ظهرت على الحركة ملامح الواقعية من عدم الاعتناء بالمأكل والمشرب والملبس والدار والسيارة والأبهة ونحوها، وإنما يكون طابعها العام: الصدق والأمانة والوفاء والمروءة وعدم حب الشهرة، وهكذا ابتدأت حركة الرسول صلي الله عليه و اله حتى انتهت إلى تلك.

الحكومة إما شعبية وإما سلطوية

الحكومة الشعبية غير سلطوية، فإن هناك خطين في الدولة تبتدئ من الحركة أية حركة، وأية دولة: خط شعبي يكون من الناس وإلى الناس ومع الناس، لا بالإعلام والشعار والدعاية، فلا يجلس الحاكم في برج عاجي ويلف حوله جماعة من المرتزقة ويستند إلى السلاح والاستخبارات والإعلام، ثم يدعي أنه شعبي، وإنما يكون الحاكم مع الناس في أحزانهم ومسراتهم، في مأكلهم ومشربهم، بل ربما كان يتمتع بأقل مما يتمتع الناس.

ولذا ورد: أن رسول الله صلي الله عليه و اله كان أحياناً يشد على بطنه حجر المجاعة، وقالت زوجة من زوجاته: كنا نُؤكِل الناس الأحمرين، ونأكل نحن الأسودين (والمراد بالأحمرين اللحم والحنطة، وبالأسودين الماء والتمر). وورد في وصف علي (عليه الصلاة والسلام): (يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب)(461). وقد تقدم أنه عليه السلام قال: (ولعل هناك باليمامة أو بالحجاز من لا عهد له بالشبع، ولا طمع له في القرص)(462).

فإذا كانت الحركة هكذا، حركة شعبية تمشي مع الناس، وتجلس مع الناس

وتقضي حوائج الناس وتشترك مع الناس في أحزانهم ومسراتهم، وتتلقى ما يتلقاه الناس من الصعوبات، وكل فرد منها يلبس كما يلبسون، ويأكل كما يأكلون، ويتزوج كما يتزوجون، ويسكن كما يسكنون، لا يتفضل عليهم، ولا يستغلهم للتصفيق له، ورفع الشعارات في نفعه ولا يستثمرهم لأجله.

فإن هذه تكون حركة شعبية يرجى أن تصل إلى حكومة ألف مليون، فقد قال علي (عليه الصلاة والسلام) كما في نهج البلاغة: (فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر)(463).

إن الإنسان الذي يطالع جملة من الحركات الإسلامية يجد أنها لم تبتدئ هكذا، ولهذا لم تنته إلى شيء، فإن الأساس المعوج لا ينتهي إلى البناء السليم المستقيم.

الحركة واقعية شعبية

فإذا اتسمت الحركة بالواقعية والشعبية، لابد وأن تنتهي إلى حكومة واقعية شعبية، فإن هناك الحكومة الشعبية، وهناك الحكومة السلطوية، وهما مزاجان متناقضان إلى أبعد الحدود.

ولا بأس هنا إلى إلفات النظر، وهو أن قسماً من غير المتعمقين يقولون: لماذا علي عليه السلام لم يهادن أعداءه؟ ولم يقبل ببقاء معاوية والياً كما كان منصوباً من قبل، مما سبب أن يجر على نفسه (عليه الصلاة والسلام) مشاكل جمة عانى منها إلى آخر حياته؟

والجواب واضح، فإن علياً (عليه الصلاة والسلام) لم يرد أن تكون حكومته سلطوية، وإنما أراد أن تكون حكومة شعبية، فإن الحكومة السلطوية لا تكون أسوة، ولا تتمكن من إنقاذ المستضعفين، لا في زمانه ولا بعد زمانه، ولا يسيطر على القلوب، لا في زمانه ولا بعد زمانه، ولا يمدحه التاريخ.

فهل يتوقع أحد أن يكون عليّ عليه السلام كمعاوية، ممن كانت القلوب ضده في زمانه ولعنه المسلمون وغير المسلمين بعده وإلى اليوم، بل وإلى يوم الانقضاء حسب القوانين الاجتماعية؟ والمصانعة والمداهنة والكذب والدجل والخداع وصرف الأموال للنفس

وللجماعة الملتفين حوله، وتقديم المحسوبية والمنسوبية على الكفاءة الواقعية، كل ذلك تنصب في التيار السلطوي.

وفي قبال كل ذلك، الحاكم الشعبي الواقعي، فمع قطع النظر عن الآخرة وما أعدّه الله سبحانه وتعالى للمتقين، إن العقل يقضي أن يكون الحاكم شعبياً مهما جرت عليه من الويلات والمآسي، لا أن يكون الحاكم سلطوياً، مهما سبب ذلك راحته ولذته.

أثر التيار الشعبي

أثر التيار الشعبي

وكيف كان، فإذا مشت الحركة التي تتبنّى حكومة ألف مليون مسلم في الواقعية الشعبية غير السلطوية سببت أن لا يكون استضعاف في داخل الحركة، فلا طبقة عالية وطبقة سافلة ولا امتيازات وما أشبه، وبذلك يلتف الناس حولها وتتوسع رقعتها، فإذا انتهت إلى الحكم لابد وأن تتمكن أيضاً الحكومة المبنية على ذلك من إخراج المستضعفين من ضعفهم (لا في البلاد الإسلامية ومن تحت حكوماتها فحسب، بل وحتى في سائر البلاد وسائر الحكومات).

الاستكبار والاستضعاف

فإن الاستضعاف والاستكبار، قد صارا طابع العصر، وحتى تجد في أمريكا وهي زعيمة الرأسمالية العالمية ما يقارب من خمسة وعشرين مليوناً من الجائعين، حسب تقرير نفس الأمريكيين، أما في أفريقيا وغيرها، فالفقر والمرض والجهل والاستضعاف قد بلغ حداً كبيراً. وقد رأيت في تقرير: أن أكثر من ألف مليون إنسان يعانون من الجوع، كما رأيت في تقرير آخر: أن خمسين مليوناً من الأطفال يموتون كل عام جوعاً ولسوء التغذية وعدم توفر الدواء والعناية الصحية وتلوث البيئة وغير ذلك.

فإذا رفعت الحركة والحكومة المترقبة شعار اللااستضعاف، وعملت هي بذلك، لابد وأن يطفح الخير منها إلى سائر جوانب الحياة، فقد قرر في علم الاجتماع: أن الخير والشر مثلهما مثل الماء في أواني متعددة متصلة بعضها ببعض، حيث إن الماء لابد وأن تتساوى سطوحه في كل الأواني.

وهكذا يكون حال الحركات المستكبرة والحكومات المستكبرة، فإنها لابد وأن تعطي الاستكبار، كما أن الحركات والحكومات الواقعية الشعبية، لابد وأن تعطي الواقعية والاعتدال (فالناس على دين ملوكها) كما في الحديث، وفي حديث آخر: (كيف ما تكونوا يولّى عليكم) فإن هذين الأمرين وجهان لعملة واحدة، فإذا صلحت الحركة صلحت الحكومة المبنية عليها، وبصلاحها يرتفع الاستضعاف عن بلاد الحركة، وبارتفاع الاستضعاف عن بلاد الحركة يرتفع

الاستضعاف عن سائر البلاد أيضاً تدريجياً بإذن الله تعالى، كما نشاهد ذلك ملموساً في حكومة رسول الله وحكومة علي (عليهما الصلاة والسلام) وقد تقدم الإلماع إلى بعض جوانب هاتين الحكومتين المباركتين.

الحكومة الشعبية تطلق حريات الناس

وإذا كانت الحركة، ومن بعدها الحكومة، شعبية واقعية غير سلطوية، لابد وأن تتاح للناس الحريات، والحرية تسبب أن لا تكون حدود جغرافية، ولا إقليمية، ولا لغوية، ولا عنصرية بين كافة المسلمين، وتسود بينهم الأخوة الإسلامية.

لأنه لا تفاضل، ولا استضعاف، ولا استثمار، وحينذاك لا تحتاج الحكومة إلى ضرائب باهظة وجمارك مرهقة، لأن الحكومات غير الشعبية والسلطوية هي الحكومات التي تضع الضرائب مما تسبب الضغط على الناس، وكثرة البطالة بين الناس، بينما الحركات والحكومات الواقعية الشعبية غير السلطوية بالعكس من ذلك تماماً *إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ*(464).

وهكذا تنتهي الحكومات السلطوية إلى ذبح الأبناء، واستحياء النساء، بل وأحياناً إلى ذبح النساء أيضاً كما نشاهد ذلك في الحكومات المعاصرة السلطوية القومية والشيوعية والبعثية وما أشبه.

من سمات القوى السلطوية

ومن الواضح أن من طبيعة القوى السلطوية، سواء كانت في حركة أو حكومة أنها هي التي تحدد كل شؤون الناس حتى علم العلماء، ولذا نجد أن السياسيين في الغرب والشرق هم الذين يحددون النموذج العلمي لأسباب سلطوية محضة، مثل ضرورات الردع وشن الحروب وصنع الأسلحة وكسب المزيد من المنافع، وحتى أن صعودهم إلى سطح القمر ليس إلا لأجل ذلك، بينما تجد البلاد الشيوعية جائعة إلى شحمة آذانها ومحتاجة إلى لقمة الخبز، والبلاد الأمريكية تتفشى فيها البطالة والفقر، وكذلك البلاد الأوروبية في حين أنها تصرف مليارات الدولارات للصعود على سطح القمر بقصد المباهاة وملء مشاعر الكبرياء والغرور والوطنية المزيفة والقومية الضيقة، من دون أن يفكر حتى علماء الجانبين في إعطاء حاجات أكثر من ألف مليون جائع، إلا أحياناً بالشعارات والمؤتمرات المكذوبة، وذرف دموع التماسيح.

إن السلطة الاستعلائية والشعبية الواقعية صفتان متناقضتان متعارضتان بينهما بون بعيد،

ولا يمكن لإحداهما أن تؤدي إلى الأخرى، ولا يمكن للصفات والعمليات الواقعية أن تؤدي إلى السلطوية وكذلك العكس.

السلطوية توجب الاختلاف والتجزئة

السلطوية توجب الاختلاف والتجزئة

ومن الواضح أن الحالة السلطوية تقتضي الاختلاف فيما بينها أيضاً، وهذا هو السبب في نشوب الحروب لأجل السيطرة والسيادة، كما شاهدناها بين النمسا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، والغرب والشرق في الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والتي نشاهدها دائماً من الحروب الباردة والحارة، سواء بين الدول الكبار أو الدول الصغار بزعامة الكبار أو تأييدها.

فإن العمل السلطوي لا ينتهي باستضعاف الضعفاء فقط، وإنما يرجع إلى نفسه بالفسخ والتمزق والحروب والثورات. ولذا نشاهد أن الغرب والشرق غير مستعدين للتوحيد، في أي جانب من جوانب الحياة، لا تحت لواء الإسلام فقط، بل تحت أي لواء، لأن من طبيعة السلطوية التمزيق والتفريق والاستغلال وضرب بعض الناس ببعض، وذلك يقتضي ضرب الاتجاهات الوحدوية أيّاً كان مصدرها، وهذا هو سبب ما نشاهد من الفرق بين فرعون وبين محمد صلي الله عليه و اله، حيث إن الأول *وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً*(465) بينما الثاني صلي الله عليه و اله يقول: *إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً*(466) ويقول تلميذه علي (عليه الصلاة والسلام): (الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) (467).

القوى العظمى ضد التوحيد والوحدة

وفي التاريخ المعاصر نشاهد أن الغرب والشرق معارضان لأية توحيد، ومساندان لأي تجزئة، وحتى لو أرادت الوثنية توحيد القارة الإفريقية، أو أرادت توحيد القبائل، يرى الشرق والغرب وجوب القضاء على تلك الوحدة، بل وحتى لو كانت أنظمة الزراعة والأخوة والمواساة والحرية توجب الوحدة، لكان الغرب والشرق أول مقاوم لتلك الأنظمة.

ولذا نجد أن المستعمرين الأمريكيين والأوروبيين والروس والصينيين أجهزوا على كل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والدينية وغيرها، التي وجدوها في البلاد التي احتلوها سواء في آسيا أو إفريقيا أو أمريكا أو غيرها. وليس إيجاد المستعمرين الحركة القاديانية في الهند، والبهائية

في إيران، والوهابية في الحجاز، إلا من هذا المنطلق. وهكذا جعل المستعمرون الحدود السياسية والجغرافية الطبقية داخل الوطن الإسلامي، فإنها لم تكن فيها حدود تفصل بين بلد وبلد، ولا بين جماعة وجماعة، ولم يكن الناس درجة أولى، ودرجة ثانية، ودرجة ثالثة، وألف وباء وجيم، إلى غير ذلك، قبل دخول المستعمرين بلاد الإسلام.

كما لم تجد قبل دخول المستعمرين بلاد الإسلام الزعامات داخل كل هذه الكيانات الصغيرة، وذلك لتكريس التجزئة، حتى نجد أن الشعب الواحد لغته وثقافته وروابطه كالعرب أو الفرس على سبيل المثال تتعرض للتجزئة وإنشاء كيانات قومية ودولية معارضة بعضها لبعض، فهذه مصر، وهذه سوريا، وهذه الأردن، وهذه الكويت، وهذا العراق، وفي جانب آخر هذه إيران، وهذه أفغانستان وهكذا، مع العلم أن الدول الأولى كلها لسانها واحد ودينها واحد ومصالحها مشتركة ومتشابكة، وكذلك بالنسبة إلى إيران وأفغانستان.

قوة قوانين الإسلام في أعماق المسلمين

لكن من حسن الحظ الذي يشجعنا على تكوين حركة إسلامية عالمية تنتهي إلى حكومة ألف مليون مسلم وتنتهي بدورها إلى إلغاء الاستضعاف عن الجامعة البشرية، إن المسلمين يعرفون كل قوانين الإسلام الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، ولذا نراهم لا يرضخون إلا تحت الحراب وبقوة السلاح للقوانين المستوردة حتى إذا كان مطبقو تلك القوانين مدعين للإسلام، فإن المسلمين كافة إلا من شذ وندر من المستغربين منهم يقاومون القوانين الكافرة حتى أصبحت الحكومات التابعة للغرب والشرق اسماً أو واقعاً حقيرة في نظر المسلمين جداً، ولم تفلح تلك الحكومات في انتزاع اعتراف الجماهير المسلمة في بلادها بشرعية تلك الحكومات السياسية، ولا بشرعية قوانينها واقتصادها وضرائبها وما أشبه.

ولذا نرى الحرب التي لا هوادة فيها منذ مائة سنة بين المستعمرين وعملائهم في الدول الإسلامية وبين الشعب الإسلامي ذي ألف مليون، وذلك من

أقوى الأدلة على أن هذه الحكومات التي هي حكومات قليلة في الأفراد ليست قادرة على إنشاء علاقة وطيدة مع المسلمين، وحتى نرى مثلاً السعودية وهي حكومة تابعة للغرب كما هو واضح على دعاياتها وضخامة إعلامها لم تتمكن من جذب المسلمين حتى في الحجاز، فإن الحجازيين أيضاً يكرهون السعوديين كرهاً كبيراً، وإنما السلطة لها أفراد قلائل يدعمونها بالمال والسلاح والاستخبارات، وقد أخفقت هذه الحكومة في إنشاء علاقات بينها وبين الأمة الإسلامية.

المسلمون ملتفون حول الإسلام وحملته

إن من طبيعة المسلمين في كل بلاد الإسلام، أن يلتفوا حول العلماء المعارضين للسلطة، وإن كانت السلطة تتشدق بالإسلام وتظهر نفسها أنها حكومة مسلمة، وذلك يدل على أن المسلمين كافة يعرفون الإسلام معرفة جيدة، فإنهم كما يعرفون الصلاة والصيام والحج والخمس والزكاة والمسجد والحسينية، كذلك يعرفون الاقتصاد الإسلامي، والسياسة الإسلامية، والاجتماع الإسلامي.

ولذا نجدهم يهربون من قوانين الدول ويخرقونها بكل صراحة، فبينما تجد أن التاجر الفلاني يأتي إلى العالِم ويقدم له مائة ألف دينار، تجد نفس هذا التاجر غير مستعد لأن يعطي ديناراً واحداً للدولة إلا تحت ظل الحراب والضغط والإرهاب، كما تجد المسلمين يسافرون من بلد إلى بلد من البلاد الإسلامية ويضربون قوانين الحواجز والحدود عرض الحائط مهما وجدوا إلى ذلك السبيل، غير آبهين بقوانين الدولة المانعة عن ذلك، كما تجدهم يأخذون المباحات، ويستولون على الأراضي لاحتياجاتهم مهما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ببناء دورهم ومعاملهم وما أشبه متخذين من قانون: (الأرض لله ولمن عمرها) وقانون: (من سبق إلى ما لم يسبق مسلم فهو أحق به) قانونهم الذي يعملون على طبقه.

وكذلك تراهم يحفظون الأخوة الإسلامية، فيزوج عربهم لعجمهم، وعجمهم لهنديهم، وهنديهم لتركيهم، غير آبهين بالقوانين التي تضعها الحكومات المعرقلة لهذه الأخوة، حتى وإن كانت

تلك الحكومات تدعي الإسلام في إذاعتها وتلفزيونها وما أشبه، إلى غيرها من حالات المسلمين الشاهدة لذلك.

الشهادتان مفتاح كل خير

ومن خصائص الإسلام أن معرفة بدائية بجزئه الأهم يعطي للمسلم الوعي الكافي بإدراك سائر أجزائه، إن قول المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) واعتقاده أن القرآن والسنة والعترة والعلماء هم المحور، يعطي للمسلمين وعياً كافياً، لا في جانب العبادات والمعاملات فحسب، بل في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعسكرية وغيرها، إنه لا شك أن أفراداً من المسلمين قد يكونون جهلاء، ولكن لا يمكن إقناع الأمة الإسلامية بأكثريتها الكاسحة بأن تقبل ما تقدمه هذه الحكومات التابعة للغرب والشرق سواء كانت تابعة لها في ظاهرها وباطنها، أو في باطنها بسنّ القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، وهذا هو الذي نراه سبباً لفشل جهود الغرب والشرق في سلخ المسلمين عن الإسلام، مهما صبوا من الجهود في هذا الشأن منذ قرنين، أو أربعة قرون من الزمان.

وعلى أي حال، فاعتمادنا نحن على هذه النفسية الإسلامية الرفيعة في كل المسلمين، هو الذي يشجعنا على المضي في تشكيل حركة إسلامية عالمية، لإيجاد تيار عام في كافة بلاد الإسلام لأجل النهوض بالمسلمين إلى حكومة إسلامية ذات ألف مليون مسلم.. نسأل الله ذلك.

إن هذه الوصايا والتعليمات المستلهمة من الكتاب والسنة هي المنهاج القويم والصراط السوي الذي يكفل بإقامة الدولة الإسلامية المرتقبة على أسس العدل والسلام والشورى وتضمن النهضة الإسلامية العالمية.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً والعاقبة للمتقين.

قم المقدسة

محرم / 1403ه

محمد

بن المهدي الحسيني الشيرازي

الهوامش

(1) لا يخفى أن نفوس المسلمين في العالم اليوم بلغ ملياري مسلم، انظر كتاب (المتخلفون مليارا مسلم). الناشر

(2) لم تكن الكويت في ذلك اليوم كما هي عليه الآن، بل كانت صحاري تسكنها القبائل، وقد ذكر قسم من المؤرخين أن معركة ذات السلاسل وقعت في صحاري الكويت.

(3) سورة الأنبياء: 92.

(4) تقدم أن نفوس المسلمين بلغت المليارين.

(5) سورة طه: 124- 126.

(6) سورة الحشر: 2.

(7) بحار الأنوار: ج32، ص91، ب1، وروي ذلك عن رسول الله صلي الله عليه و اله أيضاً، انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج13 ص150.

(8) سورة الحجرات: 13.

(9) إضافة إلى برامج ثقافية أخرى كالأفلام وغيرها.

(10) بحار الأنوار: ج1 ص177 ح54.

(11) الكافي: ج1 ص31 ح8.

(12) الكافي: ج1 ص27 ح29.

(13) نهج البلاغة: الوصية47.

(14) سورة النحل: 120.

(15) سورة الأنبياء: 51.

(16) انظر كمال الدين: ج1 ص5.

(17) سورة الشورى: 38.

(18) وسائل الشيعة: ج6 ص124 باب4 من أبواب زكاة الغلات ح1.

(19) مستدرك الوسائل: ج7 ص448.

(20) وسائل الشيعة: ج11 ص120.

(21) هذا واقع مثالي نأمل أن يتحقق بعد تطبيق الأحكام الإسلامية الأولية وهو بحاجة إلى زمن طويل. وليس المقصود أن تكون الدولة الإسلامية بلا مؤسسات عسكرية وشرطة بعد قيامها. وللتفصيل يراجع كتاب (إلى حكم الإسلام) لسماحة المؤلف * (الناشر).

(22) سورة العلق: 6-7.

(23) نهج البلاغة: قصار الحكم 160.

(24) سورة المجادلة: 11.

(25) سورة الزمر: 9.

(26) نهج البلاغة: قصار الحكم 81.

(27) بحار الأنوار: ج1 ص177 ح54.

(28) بحار الأنوار: ج18 ص380.

(29) سورة القصص: 4.

(30) سورة مريم: 59.

(31) سورة الإسراء: 20.

(32) سورة الملك: 2.

(33) الكافي: ج1 ص27 ح29.

(34) الكافي: ج2 ص170 ح5.

(35) سورة المائدة: 44.

(36) سورة المائدة: 47.

(37) سورة المائدة: 45.

(38) سورة النساء: 65.

(39) سورة الحديد: 16.

(40) سورة آل عمران: 28.

(41) الكافي:

ج2 ص219 ح12.

(42) الكافي: ج8 ص264 ح381.

(43) علل الشرايع: ص578 ح2.

(44) عيون الأخبار: ج1 ص194 باب25 ح1.

(45) عيون الأخبار: ج1 ص195 باب25 ح1.

(46) وسائل الشيعة: ج11 ص39 باب13 من أبواب جهاد العدو ح12 نقلاً عن السرائر.

(47) ثم إن جملة من الروايات الناهية سندها غير صحيح، مثلاً في سند بعضها (الخليلي) و(الجيلاني) و(ابن نصر) وأمثالهم من الكذابين والغلاة وفاسدي المذهب كما في الرجال .

(48) نهج البلاغة، الكتب 47.

(49) سورة الحجر: 19.

(50) سورة الأنفال: 60.

(51) أي حين تأليف الكتاب، أما اليوم فقد بلغت نفوسهم المليارين.

(52) سورة محمد: 7.

(53) راجع كتاب (كيف انتشر الإسلام؟).

(54) سورة التوبة: 58.

(55) سورة الأعراف: 157.

(56) سورة القصص: 4.

(57) سورة الأنفال: 46.

(58) سورة آل عمران: 103.

(59) سورة الأنبياء: 92.

(60) مفاتيح الجنان: دعاء الندبة.

(61) سورة فصلت: 34 35.

(62) أمالي الطوسي: ص269.

(63) نهج البلاغة، قصار الحكم: 161.

(64) سورة البقرة: 233.

(65) بحار الأنوار: ج2 ص111 ح25.

(66) بحار الأنوار: ج100 ص220 ح24.

(67) سورة المائدة: 51.

(68) نهج البلاغة، قصار الحكم: 147.

(69) سورة التوبة: 118.

(70) الكافي: ج1 ص23 ح15.

(71) نهج البلاغة، الخطب: 138.

(72) سورة الصف: 2.

(73) نهج البلاغة، الخطب: 129.

(74) انظر من لا يحضره الفقيه: ج3 ص66 باب38 ح1.

(75) وسائل الشيعة: ج14 ص12 باب4 من أبواب مقدمات النكاح، ح5.

(76) بحار الأنوار: ج14 ص319 ح21.

(77) العراق جمع عرق: الأمعاء؛ المجذوم: المصاب بمرض الجذام، وهو تناثر اللحم من أطراف الجسم.

(78) نهج البلاغة، قصار الحكم: 236.

(79) سورة البقرة: 237.

(80) سورة الأعراف: 199.

(81) بحار الأنوار: ج37، ص48.

(82) سورة آل عمران: 139.

(83) سورة الأنفال: 60.

(84) سورة طه: 124 126.

(85) سورة المائدة: 82.

(86) سورة المائدة: 51.

(87) سورة آل عمران: 103.

(88) عيون الأخبار: ج2 ص134 باب37 ح4.

(89) سورة الأنعام: 65.

(90) وسائل الشيعة: ج1 ص56

باب16 من أبواب مقدمة العبادات ح12.

(91) وسائل الشيعة: ج11 ص83..

(92) نهج البلاغة، الخطب: 56.

(93) سورة التوبة: 119.

(94) سورة الأحزاب: 33.

(95) سورة البقرة: 125.

(96) نهج البلاغة، الخطب: 56.

(97) أي إذا كان مستشاراً للخليفة فهو شريك معه في الظلم.

(98) بحار الأنوار: ج39 ص55، كشف الغمة: ج2 ص537، المناقب: ج3 ص247.

(99) الغدير: ج7، ص359.

(100) بحار الأنوار: ج45 ص46.

(101) سورة آل عمران: 200.

(102) نهج البلاغة، الخطب: 129 ومن خطبة له عليه السلام في ذكر المكاييل والموازين.

(103) سورة الكهف: 89.

(104) وسائل الشيعة: ج17 ص376 باب1 من أبواب موانع الإرث ح11.

(105) سورة الأنفال: 60.

(106) سورة المنافقون: 8.

(107) سورة التوبة: 122.

(108) سورة الإسراء: 20.

(109) بحار الأنوار: ج68 ص323 ح6.

(110) سورة الأحزاب: 62.

(111) سورة فاطر: 43.

(112) بحار الأنوار: ج6، ص135.

(113) سورة التوبة: 38.

(114) مكارم الأخلاق: ص198.

(115) الكافي: ج 5 ص 377 باب ما تزوج عليه أمير المؤمنين فاطمة *.

(116) بحار الأنوار: ج18، ص119.

(117) راجع الكافي: ج6، ص271 وفيه: (إني عبد، وأيّ عبد أعبد منّي).

(118) وسائل الشيعة: ج11 ص316 باب63 من أبواب جهاد النفس ح4.

(119) سورة القصص: 77.

(120) بحار الأنوار: ج14 ص319 ح21.

(121) وفي الحديث: (الدنيا ملعونة وملعون من فيها وملعون من طلبها وأحبها ونصب لها). راجع مستدرك الوسائل: ج12، ص38.

(122) سورة النحل: 96.

(123) سورة المائدة: 32.

(124) قال عليه السلام: *من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته، من تتبع الله عورته فضحه، ولو في جوف بيته*. بحار الأنوار: ج68، ص214.

(125) سورة الكهف: 46.

(126) سورة النحل: 96.

(127) سورة العنكبوت: 69.

(128) راجع مجموعة ورام: ج2 ص118 وفيه: * عن رسول الله صلي الله عليه و اله: العلماء كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر*.

(129) سورة الصافات: 24.

(130) سورة آل عمران: 144.

(131)

نهج البلاغة: قصار الحكم 26.

(132) سورة البينة: 5.

(133) بحار الأنوار: ج44 ص329 ح2.

(134) بحار الأنوار: ج30، ص402.

(135) سورة الانشقاق: 6.

(136) غرر الحكم ودرر الكلم المفهرس: ص177 ح17.

(137) بحار الأنوار: ج41 ص55 ح5.

(138) راجع الكافي: ج2 ص670 ح5.

(139) سورة النساء: 123.

(140) سورة المطففين: 26.

(141) بحار الأنوار: ج21ص104.

(142) بحار الأنوار: ج16 ص210، والبحار: ج68 ص382.

(143) الكافي: ج1 ص267 ح6.

(144) راجع مستدرك الوسائل: ج17 ص359 ب11 ح21581.

(145) وسائل الشيعة: ج8 ص541 باب121 من أبواب أحكام العشرة ح8.

(146) انظر وسائل الشيعة: ج11 ص502.

(147) سورة الإسراء: 32.

(148) وسائل الشيعة: ج8 ص423.

(149) نهج البلاغة، شرح محمد عبده: ج4، ص81.

(150) سورة آل عمران: 160.

(151) بحار الأنوار: ج16 ص233 ح34.

(152) تفسير القمي: ج2، ص401.

(153) بحار الأنوار: ج16، 240.

(154) سفينة البحار: ج2 ص170.

(155) وسائل الشيعة: ج2 ص883 باب 60 من أبواب الدفن ح1.

(156) وسائل الشيعة: ج2 ص883 باب 60 من أبواب الدفن ح2.

(157) علل الشرائع: ص310 ح4.

(158) سورة النجم: 40.

(159) سورة النجم: 39.

(160) سورة الطور: 16.

(161) سورة الرعد: 8.

(162) وسائل الشيعة: ج11 ص49.

(163) نهج البلاغة: الكتاب 45.

(164) بحار الأنوار: ج28 ص97.

(165) سورة الأنفال: 46.

(166) سورة مريم: 54.

(167) سورة مريم: 54.

(168) سورة البقرة: 208.

(169) سورة البقرة: 194.

(170) سورة البقرة: 237.

(171) بحار الأنوار: ج21 ص104.

(172) بحار الأنوار: ج14 ص279.

(173) سورة الممتحنة: 12.

(174) وسائل الشيعة: ج11 ص120.

(175) سورة النساء: 58.

(176) مجمع البيان: ح2 ص136 من تفسير سورة النساء.

(177) بحار الأنوار: ج21 ص105.

(178) غرر الحكم ودرر الكلم المفهرس: ص262 ح30.

(179) مكارم الأخلاق: ص435.

(180) أنظر وسائل الشيعة: ج2 ص511 باب106 من أبواب أحكام العشرة.

(181) الكافي: ج5 ص144 ح14.

(182) بحار الأنوار: ج21 ص164.

(183) سورة فصلت: 34 35.

(184) بحار الأنوار: ج2 ص55 ح3.

(185) سفينة البحار: ج1 ص412 عفوه عن جماعة.

(186)

نهج البلاغة، شرح محمد عبده: ج2 ص185.

(187) سورة الأنعام: 108.

(188) سورة فصلت: 34 35.

(189) نهج البلاغة: قصار الحكم 176.

(190) بحار الأنوار: ج37، ص145.

(191) وسائل الشيعة: ج11 ص58 باب25 من أبواب جهاد العدو ح6.

(192) مستدرك الوسائل: ج11 ص52.

(193) سورة البقرة: 208.

(194) سورة النساء: 64.

(195) سورة الحشر: 7.

(196) سورة النساء: 65.

(197) سورة البقرة: 91.

(198) سورة المائدة: 13.

(199) سفينة البحار: ج2 ص657.

(200) انظر وسائل الشيعة: ج8 ص540 باب121 من أبواب أحكام العشرة.

(201) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(202) سورة الأعراف: 65.

(203) سورة النحل: 69، سورة العنكبوت: 20، سورة الروم: 42.

(204) سورة الملك: 15.

(205) سورة آل عمران: 159.

(206) سورة الحجرات: 12.

(207) أمالي الصدوق: ص250 ح8.

(208) الكافي: ج8 ص147.

(209) نهج البلاغة: قصار الحكم420.

(210) سورة الزمر: 65.

(211) نهج البلاغة: الكتاب47.

(212) سورة الإسراء: 7.

(213) بحار الأنوار: ج 14 ص 287 ح 10.

(214) سورة البقرة: 237.

(215) مفاتيح الجنان، أعمال شهر رجب.

(216) سورة الإسراء: 20.

(217) بحار الأنوار: ج39 ص86.

(218) سورة الأعراف: 85.

(219) سورة آل عمران: 133.

(220) سورة البقرة: 148.

(221) سورة المائدة: 48.

(222) بحار الأنوار: ج68 ص277 ح11.

(223) بحار الأنوار:ج75 ص312 ح1.

(224) سورة البقرة: 194.

(225) رجال الكشي: ص30 ح57.

(226) الغدير: ج11ص91.

(227) سورة الحشر: 23.

(228) بحار الأنوار: ج11 ص298 ب3، المناقب: ج1 ص192.

(229) انظر كشف اليقين: ص183، وروضة الواعظين: ج1 ص109.

(230) سورة الجمعة: 2.

(231) بحار الأنوار: ج67ص191ح2.

(232) سورة النحل: 120.

(233) وسائل الشيعة: ج8 ص490 باب88 من أبواب أحكام العشرة ح1.

(234) نهج البلاغة: الكتاب 45.

(235) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(236) انظر موسوعة (الفقه): ج47 و48 كتاب الجهاد.

(237) سورة الإنسان: 1.

(238) سورة الإنسان: 8 - 10.

(239) انظر وسائل الشيعة: ج3 ص374 باب28 من أبواب أحكام الملابس ح1.

(240) انظر بحار الأنوار: ج2 ص99 ح56-57-58.

(241) مكارم الأخلاق: ص198.

(242) ليس مقصود سماحة المؤلف

أن نعيد عجلات الحياة إلى الوراء ونركب الدواب تاركين كل وسائط النقل الحديثة بل يريد القول: إن السيارة والطائرة يجب أن تصنع في بلادنا.. وإن لم نستطع من ذلك حالياً فنكتفي بالقدر الموجود لدينا ونبدأ بالتصنيع لكي نركب مستقبلاً وسائط النقل التي تصنع في بلادنا. (الناشر)

(243) سورة الأعراف: 157.

(244) سورة المائدة: 2.

(245) سورة المائدة: 12.

(246) مستدرك الوسائل: ج2، ص474، ط مؤسسة آل البيت * لإحياء التراث.

(247) بحار الأنوار: ج37 ص221.

(248) إشارة إلى قوله تعالى: (عفا الله عما سلف)، سورة المائدة: 95.

(249) نهج البلاغة: الحكم القصار 176.

(250) سورة المائدة: 95.

(251) غرر الحكم: ص73 ح53.

(252) سورة المائدة: 95.

(253) إلا ما علم استثناؤه ونسخه.

(254) غوالي اللآلي: ج2 ص54 ح145.

(255) سورة التوبة: 73.

(256) سورة التوبة: 84.

(257) بحار الأنوار: ج2، ص44، مؤسسة الوفاء بيروت.

(258) من لا يحضره الفقيه: ج4 ص302 ح95.

(259) سورة البقرة: 256.

(260) سورة التوبة: 6.

(261) سورة النحل: 125.

(262) بحار الأنوار: ج21 ص140 ح3.

(263) بحار الأنوار: ج97، ص423.

(264) بعض هذه الاحتجاجات مذكورة في بحار الأنوار قسم الاحتجاجات، والبعض الآخر مذكور في كتاب (الاحتجاج) للطبرسي.

(265) سورة النساء: 54.

(266) الكافي: ج ص242 ح1.

(267) سورة النحل: 125.

(268) بحار الأنوار: ج21 ص140 ح3.

(269) سورة طه: 1.

(270) جواهر الكلام: ج21 ص333، دار الكتب الإسلامية.

(271) سورة آل عمران: 97.

(272) سورة الأنفال: 60.

(273) الحدائق الناضرة: ج9، ص424، جامعة المدرسين قم.

(274) وسائل الشيعة: ج2 ص883 باب 60 من أبواب الدفن ح1.

(275) سورة النساء: 54.

(276) سورة الجمعة: 2.

(277) انظر بحار الأنوار: ج33 ص486 ب29، وشرح النهج: ج17 ص147.

(278) سورة فصلت: 34.

(279) غرر الحكم ودرر الكلم المفهرس: ص262 ح30.

(280) سورة فصلت: 34.

(281) سورة البقرة: 208.

(282) مستدرك الوسائل: ج11 ص187، مؤسسة آل البيت * لإحياء التراث.

(283) سورة الأعراف:

157.

(284) نهج البلاغة: قصار الحكم 307.

(285) بحار الأنوار: ج31 ص383.

(286) سورة النساء: 142.

(287) سورة الأنعام: 123.

(288) سورة آل عمران: 54.

(289) سورة الشورى: 38.

(290) سورة البقرة: 143.

(291) سورة آل عمران: 110.

(292) جواهر الكلام: ج21 ص167.

(293) مستند الشيعة، ج1 ص119، منشورات مكتبة المرعشي قم.

(294) سورة البقرة: 256.

(295) نهج البلاغة: الكتاب 47.

(296) سفينة البحار: ج2 ص657.

(297) سورة النازعات:24.

(298) سورة آل عمران: 144.

(299) سورة العنكبوت: 65.

(300) ولا يخفى الفرق بين الاستعداد للحرب ومباشرتها، فإن إشعال نار الحرب من أشد المحرمات ويكتفى فيها بأقصى الضرورات.

(301) سورة الأنفال: الآية 60.

(302) نهج البلاغة: الكتاب 31.

(303) سورة يوسف: 109.

(304) سورة الشورى: 38.

(305) الكافي: ج2 ص86 ح1.

(306) نهج البلاغة: قصار الحكم 176.

(307) سورة ص: 23.

(308) نهج البلاغة: قصار الحكم 241.

(309) راجع دعائم الإسلام: ج2 ص444 ح1552، وتهذيب الأحكام: ج10 ص148 ب18 ح587. وفيه: *عن أبي جعفر عليه السلام : إن أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبراً أن يضرب رجلا حداً، فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده علي عليه السلام من قنبر ثلاثة أسواط*.

(310) بحار الأنوار: ج21 ص140.

(311) غرر الحكم ودرر الكلم المفهرس ح30.

(312) وسائل الشيعة: ج8 ص413 باب 12 من أبواب أحكام العشرة ح2.

(313) سورة الأنعام: 108.

(314) سورة المؤمنون: 96.

(315) سورة النحل: 125.

(316) سورة البقرة: 208.

(317) سورة الأنفال: 61.

(318) نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2 ص185، دار المعرفة بيروت.

(319) راجع بحار الأنوار: ج37 ص48. وفيه: *إن أصلحت أمرك*.

(320) بحار الأنوار: ج62 ص237.

(321) سورة القصص: 4.

(322) سورة الدخان: 26.

(323) سورة المائدة: 48.

(324) سورة آل عمران: 133.

(325) سورة المطففين: 26.

(326) سورة الأعراف: 85.

(327) وسائل الشيعة: ج8 ص430.

(328) الكافي: ج1 ص67.

(329) وسائل الشيعة: ج18 ص65 ب8 من أبواب صفحات القاضي: ج50.

(330) بحار الأنوار: ج2 ص90

ح13.

(331) الكافي: ج1 ص27 ح29.

(332) سورة الإنسان: 8.

(333) سورة آل عمران: 110.

(334) سورة النصر.

(335) بحار الأنوار: ج20 ص21.

(336) انظر بحار الأنوار: ج20 ص21.

(337) انظر بحار الأنوار: ج16 ص230 ح35.

(338) بحار الأنوار: ج39 ص56. كشف الغمة: ج2 ص537.

(339) مستدرك الوسائل: ج7 ص32.

(340) بحار الأنوار: ج16 ص231 ح35.

(341) بحار الأنوار: ج16 ص239 ح35.

(342) بحار الأنوار: ج16 ص237 ح35.

(343) بحار الأنوار: ج16 ص256 ح36.

(344) سورة آل عمران: 159.

(345) سورة القلم: 4.

(346) بحار الأنوار: ج16 ص216 ح5.

(347) بحار الأنوار: ج16ص227ح34؛ مكارم الأخلاق: ص19.

(348) مكارم الأخلاق: ص22.

(349) بحار الأنوار: ج16 ص235 ح35.

(350) بحار الأنوار: ج16، 240.

(351) سورة فصلت: 34.

(352) بحار الأنوار: ج64 ص415.

(353) بحار الأنوار: ج39 ص70.

(354) مكارم الأخلاق: ص17.

(355) الكافي: ج2 ص119 ح6.

(356) وسائل الشيعة: ج 19 ص 96.

(357) بحار الأنوار: ج15ص401.

(358) مكارم الأخلاق: ص16.

(359) بحار الأنوار: ج16 ص215 ح2.

(360) انظر بحار الأنوار: ج16 ص224 ح25.

(361) مستدرك الوسائل: ج8 ص437.

(362) نهج البلاغة: الخطبة 160.

(363) نهج البلاغة: الكتاب53.

(364) مستدرك الوسائل: ج17 ص347.

(365) أي حكومة رسول الله صلي الله عليه و اله وأمير المؤمنين عليه السلام.

(366) انظر بحار الأنوار: ج32 ص7.

(367) نهج البلاغة: الخطبة 167.

(368) نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج1 ص181.

(369) نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج1 ص46.

(370) نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج2 ص222.

(371) نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج1 ص36.

(372) الغدير، للعلامة الأميني: ج10 ص123.

(373) مستدرك الوسائل: ج17 ص359.

(374) انظر بحار الأنوار: ج40 ص334.

(375) مستدرك الوسائل: ج16 ص295.

(376) وسائل الشيعة: ج11 ص87.

(377) الكافي: ج8 ص130.

(378) مستدرك الوسائل: ج12 ص337.

(379) بحار الأنوار: ج41 ص29.

(380) مستدرك الوسائل: ج2 ص474.

(381) سورة المؤمنون: 96.

(382) بحار الأنوار: ج41 ص49.

(383) مستدرك الوسائل: ج3 ص272.

(384) بحار الأنوار: ج41 ص43.

(385) بحار الأنوار: ج40 ص324.

(386) الكافي: ج8

ص130.

(387) بحار الأنوار: ج40 ص325.

(388) بحار الأنوار: ج40 ص325.

(389) مستدرك الوسائل: ج16 ص298.

(390) ديوان الإمام علي عليه السلام : ص482.

(391) بحار الأنوار: ج36 ص324.

(392) بحار الأنوار: ج41 ص147.

(393) بحار الأنوار: ج41 ص148.

(394) بحار الأنوار: ج41 ص148.

(395) مستدرك الوسائل: ج16 ص328.

(396) الكافي: ج5 ص86.

(397) بحار الأنوار: ج41 ص54.

(398) بحار الأنوار: ج41 ص54.

(399) بحار الأنوار: ج41 ص54.

(400) بحار الأنوار: ج41 ص54.

(401) بحار الأنوار: ج41 ص49.

(402) نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج4 ص99.

(403) سورة الزمر: 65.

(404) سورة الأعراف:204.

(405) سورة الروم: 60.

(406) وسائل الشيعة: ج5 ص430.

(407) بحار الأنوار: ج41 ص48.

(408) بحار الأنوار: ج41 ص145.

(409) بحار الأنوار: ج41 ص145.

(410) بحار الأنوار: ج41 ص32.

(411) بحار الأنوار: ج41 ص32.

(412) وسائل الشيعة: ج12 ص22.

(413) بحار الأنوار: ج41 ص144.

(414) سورة الأعراف: 85.

(415) بحار الأنوار: ج41 ص119.

(416) الكافي: ج3 ص537.

(417) نهج البلاغة: الكتاب47.

(418) نهج البلاغة: الكتاب47.

(419) نهج البلاغة: الكتاب47.

(420) بحار الأنوار: ج37 ص162.

(421) الكافي: ج7، 413.

(422) بحار الأنوار: ج97 ص291.

(423) فإن الرسول صلي الله عليه و اله لم يمنع الماء عن يهود خيبر المحاربين له.

(424) بحار الأنوار: ج33 ص47.

(425) نهج البلاغة: الخطبة 224.

(426) نهج البلاغة: الخطبة224.

(427) العرب كانوا مثال الشجاعة في ذلك اليوم.

(428) أي إلى طريق الحق.

(429) سورة المجادلة: 22.

(430) نهج البلاغة: الكتاب 45.

(431) بحار الأنوار: ج33 ص275-276 ب20 ح538.

(432) الاختصاص: ص 245.

(433) سورة محمد: 7.

(434) سورة آل عمران: 160.

(435) في المستدرك ج13 ص142: عن علي (صلوات الله عليه) أنه ذكر عهد رسول الله صلي الله عليه و اله قال الذي حدّثناه: أراه من كلام علي عليه السلام، إلا أنّا رويناه أنه رفعه فقال: عهد رسول الله صلي الله عليه و اله عهداً كان فيه بعد كلام ذكره، ثم قال صلوات الله عليه... إلخ.

(436)

الأخدان: جمع خدن وهو الصديق.

(437) مستدرك الوسائل: ج13 ص142.

(438) السؤر: بقية الشيء.

(439) في الطبعة الحجرية: سخاء، وما أثبتناه من المصدر.

(440) مستدرك الوسائل: ج13 ص144.

(441) مستدرك الوسائل: ج13 ص146.

(442) مستدرك الوسائل: ج13 ص149.

(443) مستدرك الوسائل: ج13 ص149-151.

(444) أشلى الكلب على الصيد: أغراه به ودعاه إليه وأطمعه به وحثه عليه، (لسان العرب: ج14 ص443).

(445) مستدرك الوسائل: ج13 ص151-152.

(446) مستدرك الوسائل: ج13 ص152-153.

(447) الجمام: الراحة، (لسان العرب: ج12 ص154).

(448) مستدرك الوسائل: ج13 ص153-156.

(449) مستدرك الوسائل: ج13 ص156-157.

(450) مستدرك الوسائل: ج13 ص157.

(451) مستدرك الوسائل: ج13 ص158.

(452) مستدرك الوسائل: ج13 ص158.

(453) مستدرك الوسائل: ج13 ص159-160.

(454) أي إذا كان لابد فكفارته ذلك.

(455) سورة التوبة: 34.

(456) فإن الذنب ثقله كالجبال، والمراد الذنوب الشخصية.

(457) هذه صفات المؤمنين المجاهدين.

(458) المراد أن المؤمن يلزم عليه أن لا يهتم بتلك في سبيل الله.

(459) سورة النور: 19.

(460) وسائل الشيعة: ج17 ص 207-212 ب 49 ح22354.

(461) بحار الأنوار: ج41 ص120 ب107 ح28.

(462) نهج البلاغة: الكتاب45.

(463) نهج البلاغة، الخطب: 56 ومن كلام له عليه السلام يصف أصحاب رسول الله صلي الله عليه و اله يوم صفين حين أمر الناس بالصلح.

(464) سورة القصص: 4.

(465) سورة القصص: 4.

(466) سورة الأنبياء: 92.

(467) انظر نهج البلاغة: الكتب: 53. ومن كتاب له عليه السلام للأشتر النخعي.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.